منذ لحظة ولادتها، كان واضحا أن (فايوليت جيسوب) كانت إنسانة قوية لا تستسلم بسهولة، فقد كان لها تسعة أشقاء لم ينج منهم من مرحلة الطفولة إلا ستة كانت هي أولهم، وعندما كانت مجرد طفلة صغيرة أصيبت بمرض السل القاتل، حيث قال الأطباء أن حالتها مستعصية ولا يمكن النجاة منها، لكنها أثبتت أنهم كانوا على خطأ ونجت منه بالفعل.
لذا، لا يجب أن يصدم أي كان لدى معرفته بأنها نجت من أشهر كوارث المحيط على الإطلاق، وهي غرق سفينة التايتانك العملاقة.
أما ما قد يكون مثيرا للاهتمام والدهشة أكثر في الواقع، فهو أنها -إلى جانب نجاتها من غرق التايتانيك- كانت قد نجت من حادثة اصطدام سفينتين، وحادثة غرق سفينة واحدة من نفس فئة وحجم سفينة التايتانيك الشهيرة، وهي سفينة المستشفى العائم الـ(بريتانيك).
كانت بداية القرن العشرين كارثية بالنسبة لخطوط النجمة البيضاء البحرية The White Star Line، لكنها على الظاهر لم تكن كذلك بالنسبة لـ(فايوليت جوسيب)، ففي سنة 1910، وبعد العمل كمضيفة لدى خط (البريد الملكي) البحري لمدة سنتين، شغلت (جيسوب) وظيفة على متن السفينة التجارية العملاقة الـ(أوليمبيك).
كانت الـ(أوليمبيك) سفينة فاخرة تقدم خدمات لا يتحمل تكاليفها إلا الأغنياء وذوي النفوذ، وكانت أكبر سفينة تجارية آنذاك، وفي خريف سنة 1911، غادرت الـ(أوليمبيك) الميناء في (ساوثهامبتون) واصطدمت ببارجة حربية بريطانية، وهي سفينة الـ(هاوك).
لم تسفر الحادثة عن أية قتلى على الرغم من الضرر البليغ الذي أحدثته، إلا أن السفينة تمكنت من العودة بسلام إلى الميناء دون أن تغرق.
بعد تجربتها هذه التي أوشكت فيها على الهلاك غرقا، كان الجميع ليتوقع أن تتخلى (جيسوب) عن وظيفتها على متن السفن التجارية العابرة للمحيطات، غير أنها بعد سبعة أشهر فقط من تلك الحادثة، عادت إلى العمل مع خطوط النجمة البيضاء البحرية، وهذه المرة على ما كان يروّج له على أنه سفينة منيعة من الغرق، إنها سفينة الـ(تايتانيك).
صعدت (جيسوب) على متن سفينة التايتانيك لتشغل منصب مضيفة قبل أربعة أيام فقط من اصطدام السفينة الشهير بالجبل الجليدي، وذكرت في مذكراتها بأنها أٌمرت بأن تصعد إلى سطح السفينة لتكون مثالا يحتذى به في الإنضباط وتمالك النفس زمن الكارثة، كما أٌصدرت إليها تعليمات بأن توضح لغير الناطقين بالإنجليزية كيفية التصرف، حيث لم يكن بوسعهم فهم التعليمات الموجهة إليهم شفويا.
كتبت في مذكراتها: ”أٌمرت بالصعود إلى سطح السفينة“، وأضافت: ”كان المسافرون يتنقلون على السطح روحة وجيئة، لكنني وبعض المضيفات الأخريات وقفنا ثابتات، كنا نشاهد النساء الأخريات من المسافرات بينما كن يعانقن أزواجهن قبل وضعهن داخل قوارب النجاة مع أطفالهن، وبعد مدة من الوقت أمرنا أحد ضباط السفينة بالصعود على متن أحد قوارب النجاة الذي حمل رقم 16، لنظهر للنساء الأخريات أنه كان آمنا للغاية، حيث كن قد رفضن الصعود على متنه بداعي الخوف“.
شاهدت (جيسوب) كذلك كيف كانت تتم تعبئة قوارب النجاة، وفي نهاية المطاف تمكنت من الصعود على متن واحد منها، وبعد أن قضت ليلة متجمدة كاملة على متن أحد هذه القوارب، تم إنقاذ (جيسوب) والناجون الآخرون على يد السفينة التجارية (كارباثيا).
ومرة أخرى، وعلى الرغم من كونها شهدت مأساة غرق التايتانيك في عرض المحيط التي بقيت في ذاكرة التاريخ لشدة هولها، وتمضيتها ليلة كاملة في المياه المتجمدة على متن أحد قوارب النجاة، واصلت (جيسوب) مهنتها كمضيفة على متن الخطوط البحرية التجارية العابرة للمحيطات.
في سنة 1916، وخلال الحرب العالمية الأولى، عمدت خطوط النجمة البيضاء البحرية إلى تحويل بعض سفنها إلى مستشفيات عائمة، وكانت إحدى هذه المستشفيات العائمة سفينة الـ(بريتانيك) لخدمة الصحة العسكرية والإنسانية، التي عملت على متنها (جيسوب) كمضيفة لفائدة الصليب الأحمر البريطاني.
في صباح يوم الواحد والعشرين من شهر نوفمبر من نفس السنة، غرقت سفينة الـ(بريتانيك) في بحر (إيجه)، بفعل انفجار غامض. إلى يومنا هذا لم يفصل الباحثون والمحققون في السبب الفعلي وراء ذلك الانفجار، على الرغم من أن السلطات البريطانية اعتقدت أنه قد يكون راجعا لضربة طوربيد أو نتيجة اصطدام السفينة بلغم بحري تكون قد زرعته القوات الألمانية هناك.
وصفت (فايوليت جيسوب) مشهد مشاهدة سفينة الـ(بريتانيك) تغرق من على متن قارب النجاة الذي كانت فيه: ”غمست مفخرة عالم الطب البحري البيضاء رأسها قليلا في المحيط، ثم انخفضت أكثر، ثم أكثر، وكان كل العتاد المتواجد على السطح يسقط في البحر مثل مجموعة ألعاب طفل صغير، ثم غاصت السفينة فجأة، وكانت مؤخرتها ترتفع لمئات الأمتار في السماء، ثم وبهدير أخير، اختفت في أعماق المحيط.“
استغرق غرق سفينة الـ(بريتانيك) حوالي 57 دقيقة فقط، وأسفرت عن مقتل 30 شخصا وكادت تودي بحياة (جيسوب) كذلك، وعندما كانت السفينة تغرق وتغوص في المياه، كانت شفرات محركها لا تزال تدور مما تسبب في سحب قوارب النجاة القريبة إليها نحوها، قفزت (جيسوب) من قارب النجاة الذي كانت فيه وسبحت بعيدا لكنها تلقت إصابة بليغة على مستوى الرأس في خضم ذلك.
كتبت في يومياتها واصفة الحادثة: ”قفزت إلى المياه لكنني سٌحبت تحت عارضة السفينة واصطدم رأسي بها“، وتابعت: ”لقد نجوت بأعجوبة، لكن بعد سنوات لاحقة عندما قصدت طبيبي بسبب الصداع الكبير الذي كان يؤرقني، اكتشف أنني أصبت في يوم من الأيام بتشقق على مستوى الجمجمة“.
بعد نجاتها من حادثة اصطدام سفينتين أوشكت على الغرق، وغرق سفينتين تجاريتين كبيرتين في عرض البحار، توقع الكثيرون أن تتقاعد (فايوليت جيسوب) من عملها في البحار، غير أنها بعد توقف وجيز عادت إلى العمل لصالح خطوط النجمة البيضاء البحرية في سنة 1920، وثم لاحقا لصالح خطوط النجمة الحمراء.
وخلال آخر سنوات عملها في البحر، كانت (جيسوب) قد حققت رحلتين بحريتين حول العالم وزواجا لم يدم طويلا قبل أن تتقاعد لتكمل بقية أيام حياتها في (سوفولك)، حيث وافتها المنية هناك عن عمر ناهز الثلاثة والثمانين عاما.
المصدر: موقع all that is interesting