طاف كثيرا وارتحل فمرّ بالدولة العباسية والدولة السامانية والدولة البويهية وغيرها.. تعرف على الرحّالة العربي شمس الدين المقدسي أحد أعلام الجغرافيا في زمانه
لم تختلف سبل التنقل البري كثيرا قبل ألف عام عن ما كانت عليه قبل ألفي عام أو ثلاثة آلاف، فقد كانت الدواب الوسيلة الوحيدة التي يستعين بها البشر كي يقطعوا آلافا من الأميال جائبين الأرض ومرتحلين من مكان إلى آخر، وأيما عناء هو السفر كان، فقد جاءنا في أدب الرحلات ما يصف حجم المشقة والمعاناة والأخطار على لسان كثير من الرحالين العرب مثل ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي وغيرهما.
فعلى سبيل المثال كانت رحلة الناسك من بلاد الشام إلى المدينة المنورة فمكة المكرمة لقضاء مناسك الحج تستغرق خمسين يوما، كما يذكر المفكر محمد كرد علي في كتابه “التاريخ السياسي والمدني في القطر الشامي”.1
ولم يقتصر الأمر على مشقة السفر كونه يستغرق وقتا وجهدا، بل إن الأمر تجاوز ذلك بكثير، كوجود خطر قطاع الطرق أو استغلال الحمّالين والجمّالين -الذين يقودون القوافل ويعيرون جمالهم للمسافرين- كما ذكر لنا الرحّالة ابن جبير في رسالته: ولأهل عيذاب في الحُجّاج أحكام الطواغيت، وذلك أنهم يشحنون بهم الجلاب (المراكب) حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة.
فلم تكن رحلات الأقدمين تحمل أي سمة من الراحة إلا ما ندر، إلا أن ذلك لم يمنع من تَوّقته نفسُه أن يسير في الأرض مرتحلا ومستكشفا، يطلّع على ثقافات الغير وعلى آثارهم وأخبارهم، ومنهم من كان أديبا وكاتبا فدوّن ما خاضه في تجربته التي أفنى بها عمرا طويلا من حياته، ومنهم من حاول رسم خارطة للأرض بالاستعانة فقط بما شاهدته عيناه وأدركته حواسه وتصورته مخيلته، فكأنه قمر صناعي اليوم يرصد تضاريس الكوكب من الأعلى آنذاك، وهذا ما أبدع وأبهر به الرحّالة شمس الدين المقدسي، الذي لم ينل تقديرا مستحقا يضعه في مصاف العظماء عبر التاريخ.
بيت المقدس.. ميلاد ابن البنّاء وعاشق الترحال
وُلِد محمد بن أحمد شمس الدين المقدسي ببيت المقدس في فلسطين كما يتضح من الاسم، وذلك في عام 947 م، ونشأ بها وعمل وامتهن التجارة في عمر مبكر، وخوّل له ذلك أن يسافر كثيرا ويرتحل ساعيا نحو كسب الرزق، كما أن إتقانه للغة الفارسية التي اكتسبها من والدته كان له أثر بليغ في تردده نحو بلاد فارس في أثناء رحلاته.
وبجانب عمله في التجارة أبدى اهتماما بالعمران والبناء أيضا، فقد ورثه عن أبيه الذي كان يلقب بالبنّاء، وكذلك عن جده الذي كان واحدا من أمهر البنّائين وأحد مهندسي شوارع عكا وباني مينائها في عهد الأمير أحمد بن طولون (835-884 م) مؤسس الدولة الطولونية.3
إلا أن ذلك لم يكن هو ما يشغل باله، فقد كان منزعجا لأنه لا يرى اهتماما جغرافيا بخريطة العالم الإسلامي كما ينبغي، على الرغم من كثرة ترحال العرب والمسلمين في جميع مواسم السنة لغرض التجارة، وكذلك شدّ الرحال لإداء الفريضة في موسم الحج.
“أسست هذا الكتاب على قواعد محكمة.. “عصارة رحلة الأقاليم
لقد كانت غاية المقدسي من وراء عمله الجغرافي مغايرة عن أولئك الذين سبقوه، على الرغم من أنّ معالم الطرق الرئيسة واضحة ومسالكها بيّنة، مثل درب الحج الشامي الموجود منذ القدم، الذي كانت تسلكه القوافل المتجهة بين الشام ومكة المكرمة، كما هو الحال بالنسبة لطريق البخور الذي يربط شبه جزيرة العرب من جنوبها إلى شمالها، ومن شرقها إلى غربها، ثم تنتهي هذه الطرق نحو وصلة طرق عالمية أوسع مثل طريق الحرير وطريق البهارات اللذين يربطان شرقي آسيا بغربها.
أعرب المقدسي عن إحباطه وعزمه على أن يضع قواما جغرافيا متينا يهتم بالعالم الإسلامي، وأن لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويذكرها بناء على ما تشهد عليه حواسه فقط، وأما ما غابت عنه فإنه يتحرّى من كان أهلا للسؤال، فيقول عن سبب تأليفه لأشهر أعماله “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”: اعلم أني أسست هذا الكتاب على قواعد محكمة، وأسندته بدعائم قويّة وتحرّيت جهدي الصواب، واستعنت بفهم أولى الألباب، وسألت الله عزّ اسمه أن يجنّبنى الخطأ والزلل، ويبلغني الرجاء والأمل، فأعلى قواعده وأرصف بنيانه ما شاهدته وعقلته، وعرفته وعلّقته، وعليه رفعت البنيان وعملت الدعائم والأركان، ومن قواعده أيضا وأركانه، وما استعنت به على تبيانه، سؤال ذوى العقول من الناس، ومن لم أعرفهم بالغفلة والالتباس، عن الكور والأعمال في الأطراف التي بعدت عنها، ولم يتقدّر لي الوصول إليها، فما وقع عليه اتّفاقهم أثبته، وما اختلفوا فيه نبذته، وما لم يكن لي بدّ من الوصول إليه والوقوف عليه قصدته وما لم يقرّ في قلبي ولم يقبله عقلي أسندته إلى الذي ذكره أو قلت زعموا.4
فكان ذلك مدخلا لرحلة استغرقت عقدين من الترحال والتدوين والسرد.
أبو زيد البلخي.. منهج الرسم التخطيطي للخرائط
ينسب المقدسي طريقة عمله وكتابته إلى مدرسة البلخي للجغرافيين في بغداد، التي أسسها العالم الموسوعي أبو زيد البلخي (849-934م)، ومن الممكن ملاحظة ذلك جليا لمدى توافق أعمال المقدسي مع منتسبي هذه المدرسة.
وتتميز مدرسة البلخي عن غيرها من مدارس الجغرافيا في العالم الإسلامي بعدة نقاط ومزايا جليّة، أهمها أن الخرائط تكون أقرب للرسم التخطيطي (Schematic Maps)، أي أن الخريطة معنية فقط بترتيب وتوزيع المدن وبالطرق التي تربط بينها، دون التدقيق إلى حقيقة المسافات ومدى دقة المواقع على أرض الواقع، فيكون نموذجا مبسطا للحقيقة.
فنجد أن الخرائط قد تشمل خطوطا طولية وعرضية مستقيمة على امتداد الرسم تحدها أسماء مدن ومناطق، دون وجود تعرجات أو تغيرات للتضاريس، وبالتأكيد ذلك لا يطابق الحقيقة، إلا أنّ هذا النمط من التخطيط الجغرافي أثبت نجاعة كبيرة منذ نشأته، لبساطته وكفاءته في الإرشاد، وهو الأسلوب المعتمد اليوم في جلّ خرائط المواصلات العامة الحديثة في المدن، مثل محطات القطارات والمترو وغيره.
أبو القاسم الإصطخري.. سير حثيث على آثار رواد علم البلدان
بجانب تأثره بالبلخي، تأثر المقدسي بالعالم أبي القاسم الإصطخري، وهو أحد رواد علم البلدان وينتسب لذات المدرسة، ورغم فضلهما عليه فإن المقدسي لم يجد في نفسه حرجا في أن ينتقد أسلوبهما، وأن يوضح عيوب كل منهما العملية، فكانت أعمالهما مقتصرة على توجيه التجار والرحّالة دون غيرهما.
لقد أراد المقدسي أن يكون عمله شاملا كاملا لعموم الناس، بأن يضم كلّ مدينة إسلامية، فيشرح عنها ويستفيض حديثا بأخبارها ويصنفها وفق ما وضعه من معايير في التقسيم.
يقول المقدسي في هذا الصدد في مقدمة كتابه “أحسن التقاسيم”: فرأيت أن أقصد علما قد أغفلوه، وأنفرد بفنّ لم يذكروه إلا على الإخلال، وهو ذكر الأقاليم الإسلاميّة وما فيها من المفاوز والبحار، والبحيرات والأنهار، ووصف أمصارها المشهورة، ومدنها المذكورة، ومنازلها المسلوكة وطرقها المستعملة وعناصر العقاقير والآلات، ومعادن الحمل والتجارات، واختلاف أهل البلدان في كلامهم وأصواتهم وألسنتهم وألوانهم، ومذاهبهم ومكاييلهم وأوزانهم، وصروفهم وصفة طعامهم وشرابهم وثمارهم ومياههم، ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم، وما يحمل من عندهم وإليهم”.5
من الشام إلى السند.. رحلة الوقوف على أقاليم الدولة الإسلامية الممزقة
وكما كان مذهب روّاد مدرسة البلخي أن انصب جلّ تركيزهم على العالم الإسلامي على نحو الخصوص. فقد كان ذلك هو الحال أيضا بالنسبة للمقدسي الذي أبى أن يكتب أو يذكر شيئا لم تسقط عينه عليه، فانطلق من بلاد الشام وطاف المغرب العربي، ومكث في شبه الجزيرة العربية، وجال بالعراق، وذهب إلى إيران، حتى وصل إلى بلاد السند، لكنه لم يرحل إلى الأندلس قط، بل إنّه كتب عنها وفق شهادات معول عليها، وذلك منهاجه البحثي الذي اعتمده في تأصيل رحلته.
كثيرة تلك المحطات التي تستوقف القارئ عند تناوله أعمال شمس الدين المقدسي، فلا يخفي انبهاره بمستوى الوعي لدى الشعوب في كتاباته، بل يشرح موضحا حال أهل المناطق والمدن بتفصيل بليغ أقرب ما يكون إلى الحديث عن الأنثربولوجيا الاجتماعي في مصطلحات العلم الحديث، محاولا إيصال حال أهل المشرق إلى أهل المغرب والعكس صحيح، وكأنه معني بربط أقطار العالم الإسلامي تحت إيطار واحد.
وعند النظر إلى حال العالم الإسلامي آنذاك، نجده ممزقا ومشتتا ومنقسما، فنرى الخلافة في بغداد فقدت سيطرتها على ما دون العراق، ونرى ممالك تستقل بحكمها، ودولا تُقام على أساس مذهبي أو عرقي، وهو ما دفع الرحّالة المقدسي إلى بحثه عن مفهوم الوحدة الضائع.
“لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذت منه نصيبا”
لقد طاف المقدسي كثيرا وارتحل، وتنقل بين سلالات حاكمة متنازعة، فمرّ بالدولة العباسية والدولة السامانية والدولة البويهية وغيرها، فكانت خلاصة سعيه أن أُرشِد إلى مضمون الوحدة الثقافية لدى شعوب العالم الإسلامي.
ويصف المقدسي جزءا من تجربته الشخصية بإيجاز بقوله: وذلك لاختلاف البلدان التي حللتها وكثرة المواضع التي دخلتها، ثم إنه لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلّا وقد أخذت منه نصيبا غير الكدية وركوب الكبيرة فقد تفقّهت وتأدّبت، وتزهّدت وتعبّدت، وفقّهت وأدّبت، وخطبت على المنابر، وأذّنت على المنائر، وأممت في المساجد وذكّرت في الجوامع واختلفت إلى المدارس، ودعوت في المحافل وتكلمت في المجالس، وأكلت مع الصوفيّة الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد، ومع النواتي العصائد، وطردت في الليالي من المساجد، وسحت في البراري، وتهت في الصحاري.6
ولفطنته وحذاقته ووعيه وتجربته، ذاع صيته شيئا فشيئا، حتى أنه نزل منزل الأمراء ومرّ على بلاط الملوك، فلم يكن يرى ذلك يخدم مبحثه، إذ كان الاختلاط والاحتكاك بعامة الناس يعنيه أكثر ليقف على حالهم، فكان يتنكر كثيرا ويغيّر اسمه من حين إلى آخر.
وعلاوة على تلك الألقاب التي نالها بسبب تنقله من مكان إلى آخر، يقول المقدسي أنه دُعي بستة وثلاثين اسما، منها: مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي وخراساني وسلمي ومقرئ وفقيه وصوفي وولي وعابد وزاهد وسيّاح وورّاق ومجلّد وتاجر وعراقي وبغدادي وأستاذ ودانشومند وشيخ ونشاسته.7
رسم العالم الإسلامي.. خطة التقسيم العنقودي للبلدان
استطاع المقدسي بسبب كم المعلومات الهائل التي حصل عليها من وراء زياراته ومقابلاته ودراسته الميدانية أن يرسم توزيعا خاصا به للعالم الإسلامي، فتفرّد بمصطلحات اختص بها، واعتمد التقسيم العنقودي في فصل المناطق عن بعضها، فبدأ بالإقليم، وقسّمه إلى كور -وقد تحل محل المحافظات اليوم-، ثمّ جعل لكل كورة قَصَبة -أي عاصمة-، وكذلك جعل لها مدنا وقرى.
ثمّ إنه قسّم العالم الإسلامي إلى أربعة عشر إقليما، ستة منها فقط عربية وهي وفق سرده: جزيرة العرب ثم العراق ثم أقور ثم الشام ثم مصر ثم المغرب.8
“كيف الهواء في بيت المقدس؟”.. عاشق الوطن الطواف في الآفاق
لقد تغنى المقدسي بالقدس من خلف حصنها وأسوارها، باعتدال بردها وحرها وطيب هوائها، ومدح حجرها وبناءها، وأثنى على عفة أهلها ورغد نعيمها وحلو ثمراتها، ولم يثنه ترحاله وبعده عن أن يهيم بها مولعا بذكريات رافقته في طرق المدينة العتيقة وفي ديارها.
وقد غاب طويلا عن مدينته وعن أهله وأناسه وأشغلته الأسفار في رحلة استغرقت عشرين عاما يتنقل بها في أرجاء الأرض، رحّالة لم يشقِه عناء السفر، أشبه بسفينة تجري في عرض البحر، لا تهاب وحشة الظلام ولا الموج لحظة الالتطام، تمضي في سبيلها لا تقف ولا ترسو، وإنما ترجو مجدها المنشود.
ويذكر شمس الدين المقدسي أن سأله مرّة أحدهم كيف الهواء في بيت المقدس؟ فأجاب: سجسج لا حرّ ولا برد شديد، قال هذا صفة الجنّة، بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعفّ من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، عنبها خطير، وليس لمعنّقتها نظير، وفيها كلّ حاذق وطبيب، وإليها قلب كلّ لبيب، ولا تخلو كلّ يوم من غريب.
ثمّ إنهم سألوه: أيّ بلد أجلّ؟ قلتُ بلدنا، قيل فأيّها أطيب؟ قلتُ بلدنا، قيل فأيّها أفضل؟ قلت بلدنا، قيل فأيّها أحسن؟ قلت بلدنا، قيل فأيّها أكثر خيرات؟ قلت بلدنا، قيل فأيّها أكبر؟ قلت بلدنا.9
“أعظم الجغرافيين على مر العصور”.. شهادات المستشرقين
يقول المستشرق الإنجليزي “غاي لي سترينج” معقبا: يُعد وصفه لفلسطين -وخاصة القدس مدينته الأم- أحد أفضل أجزاء أعماله، فقد كان كل ما كتبه ثمرة ملاحظاته الخاصة، إذ تحمل نظرته وتصوره وتصويره للعادات والتقاليد في مختلف البلدان طابعا عقلانيا ذكيا ومتفهما، ومدعوما بمعرفة عميقة بالثقافة والشعوب على حد سواء.10
ختاما، يشير المستشرق الألماني “ألويس سبرينغر” -صاحب الفضل في تقديم أعمال شمس الدين المقدسي إلى الغرب- إلى أنّ البشاري المقدسي هو أعظم الجغرافيين على مر العصور.
ومن يدري، لعلّه كذلك.
المصدر: الجزيرة الوثائقية – مواقع إلكترونية