قُسنطينة أو سيرتا مدينة الصخر العتيق، تظهر بجسورها المعلقة بشكل متفرد وكأنها إحدى المدن الأسطورية، التي يحميها حرزها من الغزاة والمعتدين.
يصفها شاعرها محمد بن محمد العيد آل خليفة، فيقول:
بلد الهواء دعوك أم بلد الهوى
إني أراك لذا وذاك مجالا
قد ضمك الطود الأشم بصدره
وتعطف الوادي عليك ومالا
وجرى بجنبك ماؤه فكأنه
عافٍ يريد بجنبك استظلالا
وازدان سفحك واستطال كأنما
هو ذيل طاووس مشى مختالا
وعلت جسورك في الهواء فأوثقت
ما بين عدوتيك وصالا
بنيت المدينة على صخور عملاقة شاهقة الارتفاع جعلتها قلعة حصينة، وبسبب ارتفاعها بنيت فيها ثمانية جسور معلقة كل واحد منها يعود إلى حقبة زمنية من تاريخها، وهي مدينة العلم التي خرج من رحمها كثير من العلماء والشعراء والأدباء، وعلى أبوابها السبعة وقف رجالها يذودون عنها.
وفي الأسطورة، قسنطينة تملك حرزا يحميها، واحتضن ثراها حضارات وثقافات متعددة وبقيت على مدى العصور منارة علم يقصدها المريدون.
سماها الفرنسيون عش النسر، لأن موقعها ووادي الرمال الذي يحيط بها من جميع الجهات جعلها عصية على الغزاة، تقول الحفريات إن المدينة تحوي طبقات حضارية من الفترة النوميدية وحتى الإسلام.
يطوف بنا هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية ليؤرخ لمدينة قسنطينة، عابرا في تاريخها أجمعه منذ تأسيسها العائد إلى ما قبل الميلاد، وصولا إلى حال المدينة اليوم، ويوثق للحضارات التي تعاقبت عليها من الرومان والفتح الإسلامي الذي انتهى بإمارة الدولة العثمانية.
كما يعرّفنا على أهم الشخصيات التي أخرجتها المدينة من علماء وفقهاء، وما كان من شأنها في العصر الحديث، ووقوفها في وجه الاستعمار الفرنسي إلى جانب الثوار لينتهي الأمر بقسنطينة والجزائر أجمع إلى الاستقلال.
عاصمة النوميديين.. 34 قرنا من الحضارة
تقع المدينة في الشمال الشرقي للجزائر على حافة الصحراء، وكانت تقع في طريق القوافل والرحلات العلمية والدينية، مما جعلها تتفرد منذ فجر التاريخ الإنساني، ويرجح العلماء أن تاريخ نشأتها يعود لعام 1450 قبل الميلاد، غير أن تاريخها الأول حين عرفت باسم سيرتا وهي عاصمة الدولة النوميدية.
يقول المؤرخ د. عبد الحميد فيلالي إنها مدينة أزلية عريقة، وهي عاصمة الدولة النوميدية الممتدة من الحدود الغربية للجزائر وحتى خليج سرت في ليبيا.
وقد حملت الحضارة إليها من قبل القوافل، وكثيرة تلك الآثار التي دلت على تعاقب الحضارات عليها من النوميدين مرورا بالرومان والمسلمين وحتى الاستعمار الفرنسي، وكان للحقبة الرومانية الأثر البالغ في المدينة، وامتد تاريخهم فيها خمسة عشر قرنا، لكنهم دخلوا في حروب طاحنة فيما بينهم عام 313 ميلادي، فدمرت المدينة على إثره، وعندما جاء قسطنطين العظيم أعاد بناءها وسميت باسمه، وبقي تمثاله حاضرا فيها.
يقول المؤرخ علاوي عمارة: قسنطينة عبارة عن طبقات أثرية، فباب القنطرة على سبيل المثال يحوي آثارا نوميدية ورومانية وإسلامية وفرنسية وجزائرية معاصرة، ولما دخلها جيش عقبة بن نافع فاتحا غدت دولة مسلمة وارتقت وازدهرت، وكانت مركز إشعاع حضاري، ثم عرفت بعدها بمدينة العلم والعلماء، وفي أوقات الحج كانت البعثات القادمة من الأندلس وفاس وتلمسان تمر بها، وتبقى في المدينة لفترات زمنية، وربما استقر بعض من فيها مثل ابن خلدون الذي قدم إليها وتزوج ومكث فيه زمنا.
جامعة الأمير عبد القادر.. متحف قسنطينة العلمي
من الآثار الإسلامية الدالة على تلك المرحلة آلاف الكتب الموجودة في جامعة الأمير عبد القادر، وهي الترجمة الحقيقية للعصر الإسلامي في قسنطينة، وفيها عشرات المكتبات لعلماء المدينة الذين أوقفوا مكتباتهم وهي سنة معروفة في المدينة، وفيها عدد هائل من المخطوطات التاريخية التي تناولت مواضيع علمية متنوعة مكتوبة باللغة العربية، وقد طغت عليها كتب الفقه المالكي والمصاحف تليها الكتب العلمية بدرجات متفاوتة.
تقول المؤرخة فاطمة الزهراء قشي: كانت المدينة تُشد إلى شيوخها الرحال، وبقيت لهم آثار قيمة فيها، فابن الشيخ عبد الكريم الفكون ترك مجموعة من النوازل تضاهي 500 صفحة جمعت من ثمانين فقيها وعالما.
وفي الحقبة الإسلامية تدافع الباحثون من كل حدب وصوب قاصدين قسنطينة للنهل من العلوم، وهذا ما يفسر كثرة المدارس الشرعية فيها كما أن الكثير من عائلاتها عرفت بالعلم وتوارثته جيلا بعد جيل، وهناك أسر كثيرة عريقة في الوظيفة والمال والجاه والعلم فيها. ومن هذه العائلات عائلات قسنطينية اشتهرت بالعلم، وتوارثت المناصب الفقهية والقضائية منذ القرن السابع الهجري، وعائلة فقون التي كان منها الحسن بن فقون صاحب الرحلة والشعر، وكذلك عائلة ابن باديس وعائلة ابن القنفذ وبني عبد المؤمن، وقد ساهمت هذه العائلات في إيجاد فضاء علمي خرج العديد من الشخصيات العلمية.
كما تتحدث كتب الطبقات عن فئات العلماء والشعراء والقضاة الذين أسهموا في بناء حضارة قسنطينة والمغرب الأقصى وتونس، وقد ذهب بعضهم إلى الأندلس والبعض الآخر إلى الشرق والعراق والشام، ومنهم من استقر ومنهم من عاد وطبعت المدينة بالعلم والعلماء.
على مقربة من قسنطينة كان الأندلسيون على الأبواب، فدخلت سحب الأندلس بكامل ألَقها في قسنطينة ببيوتها وفن عمارتها وحضارتها وحلقات علمها، فأصبحت وريثة أندلس إلى يومنا هذا.
وفيها يُعقد كل سنة مهرجان علوم يسمى “سيرتا علوم” باسم المدينة القديم، وهو مهرجان مخصص لطلبة المدارس وفيه مسابقات كثيرة يسافر طلابه الفائزون إلى أنحاء العالم لزيارة معلم أو لقاء علماء.
عاصمة المالوف.. إرث الموشحات الأندلسية
يبرز هنا فن المالوف غذاء الروح، وهو أحد أهم الفنون في قسنطينة، ويأتي امتدادا للموشحات بشكلها الإشبيلي، إذ يجمع بين الشعر المنظوم وموشحات الأندلس، وقد استحدث القسنطييون هذا الفن وتناقلوه مشافهة لتصبح المدينة عاصمة المالوف في المغرب العربي.
يقول رئيس فرقة المالوف كمال بودا: هذا الفن العتيق تأتي تسميته من كلمة ألف تأليفا وهو فن التواشيح المعروف في قسنطينة، وحافظ عليه أهلها كموروث وكنز وفن عربي إسلامي أصيل.
ويرى الفنان سعيد مولود أن المالوف يُغنى في جميع مناسبات الأفراح، لأن مضامينه الشعرية تسكن النفس وتجعل المتلقي مستمتعا بالكلمات والألحان، وقد عاش ما يقرب من 500 عام، وهو فن متجدد بذاته لا يحتاج لأي مجهود ليتطور.
قسنطينة العثمانية
دخلت قسنطينة الدولة العثمانية في بدايات القرن السادس عشر طواعية ودون مقاومة، وسلمت مفاتيح المدينة للقائد العثماني وأصبحت عاصمة لما كان يعرف ببيلك الشرق أي المقاطعات الشرقية، في أول تقسيم إداري عرفته الجزائر.
وبقيت الدولة العثمانية فيها من عام 1535 إلى 1837 عندما احتلتها فرنسا أي أنها كانت ثلاثة قرون متتالية تدين للجزائر العثمانية، وخلال تلك الفترات لبست المدينة ثوبا عثمانيا، وتحولت لمركز تجاري وصناعي، وهناك العديد من الآثار العثمانية في قسنطينة، ومنها أكثر من 100 مسجد وزاوية، كما انتشرت المدارس والأسواق وشُقت الطرق ورفعت الجسور.
وشهد عهد صالح باي وهو أحد أهم الحكام العثمانيين فيها أوج الحضارة، وعاشت قسنطينة أيام ازدهارها في عهده وكان يشجع الحركات العلمية والمشاريع العمرانية، ومن أهم ما بُني فترة حكمه المدرسة الكتانية، وهي صرح علمي عظيم، وقد دفن صالح باي في ساحة المدرسة الخلفية وقد حزن أهل المدينة لفقده.
عند مسجد صالح باي فتحت الأسواق العثمانية، وبقيت حتى يومنا هذا منها سوق الجمعة أو سوق العصر، وقد أمر صالح باي بإصلاح جسر القنطرة الذي تعطل خمسة قرون وقام ببنائه 100 عامل استخدموا الحجارة الرومانية الموجودة، وهذا الجسر لوحة فنية أسطورية الجمال وكأنه مشهد في حكاية.
بيلك الشرق.. فرنسا على الأبواب
كانت المدينة مطمعا للغزاة والمحتلين، وخاصة فرنسا التي كانت تريدها بأي ثمن حالها حال الجزائر العاصمة التي سقطت في يد المستعمر عام 1830، فقد زحف الجيش الفرنسي باتجاه بيلك الشرق التي كانت للمحتل بالمرصاد فتهاوى على أعتابها وتمكن أهلها من الذود عنها بقيادة أحمد باي وهو آخر البايات العثمانيين، وعرف كقائد ومقاوم وكان بمستوى المصاعب التي واجهته كرجل دولة.
ففي عهده خفف الضرائب وجعلها في زكاة العُشر فقط، وأعاد تنظيم الجيش وأدخل الجيش المحلي بدل الإنكشاري، وبدأ عهده يحدث نقلة نوعية لولا الاحتلال الفرنسي، وما يزال قصره حاضرا كتحفة معمارية نادرة في أرض قسنطينة.
استمرت اقتحامات المدينة من قبل فرنسا سبعة أعوام متتالية، وفي عام 1837 هوت قسنطينة واحتلها المستعمرون وحلّ الموت في أرجائها فكأنما كانوا هم المغول يدخلون بغداد.
يقول الدكتور عبد الحميد فيلالي عن المقاومة: أسميتها ملحمة في كتابي، كانت المقاومة في كل بيت، وقد شارك في الاقتحام الجنرال الفرنسي “سانت آرنو” بنفسه، وهو الذي قال: “لم أجد مقاومة عسكرية مثل مقاومة أهل قسنطينة” حتى أصبحت أجسام الناس بلاطا يمشي الفرنسيون عليه في الشوارع.
هدم الجامع الكبير.. زعزعة النسيج العمراني
كان الاحتلال الفرنسي قاسيا وثقيلا على الجزائر ومنها قسنطينة، فقد قامت فرنسا وبطريقة ممنهجة بمسح الحضارة العربية والإسلامية فيها، وهدمت الكثير من مساجدها وزواياها ومدارسها وبيوتها التي لم تعد موجودة إلا في كتب التاريخ والمخطوطات.
ومع الوقت حولت المدينة لطابع أوروبي بعيدا عن هويتها العربية الإسلامية، يقول الدكتور علاوي عمارة: لم يبق من الجامع الكبير إلا قسم من قاعة الصلاة، وهدمت المأذنة وأزيل الصحن، وقد شقّت فرنسا مكانه الشارع الوطني أو ما يعرف بالطريق الجديد، وبقي الجامع فقط بالصور الفوتوغرافية وكان يشبه جامع الزيتونة والقيروان في النمط المعماري المغربي الممزوج بتأثيرات بيزنطية محلية، كما هو الحال في قبة الصخرة والجامع الأموي.
كما أنهم هدموا المنشآت التابعة للبايات مثل ثكنة الجيش الإنكشاري ودار الباي، وزعزعت النسيج العمراني، فضلا عن المساجد والدور والتي هدمت لغرض توسيع المدينة وإخضاعها للمخطط الجديد الذي سُنّ في عام 1844.
“جئنا لننقذ الجزائريين من إلههم”.. ثورة ابن باديس
بدأت المقاومة السياسية والثقافية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لأن فرنسا لم تكتفِ باحتلال الأرض، بل صادرت المساجد وحولتها لإسطبلات خيول ومحلات ومستشفيات ومساكن، وهذا يندرج على الزوايا والكتاتيب وطردت الجزائريين نحو الجبال والصحراء وغدا أهل قسنطينة غرباء في أرضهم، وقد حملت إليها بعثات تبشيريه شرسة فحاولت إحياء كنيسة أفريقيا الرومانية لتخلع عن قسنطينة قلبها فلا الإسلام دينها ولا العربية لغتها.
يقول المؤرخ عبد الكريم صفصاف: بدأت فرنسا باقتلاع جذور الثقافة العربية، وقضت على كل مقوماتها، ومنعت التعليم باللغة العربية في المدارس والجامعات، وركزت على قسنطينة لأنها منبع الحضارة العربية الإسلامية.
حوربت مدينة العلم والعلماء في دينها ولغتها فازداد إسلامها متانة ولغتها فصاحة، وظهر الشيخ عبد الحميد بن باديس في وجه فرنسا، وهو ابنها وسليل عائلة عريقة كان مجدد وباعث نهضة في الجزائر، فقد قام بتأسيس جمعية العلماء المسلمين.
يقول عبد الحميد ونيسي أحد طلابه: كان بن باديس شهما ومثقفا، أكمل دراسته في الزيتونة وزار القاهرة وذهب إلى مكة وأراد أن يستقر، لكنه عاد وبدأ مسيرته عام 1913، وقام بدور طلائعي ونفض الغبار عن الحضارة الإسلامية. وقد أُسست جمعية علماء المسلمين على أساس أنها جمعية دينية لإقامة الشعائر وكان ظاهرها جمعية خيرية، لكنها في الحقيقة سياسية نهضوية، فقد قاموا ببناء المدارس في كل أرجاء الجزائر، وكانت قوية في تعليم كل العلوم، وكان شعارهم الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا.
كان بن باديس رمزا للجزائريين في المقاومة والتصدي لانتشال البلاد من يد المغتصب من خلال إنشاء جيل مؤمن بعروبته ودينه، جيل سيشعل ثورة تعم الجزائر، وخلال ربع قرن من النضال استطاعت قسنطينة استرجاع حضارتها بفضل حركة العلماء وباعث نهضتها بن باديس.
قال الفرنسيون “جئنا لننقذ الجزائريين من إلههم ومن محمد وندخلهم في الديانة المسيحية”، لكن بن باديس كان لهم بالمرصاد، وعمل على إنقاذ الجزائر من خلال تعليم اللغة والدين ووضع خطة طويلة المدى لتغيير المجتمع استغرقت عشر سنوات وهو يدرّس ويعظ ويلقي المحاضرات ويتفقد المجتمع الجزائري، وهكذا استطاع إحياء اللغة والدين في المجتمع وتوعيته سياسيا.
“إن الثورة فاتحة الحياة”
اندلعت ثورة نوفمبر المجيدة عام 1945 وكانت قسنطينة في ركب الثورة وبؤرة المقاومة، لكن فرنسا كانت عنيفة ودموية وقتلت ما يزيد عن مليون، وسجنت الكثير لكنها رحلت في نهاية عام 1962 بفضل شجاعة أبناء الجزائر.
من بين المثقفين والأدباء إبان الثورة برز العديد من أبناء قسنطينة منهم الأديب كاتب ياسين الذي قاوم الاستعمار بطريقته، فهو ثوري وأديب وشاعر ومسرحي كان ملهما للثوار.
ومن الأعلام أيضا الشاعر مالك حداد الذي قال “لا حياة بلا حرية وإن الثورة فاتحة الحياة”. كذلك ظهر مالك بن نبي وهو أحد أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين ومن رواد النهضة الفكرية.
تلك هي عبقرية المكان وقد يكون للمكان وقعه في توجهات الناس ومسارات حياتهم، وهناك فضاءات تتفتق فيها الذهنيات وتسمح للإبداع أن ينمو ويزدهر كذلك هو حال قسنطينة مدينة العلم والعلماء، وهي محج ومشكاة التنوير في الغرب الإسلامي، على جسورها وقف راحلون لا يرحلون، وعلى أبوابها سُطرت حكايات من مجد وعز.
المصدر: الجزيرة الوثائقية – مواقع إلكترونية