طرابلس مدينة لبنانية ساحلية تقع على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهي مدينة تاريخية شهدت على عدة حضارات قديمة من الفينيقية إلى الإسلامية ثم الصليبية والمملوكية والعثمانية والإفرنج إلى أن استقلت في أربعينيات القرن الماضي، شعبها طيب وعمارتها عريقة، وتقف قلعة صانجيل مثل حارس للمدينة، إذ تنتصب أسوارها شامخة شاهدة على عراقة المدينة وإرثها التاريخي المؤثل.
طرابلس الفيحاء مدينة العلم والعلماء، كانت موضوع فيلم عرضته قناة الجزيرة الوثائقية، ضمن سلسلة “قلب مدينة”، وأعده الفنان الطرابلسي عادل حيدر من خلال جولة على معالم المدينة، رافقته فيها جمانة شهّال، مؤسِّسة جمعية تراث طرابلس، وهي دكتورة تعيش في باريس، ويدفعها الحنين لزيارة مدينتها الأم بشكل متكرر.
“كلهم يذهبون وأنا وأنتِ باقون”.. أبو علي يناجي طرابلس
يخترق المدينةَ نهر “أبو علي” منذ غابر الزمان، يحادثها ويمازحها ويهمس في أذنها كلما غابت عنها حضارة، يقول لها: “كلهم يذهبون، ونبقى أنا وأنتِ فقط”. ويقف شامخا على ثراها أكثر من 160 مَعلما تاريخيا من العصر المملوكي والعثماني، وتعد مقصدا هاما للسائح الأجنبي لدى زيارة المدينة.
عند سكة الحديد التي يجهلها الكثيرون، كانت أول محطة لنا في رحلتنا عبر تاريخ طرابلس القديم، في جوّ ماطر مفعم بالحميمية لهذه المدينة الأم. كانت جمانة قد زارت هذا المكان قبل عام وأظهرته للإعلام اللبناني ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد جنت ثمار جهدها هذا العام بحضور 15 ألف زائر في عطلة نهاية أسبوع واحدة بعد أكثر من 40 سنة على هجران هذه المحطة، فسيارات المرسيدس الألمانية المصنوعة منذ 1902 هذه لو كانت في أي بلد آخر لأصبحت متحفا ومزارا.
معالم في المدينة العريقة
ومن “برج السباع” أهم معالم المدينة رافقنا رجل الأعمال عبد المنعم مرحبا لنتفق جميعنا على إقامة عمل فني يمثل تراث المدينة، ثم انضم إلينا الدكتور جان توما أحد الوجوه الطرابلسية المعروفة بشغفها بتاريخ المدينة، فهو متخصص بتاريخ مدينة المينا (الواجهة البحرية لمدينة طرابلس)، وكذلك تاريخ السوق القديم الذي يعتبر محج الزوار والسائحين بالمنطقة.
في جولتنا في السوق القديم التقينا السيدة أم نقولا التي تعتبر تجسيدا للتسامح والتعايش بين الإسلام والمسيحية في طرابلس، تسكن أم نقولا في حارة كلها مسلمون، وتقول: “لم أحس بالغربة أبدا، أنا بين أهلي، وجارتي التي ربَّت أولادي مسلمة”، وتحضرنا في الجلسة جارتها المسلمة أم محمد، ويدور بيننا حديث ممتع عن أمّنا طرابلس.
“أعطني كتفك يا جار”.. عنوان للتعايش والتعاون
يشير الدكتور توما إلى قنطرة قديمة قائلا: هذه القنطرة التي نجلس تحتها الآن تبدو من الطراز الإفرنجي، بنيت قبل العهد العثماني منذ أكثر من 800 عام، بينما تميزت عمارة الأتراك بالشرفات التي تُحمل على الخشب، مثل المباني في شارع البريد.
ويتابع: هذه القنطرة اسمها “أعطني كتفك يا جار”، فهي ترتكز على دارين لجيران بينهما ممر ضيق، فيستعير الجار حافة بيت جاره حتى يبني غرفة يسكن فيها ابنه المتزوج حديثا، وهذا مثال على التعاون والتكافل بين الجيران.
ترافقنا في الجولة أيضا هلا مراد، وهي إعلامية طرابلسية تعيش في دبي، وتهتم بإبراز معالم الجمال والتاريخ في مدينتها على مواقع التواصل الاجتماعي، تخبرنا هلا عن منطقة المينا التي تعتبر طرابلس القديمة، أما طرابلس الجديدة فهي طرابلس النهرية، وظهرت بعد عام 1289.
الخط العربي.. دروس في الجامعة
ونلتقي في جولتنا بعَلَم آخر من رجالات طرابلس وهو الدكتور جمال نجا أستاذ الخط العربي بالجامعة اللبنانية، وهو أول من أدخل منهاج الخط العربي في الجامعة، زرناه في متحفه في طرابلس المينا، وقد برع الدكتور نجا في استخدام الحرف العربي العريق في لوحات الفن التشكيلي الحديث، مما زاد لوحاته إبداعا فوق الإبداع.
تحملنا الكاميرا إلى فندق قديم يعمل منذ 1872 ومالكه جرجس عيد لبّان، وعلى بابه الخارجي مطرقتان معدنيتان بحجمين مختلفين، الكبيرة يطرقها الرجال حتى يفتح لهم رجل من الداخل، والصغيرة للنساء. هذه هي الحشمة واحترام الحرمات في الشرق القديم، لا فرق فيها بين مسيحي ومسلم أو عربي وتركي.
مغارة مار جرجس.. تمازج المسلمين والمسيحيين
يتحدث إلينا الدكتور توما بينما ننزل على سلّم حجري قديم إلى مغارة مار جرجس قائلا: في طرابلس يشترك المسلمون والمسيحيون حتى في الأسماء، عمر وزياد وحسن وحسين وعثمان يتسمى بها المسيحيون مثل المسلمين، وهذه المغارة هي تجويف صخري عتيق يقع تحت كاتدرائية القديس جاورجيوس التي شيدت في 1732، في هذه المغارة يقدم الطرابلسيون نذورهم وصلواتهم على اختلاف طوائفهم.
يحكي لنا الأب غريغوريوس موسى كاهن الكاتدرائية في المغارة عن التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وكيف أنه يهب كل طاقاته وإمكانياته لخدمة رعاياه من مسلمين ومسيحيين على حد سواء.
نحن الآن بساحة الرمل، حيث كان المماليك يمارسون لعبة هي أشبه ما تكون بلعبة الغولف اليوم، وتأتي أهمية طرابلس القديمة أنها كانت ثاني أشهر مدينة مملوكية بعد القاهرة، حيث تتميز بمساجدها ومدارسها وحماماتها وخاناتها، ومن أشهرها خان الخياطين، ثم تحولت هذه المنطقة زمن العثمانيين إلى وسط المدينة الإداري.
وينضم إلينا كذلك الدكتور خالد تدمري المتخصص في التراث العثماني، ويشير إلى مسرح الأنجا الذي غنت فيه أم كلثوم وزاره محمد عبد الوهاب وشهد مسرحيات عديدة تندد بالاستعمار الفرنسي، وقد تهدّم منذ فترة قصيرة للأسف.
ويقابله “أوتيل رويال” أول فندق في طرابلس، وأعيد ترميمه حديثا، وقد جمع خالد صورا أرشيفية للمدينة من كافة أنحاء العالم، من تركيا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا، بعضها من الأرشيف الخاص للسلطان العثماني في قصر يلدز، ووضعها في مبنى البلدية.
“المسجد المنصوري الكبير”.. معالم يتباهى بها الزمان
كانت هنالك صور تمثل اهتمام الدولة العثمانية بطرابلس، حيث افتتح أول خط ترامواي (قطار) على مستوى بلاد الشام بين طرابلس والمينا، وصور أخرى للتكية المولوية 1619 حيث الطقوس الصوفية على الطريقة المولوية، وتقع بين قلعة طرابلس ونهر أبو علي، يأوي إليها الجائعون والمشردون، ويتلقون فيها بالطعام ويعلمون الصلاة وأصول الطريقة.
ثم يشير الدكتور تدمري إلى صورة تمثل أشهر مساجد طرابلس “المسجد المنصوري الكبير” الذي يتوسط سوق العطارين وسوق الذهب، وهنا تعقِّب الإعلامية مراد وتقول إنها أخرجت للإعلام برنامج “كزدورة وصورة” الذي يسلط الضوء على أهم المعالم التراثية والتاريخية في طرابلس، ومن أجل تسويقها للإعلام ومواقع التواصل كنوع من رد الجميل لمدينتنا العريقة.
“خان العسكر”.. حضن طرابلس الدافئ للاجئين
ثم زرنا “خان العسكر” ذلك المعلم الشاهد على كثير من المواقف الإنسانية التي مرت بها المدينة، فقد استقبل اللاجئين الفلسطينيين في 1948 بعد احتلال فلسطين من قبل الصهاينة، وفي 1952 استقبل المنكوبين جراء نكبة طوفان نهر أبو علي.
وقد تغير اسم هذا المكان عدة مرات خلال تاريخه، فكان يسمى “خان الدبّاغة”، ثم سمي “خان الحرير”، حيث اشتهرت طرابلس بصناعة الحرير وتصديره إلى فرنسا، وفي العهد المملوكي أخذ اسمه خان العسكر، وذلك منذ 700 سنة من الآن.
نقش النحاس.. حرف طرابلسية أصيلة
لا يفوتنا في هذه الجولة أن نعرض لبعض صناعات أهل طرابلس التقليدية التي قاومت الزمن وأبت الاندثار، مثل النقش على النحاس، حيث عائلة طرطوسي التي أبدعت في هذه الصنعة، وتوارثتها كابرا عن كابر للرجال والإناث، إلى جانب حرفة صناعة مراكب الصيد التي يحرص عليها أبو محمد، وسوف يورثها لأولاده وأحفاده، ثم “المصبنة” حيث صناعة الصابون التقليدي.
مشروع “تراثي تراثك”.. جمعية تراث طرابلس
برزت عدة جمعيات تهدف إلى حماية تراث طرابلس، من أهمها “جمعية تراث طرابلس لبنان”، وأهم أهدافها الحفاظ على التراث وإظهاره للمجتمع والعالم، وذلك من خلال مشروع أطلق عليه: “تراثي تراثك”، وقد قام شباب هذه الجمعية بزيارة “قصر كرامي” الشهير، باعتباره نموذج البيت الطرابلسي العثماني القديم، وهو تحفة معمارية رائعة، حيث قاموا بتصوير معالمه الداخلية والخارجية من أجل إدراجها في المناهج التي توزع سنويا على المدارس.
ولا يفوتنا في هذه الجولة زيارة “بيت الفن” بمدينة المينا، وقد شيّده آخر ملوك الصليبيين في القرن الثاني عشر، ويعتبر من أهم المراكز الثقافية بطرابلس، وقد رُمم مؤخرا بمبادرة من جمعية العزم والسعادة، ويُعدّ صرحا ثقافيا يستضيف أنشطة متنوعة من الموسيقى والغناء ومعارض الرسم.
ومن أشهر معالم طرابلس برج ساعة التل “الحميدية”، وهي من أهم المعالم العثمانية، وتشرف على منطقة التل، ويمكن الصعود إلى أعلى شرفة فيها من خلال سلّم داخلي عمره أكثر من 100 سنة، وقد اخترنا ساحة معرض “رشيد كرامي” الدولي، وهي ساحة واسعة جدا، لرسم صورة ثلاثية الأبعاد لبرج الساعة.
بلدية طرابلس.. احتفاء رسمي وشعبي برمضان
أجواء رمضان الروحانية في طرابلس لها نكهتها الخاصة، فتتزين شوارعها وأحياؤها بالزينة والفوانيس، وتنتشر على أرصفتها عصائر رمضان من الليمون والجلاب والخرنوب، ويستبشر أهلها ببركات شهر الصوم، وفي المساء يشنفون أسماعهم بطرب القدود والموشحات في سهرة رمضانية ماتعة من موقع المنشية تنظمها البلدية مجانا لسكان طرابلس للاحتفاء بالشهر الكريم.
ولا يفوت “جمعية آثار طرابلس” أن تحتفي برمضان على طريقتها، فيجتمع أعضاؤها بمقهى سوق حراج التاريخي في قلب المدينة المملوكية العثمانية، ويتبادلون الصور المتميزة في هذا الحي العتيق، وينشرونها على مواقع التواصل الإجتماعي المختلفة، ليلفتوا أنظار اللبنانيين والعالم أجمع إلى جمال مدينتهم الفاتنة.
كانت جولة معطرة بعبق الماضي، وكان من أهمّ ملامحها هذا الحماس والعزم الصادق عند أهل طرابلس على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم من أجل إبراز معالم مدينتهم، وجعلها حاضرة في أذهان أولادهم وأحفادهم وتقديمها للعالم بأبهى حلّة وأزهى وصف.
المصدر: الجزيرة الوثائقية