هي سيدة الأعالي، آتية من برج شهد العسل حين يتقطر من تينة ناضجة، هي زينة الدنيا في زمان عصرها، ملأت العالم بجمالها وشغلت الناس بأفكارها وطموحها المجنون، وتشوفت القلوب إلى رؤيتها مهما طال الوصال، هي هبة الشعر وهلال الشهر، وزهرة تتفتح بعطر الأمنيات.
ملكت قلوب الأمراء في زمانها، وصنعت من حياتها صهيل مجد لخيول بألف فارس وفرس، رفع لها سقف المهر في كل قبيلة، ففاق ألف بعير وما يزيد، هي صوت نسائي تردد في بلاد المغرب الأقصى، آتية من شرق المحبة والشرف الأصيل، هي الحسناء والفاتنة والبضة والقادرة على هلاك القلوب، مهما كان تاجها من اللؤلؤ والياقوت.
كأن شعراء المغرب الأقصى في مدحها تشبه زهرة الأقاحي، بيضاء كبيضة مكتنزة، كحبة قمح، في بياض عينيها حور، لها أريج المنى، حين تميل بوشاح الغرام، وبكفيها يتضوع عطر مضمخ بندى الأحلام. فهي كما وصف المحبوب الأعشى:
غَرّاءُ فَرعاء مصقولٌ عوارِضها
تمشي الهُوينى كما يمشي الوَجي الوحِل
كَأَن مشيتها مِن بيتِ جارتها
مرُّ السحابةِ لا رَيث وَلا عَجل.
ابنة نفزاوة.. فاتنة الأمراء التي هاجرت إلى أغمات
هي زينب بنت إسحاق النفزاوية، ولدت عام 464 الهجري الموافق لـ1072 الميلادي، وتعود جذورها إلى قبيلة نفزاوة الأمازيغية بأفريقيا التونسية، وهي تُعد من أشهر القبائل خلال العصور القديمة في منطقة شمال أفريقيا التي عاشت في بلدان المغرب.
والدها إسحاق الهواري من التجار الكبار والمشهورين في أفريقية (تونس)، كان صاحب رفعة ووجاهة ومن علية القوم، وبسبب الحروب الضروس التي اشتدت خلال تلك الفترة واستبداد قبائل بني هلال على شمال أفريقيا حين طُردوا من مصر خلال الحكم الفاطمي؛ فقد هاجر إلى منطقة أغمات (حاليا توجد بضواحي مراكش المغربية) بحثا عن أمان أولاده وعائلته وماله وتجارته.
تقول بعض الدراسات والأبحاث المهتمة بتاريخ المغرب القديم إن زينب النفزاوية كانت ذات حسن وجمال وثقافة عالمة، وكانت آية من آيات البهاء في زمانها، تغنى بها الشعراء وسحرت الألباب والأفئدة والأمراء.
شكّل الجمال الذي كانت تتمتع به الساحرة زينب حافزا قويا على بلوغ أعلى المراتب، بل إن كبار الأمراء في زمانها كانوا يتوددون للاقتراب منها أملا في الفوز بقلبها والعيش بقربها إن كان الحظ يسعفهم.
كما عاشت فاتنة العالم آنذاك وسط عائلة من أهل العلم والجاه والتجارة والسياسة، فكانت قريبة من الأمراء والأعيان، وهو ما مكنها من أن تتبوأ مكانة في المجتمع، وتكسب خبرة في مجال السياسة والحكمة والفلسفة والثقافة والحساب وتدبير أمور الحياة والمجتمعات.
مراكش.. امرأة أسست عاصمة سلاطين المرابطين
كان لزينب النفزاوية ذات الهمة العالية والشأن العظيم في مجتمع الزناتيين طموح كبير للوصول إلى أشهر القصور آنذاك، وأحلام فاقت الحدود، فقد وصل صيتها حتى قبائل صنهاجة ولمتونة والمصامدة وغيرهم.
ومن أعظم ما سجل التاريخ لهذه المرأة التي فاقت الرجال في الحكمة والنباهة والرؤية المستقبلية أنها كانت أول امرأة في شمال أفريقيا تأتي بفكرة بناء مدينة مراكش التي تعني “مُرّ وكِشّ”، بمعنى مرّ بسرعة، لأن بوابة الصحراء كانت في تلك الفترة قوية تهابها مختلف قبائل شمال أفريقيا، نظرا لصلابة سكانها وعظمة سلاطينها.
بهذا التحدي اللطيف كانت زينب مراكش التي ستصبح فيما بعد من أجمل مدن العالم، يتوافد عليها السياح من مختلف أنحاء المعمورة لزيارة مواقعها الأثرية، ولعل من أبرزها ساحة جامع الفنا، وضريح زوجها السابق يوسف بن تاشفين، وشاعر أغمات الشهير ملك إشبيلية الأندلسية المعتمد بن عباد رحمه الله.
كانت زينب-كما أسلفنا- وراء فكرة تأسيس مدينة مراكش في البداية على يد زوجها الأول أبي بكر بن عمر اللمتوني أمير الصحراء، ثم زوجها الثاني يوسف بن تاشفين، وهو سلطان الدولة المرابطية الذي جعل مراكش عاصمة لملكه.
زوجة الملوك والأمراء.. حكمة يلين بحضرتها أقوى الرجال
بهذه النباهة في العقل والسداد في الحكم والبصيرة في السياسة والمشورة، والحظوة الرفيعة التي مُنحت لسيدة الأعالي؛ أصبح لمراكش صيت كبير يرافق ذكر بطولاتها وأمجادها وانتصاراتها، مجد ألقت عليه زينب من سحرها، وحلّت بأرضها وفي ركابها كل الخير والمجد والسؤدد والصولجان.
لعل ذكر اسم زينب النفزاوية في تلك الحقبة أصبح شامخا فاق شهرة القياصرة، وزنوبيا ملكة تدمر، لما كانت تمثله مدينة مراكش في زمن الإمبراطورية المرابطية من دور كبير على المستوى السياسي والسلطوي في شمال أفريقيا.
لُقبّت زينب النفزاوية بزوجة الملوك والأمراء، فقد كانت صاحبة جمال ساحر وفتنة أخّاذة جعلت الرجال يتنافسون للاقتراب منها، والظفر برطب وجدانها، لكنها كانت طموحة إلى أبعد الجدود، ولا تقبل من الرجال إلا الأقوياء والأمراء والملوك.
تُشير بعض الدراسات إلى أن زينب في البداية قبلت بزواج أحد الحكام الكبار بمنطقة أغمات التي حلّت بها رفقة والدها الهارب من بطش الفاطميين، ثم تزوجت من بعده بأمير أغمات المسمى لقوط المغراوي، ثم تزوجت بأمير الصحراء في ذلك الوقت أبي بكر بن عمر اللمتوني، لتتزوج ابن عمه فيما بعد السلطان بوسف بن تاشفين المؤسس الحقيقي لمدينة مراكش.
ولأن زينب النفزاوية كانت قوية تلين في حضرتها قلوب الرجال الحديدية من الحكام والملوك والأمراء وعلية القوم، فقد كان يؤخذ رأيها في كثير من الأمور، وبهذه السلطة التي أصبحت تتمتع بها أشيع عنها ممارستها للكهنة والسحر وغيرهما، إلى درجة تلقيبها بالكاهنة والساحرة، أو التي أصابها مسّ من الجن، لكنها كانت مجرد إشاعات وأساطير في مجتمع كانت تسيطر عليه الأُمية والجهل وقصص الجن والعفاريت.
يوسف بن تاشفين.. طالع سعد في حياة الظافر بمحبوبة أغمات
الراجح أن محبوبة أغمات التي اتُهمت بمعرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل وممارسة الشعوذة والدجل وطقوس الخرافات؛ لم تكن كما يعتقد الناقمون عليها، أو المنبهرون بما وصلت إليه من مجد وتقدير لكبار القوم في أشهر القبائل، بل كانت أهلا لكل خير، وذلك لما كسبته من عائلتها الثرية ومحيطها من ثقافة وعلم وسياسة وبُعد نظر، وحزم في التعامل مع الأعداء والمقربين والعشاق.
ومن القرارات الحازمة والناجحة لزينب أن يوسف بن تاشفين ابن عم أبي بكر بن عمر اللمتوني (الزوج السابق لزينب) كان مهددا بالعزل من قبل أبي بكر، فحين سمع أبو بكر بأمر يوسف الذي تمدد سلطانه، خرج من الصحراء قاصدا أغمات لاختبار قوته.
وقد علمت زينب بهذا الأمر، فشاورها زوجها يوسف بن تاشفين في أمر أبي بكر وحيلته، فأفصحت له عن ورع أبي بكر في سفك الدماء وقتل المسلمين، ونصحته بالتودد إليه وإرضائه حتى لا تقع مصيبة أو أي مكروه.
وجاء في كتاب “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” للشيخ أبي العباس أحمد بن خالد الناصري أن زواج يوسف بن تاشفين من زينب كان عنوان سعد بالنسبة له، وأنها القائمة بملكه والمدبرة لأمره والفاتحة عليه، وبحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب، وفي ذلك مشورتها له في أمر ملاقاة أبي بكر أمير الصحراء من غير حرب ولا سفك دماء.
وفي هذه النازلة التي روتها دراسات عدة يقال إن يوسف قد تودد إلى أبي بكر بحسن الأدب، وما أغدق عليه من الهدايا والأموال والإبل، وهو ما جعل أبا بكر يثق فيه، ويوصيه خلال اللقاء بالاهتمام بأمور الرعية وبالعدل، وليكون خليفة عليهم، بينما عاد هو أدراجه إلى الصحراء لمواصلة الجهاد ضد كفار السودان حتى استشهد في سبيل الله.
وذكر ابن خلدون مضامين هذه القصة في أحد مؤلفاته قائلا: حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة 453 هجرية، واستعمل ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه، فكان لها رئاسة أمره وسلطانه وما أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء، في إظهار الاستبداد حتى تجافى عن منازعته، وخلص ليوسف بن تاشفين ملكه.
بعد النظر.. امرأة تصنع مستقبل السلاطين ومسار التاريخ
بهذا يكون لزينب الساحرة أو الكاهنة كما اعتقد البعض لسحرها وتأثيرها في الحكام والأمراء والسلاطين الفضل الكبير عليهم، وعلى مستقبلهم السياسي، بخاصة على يوسف بن تاشفين باني عاصمة الإمبراطورية المرابطية مراكش.
أمام كل ما تصنعه زينب كان يوسف يُثني عليها بمزاياها وطاقتها الإيجابية المحفزة على تدبير الأمور وحل الكثير من المعضلات، فضلا عن وجاهة نظرها في مواقف عدة، لعل من أبرزها موقف اصطدام أبي بكر بيوسف، وليتحول الشك إلى يقين، وتفاهم مطلق.
ونظرا لشهرتها الواسعة وتأثيرها البالغ على الحكام ودورها الكبير في المجتمع؛ كانت محط اهتمام كثير من الشعراء والمفكرين والمؤرخين، ولعل من أبرزهم ابن خلدون وابن الأثير والشيخ خالد الناصري وغيرهم.
وأجمعت الدراسات التاريخية المختلفة على قوة شخصيتها، فكانت فعلا سيدة نساء حقبتها، فاتنة وذكية ولبيبة وقوية وذات رأي صائب وفكر راجح ودراية بالسياسة والتجارة ، كما وصفت بالحمق والجنون، حين كانت تؤكد أنها لن تتزوج إلا من يستطيع أن يبسط سلطته على أرض المغرب آنذاك، فكان لها ما أرادت.
أنجبت زينب من زوجها يوسف بن تاشفين ثلاثة ذكور، وهم تميم والفضل والمعز بالله، فربتّهم أفضل تربية، وعلّمتهم السياسة والكياسة وتدبير أمور الرعية والأزمات، مما ساعدهم وقوّى عودهم في تدبير شؤون العباد، خاصة الأمير تميم الذي تولّى الملك خلافة لأبيه يوسف بن تاشفين.
“زينب زهرة أغمات”.. صورة سينمائية لأشهر نساء شمال أفريقيا
ألهمت قصة زينب المشوّقة كثيرا من المبدعين والفنانين والسينمائيين من الأجانب والمغاربة، ولعل من أبرزهم المخرجة المغربية فريدة بليزيد التي أخرجت فيلما تاريخيا بعنوان “زينب زهرة أغمات”، تُحاكي فيه قصة الجمال والسحر والسياسة والجنون والإمارة لفاتنة أغمات ومدللتها.
برعت بلزيد في رسم صورة سينمائية ممتعة ومبهرة من خلال صناعتها فيلما لأشهر نساء شمال أفريقيا خلال القرن الخامس الهجري، وكان رهان المخرجة من خلال هذا الفيلم هو رد الاعتبار للمرأة المغربية والعربية في العالم الإسلامي، وإبراز دورها الكبير في تطور وبناء المجتمعات، وهو ما تأتى لها من خلال سيناريو محكم وقصة سينمائية ممتعة كتبها السيناريست منصف القادري، وجمعت نخبة من أشهر الممثلين والممثلات.
كان الفيلم في البداية عبارة عن مسلسل تاريخي درامي، وقد شاركت في تمثيل شخصياته فاطمة العياشي التي لعبت دور البطولة، إلى جانب المرحوم محمد محد والممثلة القديرة الراحلة أمينة رشيد الملقبة بـ”لالة حبي”، ثم الممثل البارع محمد خويي الذي يتقن الأدوار التاريخية، فضلا عن فريد الركراكي وعبد السلام بوحسيني وبنعيسى الجيراري وغيرهم.
وقد كُرم الفيلم في عدد من المهرجانات الوطنية والدولية، لعل من أبرزها المهرجان الدولي لسينما المرأة الذي يقام بمدينة سلا في ضواحي الرباط، والذي يحتفي بالإبداع السينمائي في العالم.
بهذا تبقى فاتنة أغمات واحدة من أشهر وأجمل نساء عصرها، فقد تمكنت برجاحة عقلها وذكائها الخارق وحنكتها وتبصرها من المساهمة في بناء حضارة مراكش وإمبراطورية المرابطين، وهي لا تزال شامخة حتى اليوم في بوابة الصحراء مراكش الحمراء، أو مدينة النخيل كما تحلو لهم تسميتها.
المصدر: الجزيرة الوثائقية