تمتلك الحرب تاريخًا طويلًا في تحفيز المخيلة البشرية وتسرّع وصولها لاختراعات وأفكار جديدة، وفي حين أن العديد من هذه الأفكار والاختراعات قد ساهمت أحياناً بتغيير مسار التاريخ –كالحربة، والقتال الجوي، والقنبلة النووية– فالكثير منها قد أخفق وفشل فشلاً ذريعاً.
قائمة الإخفاقات طويلة للغاية، يقبع في مقدمتها، ذلك الاختراع الذي انتهى اختباره بكلب يطارد صاروخًا قد انحرف عن مساره والعديد من الجنرالات يركضون جنبًا إلى جنب مع الناس للنجاة بحياتهم. فلنتعرف سوية على الـ بانجاندروم.
البانجاندروم Panjandrum
كان البانجاندروم واحداً من أكبر الإخفاقات العسكرية في مجال الأسلحة وأكثرها جنونًا وتسبباً للفوضى في التاريخ العسكري الحديث. ذلك الاختراع الذي صاغه البريطانيون كوسيلة لاختراق الدفاعات الألمانية القوية على شواطئ النورماندي. تعليمات استخدامه بسيطة جداً: فما عليك سوى تثبيت مجموعة من الصواريخ على عجلتين ضخمتين متصلتين بمحور يشبه الأسطوانة ومليءٍ بالمتفجرات، ما عليك سوى توجيهها نحو الألمان النازيين، ثم أطلق الصواريخ وابتعد قدر المستطاع!
فكرة السلاح
من الناحية النظرية، أُعِدّ سلاح بانجاندروم ليُطلَق عبر الشاطئ بسرعة هائلة، ويصطدم بالجدار الخرساني، فيخلّف حفرة كبيرة في ذاك الجدار تكفي لعبور دبابة. اعتقد الجميع أنها ستكون الطريقة الأسرع والأكثر فعالية لاقتحام الشاطئ، وإنقاذ حياة عدد لا يحصى من الجنود المحاصرين بالألغام والموانع الأرضية، ونيران المدافع الرشاشة.
في البدء، تبادرت الفكرة لذهن (سي آر فينش–نويز) وهو قائد الجناح البريطاني الذي صمم من قبل ما يُعرف بالقنابل المرتدة ”Dambuster“ والتي استخدمها سلاح الجو الملكي البريطاني خلال عملية تدمير سدّين ألمانيين في عام 1943.
تنفيذ الاختراع
نفذت مديرية تطوير الأسلحة المتنوعة هذا الاختراع المنشود، والأولى هي ذراع البحرية البريطانية المعروفة باسم ”Wheezers and Dodgers“. أما بالنسبة لاسم الجهاز، فيعود أصله إلى إحدى الشخصيات التي وردت في قطعة نثرية غرائبية، للكاتب الدرامي البريطاني (صامويل فوت) من القرن الثامن عشر.
في أواخر عام 1943، قامت المديرية آنفة الذكر، ببناء نموذج أولي للبانجاندروم في لندن ونقلته بالشاحنات إلى (ويستورد هو)، وهي قرية ساحلية واقعة جنوب إنجلترا وتشتمل تضاريسها شواطئَ مماثلة لتلك التي تنوي قوات الحلفاء اقتحامها في إنزال نورماندي
احتوى سلاح (بانجاندروم) ما يصل إلى 70 صاروخًا نفاثاً من الكوردايت بطيء الاحتراق، جميع تلك الصواريخ متصلة بعجلتين فولاذيتين يبلغ ارتفاع الواحدة ثلاثة أمتار تقريباً، ويربط بينهما محور يشبه الأسطوانة. ووفقاً لـ (جيرالد باول) في كتابه «الحرب السرية بين عامي 1939 و1945»، قام المهندسون لغرض الاختبار بتعبئة الأسطوانة بالرمل بدلاً من المتفجرات، الأمر الذي يبدو كأنه أذكى خطوة قام بها المسؤولون خلال هذا الاختبار الفاشل.
اختبارات الجهاز
سلّط هذا الاختبار المبكر الضوءَ على المشكلة الكبيرة والدائمة في البانجاندروم، ونقصد هنا مسألة «التحكم». فقد غاب عن بال صناع هذا السلاح الغريب العديدُ من الأمور المهمة والمؤثرة على توجيهه والتحكم فيه، كانفلات الصواريخ الدافعة التي قد تنفلت من العجلات، ومستويات الرمال المختلفة تحت العجلتين، ناهيك عن بعض الحفر، والتي ستؤدي جميعها إلى الإخلال بتوازن السلاح وانحرافه عن مساره، متحولاً إلى وحش هائج بكمية كبيرة من المتفجرات
في يناير 1944، احترق البانجاندروم بالكامل حتى تلاشى تماماً. في محاولة لحل هذه المشكلة، قام قائد المشروع (نيفيل شوت نورواي)، وهو مهندس طيران وروائي، بتركيب عجلة ثالثة في البانجاندروم لتحقيق الاستقرار. لكن ذلك لم يفِ بالغرض.
فجرب فريقه خياراً آخر عن طريق تركيب نظام توجيه باستخدام كابلات ضخمة، وكانت النتائج واعدة، إلا أنهم لم يستطيعوا تعويض التأثير الناتج عن مقاومة الدوران المتغيرة على الشاطئ، ما يعني أن إحدى العجلات ستدور أسرع من الأخرى حتمًا، ما سؤدي إلى انحراف السلاح عن مساره. هذا واستمرت الصواريخ الدافعة بالانفصال عن العجلات الخارجية، خاصةً عند وصولها للسرعة المطلوبة والمقدرة بـ 60 ميلاً في الساعة.
استمرت المديرية في تعديل التصميم طوال خريف عام 1943، وفي شهر يناير من عام 1944 شعر القائمون على تصميم السلاح أنه جاهز للخضوع لاختبار رفيع المستوى أمام الضباط العسكريين. في البداية اشتعلت النيران في الصواريخ، وانطلقت العجلات بشكل جيد، وتدحرجت في خط مستقيم فيما تزايدت سرعتها، لكن الأمور ما لبثت أن تحولت إلى ما يشبه الهستيريا! فوفقًا لـ (جيمس مور) و(بول نيرو) في كتابهما المعنون بـ «صواريخ الحمام الموجهة: و49 فكرة أخرى لم تنجح»:
”انطلق البانجاندروم من البحر بسرعة مذهلة، وكان الشرر يتطاير من صواريخه.
ولم يمر وقت طويل حتى بدأت المشاكل القديمة ذاتها. تزحزحت الصواريخ من أماكنها، وانحرف البانجاندروم عن مساره، لتصيب الصدمة أولئك الذين يشاهدون الاختبار. فرَّ الجنرالات بحثا عن مخبأ، فيما كاد المصور الرسمي يفقد حياته ويُقطّع إلى أشلاءٍ.
أما بالنسبة للبانجاندروم، فأخذت الصواريخ تتساقط منها هنا وهناك، واضطرمت النار بالعجلات، إلى أن انتهى الجهاز مفككاً بالكامل“.
وما أن شاهد (نورواي) وفريقه كلبَ أحد الضابط في الجيش يطارد أحد الصواريخ التي تطايرت على الشاطئ حتى أيقنوا أنهم فشلوا في صناعة ذاك السلاح الذي سيخترق الجدار الأطلسي.
ومع ذلك، حصل البانجاندروم على فرصة أخرى. خلال الاحتفال بالذكرى الخامسة والستين لإنزال النورماندي، حين أنشأت شركة للألعاب النارية نسخة مصغرة من الجهاز ومزودة بالألعاب النارية بدلاً من المتفجرات.
تم إطلاق سلاح الألعاب النارية هذا على شاطئ (ويستورد هو)، وذكرت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية أن الجهاز المصغر سار بشكل مستقيم لنحو 50 مترًا فقط قبل أن يتلاشى على بعد 450 مترًا من المسافة المأمولة. وهكذا، لم يكن مقدراً لهذا الجهاز أن يعمل بشكل صحيح أبداً، لا كسلاح ولا كوسيلة ترفيه!
المصدر: موقع Wired