لم تكن الحضارة الإسلامية استثناء من الحضارات التي سبقتها في مراقبة النجوم ورصد الأجرام السماوية والاستدلال بها وربطها بحوادث دنيوية وإمكانية إنباء العوارض المستقبلية وفقا لمواضع النجوم، فظهور نجم الشعرى اليمانية (سوبدت: في الحضارة الفرعونية) كان يعد فأل خير للفراعنة إذ كان يحمل دلالة على بدء موسم فيضان نهر النيل وهو ما يصادف نهاية فصل الصيف.1
ورغم أنها مجرد مصادفة مثيرة تقع بسبب حركة دوران الأرض حول الشمس بدقة وتغير موقع النجوم المنتظم على مدار العام، فإن ذلك لم يمنع الفراعنة من تقديس نجم الشعرى اليمانية. وعلى العكس تماما من ذلك كان الإسلام نابذا لتقديس وتأليه كل مخلوق من نجوم وكواكب، لكن برز اهتمام العلماء والفلكيين المسلمين في الفلك في خدمة الشعائر الدينية كتحديد مواقيت الصلاة اليومية، بالإضافة إلى تطوير آلات وآليات للاستعانة بالنجوم في تحديد الاتجاهات، ولا سيّما اتجاه قبلة المسلمين نحو مكة المكرمة.
تراث الفلك العربي.. إرث الآباء وعلوم الإغريق المترجمة
اتصل علم الفلك في العصر الإسلامي بما عكف عليه العرب قبل ظهور الإسلام، مع تنقيحه من كل خرافات التنجيم وأساطيره (التنجيم هو ربط الحوادث الدنيوية بحركة النجوم والكواكب وامتزاجاتها)، فدراسة الفلك يعتمد على علم شامل بالرصد والملاحظة وبالإضافة إلى العامل الأهم الرياضيات بأقسامها من علم المثلثات ونحوه.
غير أن العرب قديما اكتفوا بالملاحظة التجريبية بعيدا عن أي معادلات حسابية، فقد استطاعوا رسم جدارية هائلة للسماء في مخيلتهم، تتغير وفقا لأيام السنة، فتغيب نجوم وتظهر أخرى، لكل منها دلالة لوجهة ماـ ويرتبط ظهور نجوم معينة بأحوال الطقس وهبوب الرياح ومواسم الهجرة في صحراء الجزيرة العربية وحتى في الشمال منها وفي بلاد المغرب ذلك.
ومن السهل اليوم الكشف عن المساهمات الفلكية للعرب قديما بالنظر إلى معاجم علوم الفضاء والفلك الحديثة التي لا تخلو من أسماء عربية لنجوم وأجرام سماوية. ولم يكتف علماء العرب بما امتلكوه من تراث فلكي، بل إنهم أضافوا إليه ما أمكنت ترجمته من علوم الحضارة الإغريقية، فكانوا بذلك خير من حفظ إرث علم الفلك ثم صدّره لبقية دول العالم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن سرد بعض أسماء النجوم التي ما تزال تحتفظ بصبغتها العربية: نجم النسر الطائر (Altair) والذيل (Adhil) والحمل (Hamal) وذنب الجدي (Deneb Algedi) والنيّر (Alnair) والضفدع (Diphda) وذنب قيطس الشمالي (Deneb Kaitus) والخباء (Alchiba) والفاختة (Phact) وصدر الدجاجة (Sadr) وآخر النهر (Achernar) ونجوم أخرى يربو عددها على المائتين2.
الخليفة المأمون.. عاشق العلم الذي أسس أول مرصد فلكي إسلامي
اصطلح على أن لفظ “علماء العرب” في الكتب التاريخية هم كل من ظهر في العصور الوسطى وينتمي للأمم وللشعوب القاطنة تحت ظل حكم الممالك الإسلامية، لكون العربية اللغة السائدة ولغة أهل العلم آنذاك، وهذا ما ذهب إليه المستشرق الإيطالي “كارلو نلينو” في محاضراته في الجامعة المصرية عن تاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى3.
وقد أطلق العرب على علم الفلك اسم علم الهيئة، ويعرّف المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة علم الهيئة على أنه “علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيّرة، ويستدل بكيفيّات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية”4.
فكان نتاج الاهتمام بحركة الأجرام السماوية نشأة دور الرصد، أو المراصد الفلكية بوصف أدق، لمراقبة السماء والأفلاك والأجرام السماوية.
وكانت البداية على يد الخليفة العباسي المأمون الذي لم يخف اهتمامه الكبير بعلم الفلك ليأمر ببناء أول مرصد فلكي إسلامي سنة 829 ميلادية في بغداد، وبعد ذلك ظهرت عدة مراصد فلكية رائدة في العالم الإسلامي. وهذه أشهرها:
مرصد الشماسية.. ظلال الرشيد في عاصمة الخلافة
مع ازدهار الحركة العلمية بلغت الحضارة الإسلامية أوجها، وعاشت حقبة ذهبية امتدت من منتصف القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الميلادي، وكان للخليفة العباسي هارون الرشيد فضل كبير في تلك النهضة بتأسيسه صرحا عظيما للعلوم في عاصمة الخلافة بغداد، فيكاد أن لا يكون في أي قطر من أقطار الأرض من لم يسمع ببيت الحكمة لما له من صيت ذائع، فقد كان منارة للعلماء والباحثين والمترجمين بشتى أفرع العلوم.
ثم اتبع الخليفة المأمون طريق أبيه فبنى مرصدا فلكيا في الشماسية في بغداد وألحقه ببيت الحكمة، وجعل عليه الفلكي سند بن علي. وكانت بداية لأولى عمليات الرصد الفلكي في التاريخ الإسلامي، وقد أثمر لاحقا في إصدار جداول حسابية تبيّن مواقع الكواكب والنجوم وعُرفت بالأزياج الفلكية.
وقد ساهم مرصد الشماسية في خلق بيئة ملهمة ومحفزة ليحتضن تحت سقفه الإخوة الثلاثة أبناء الفلكي موسى بن شاكر الملقبين باسم “بنو موسى”، فقد استطاعوا حساب قطر الأرض (بطريقة المأمون) بدقة متناهية، سابقين بذلك الإنجاز أقرانهم من الفلكيين بقرون طويلة، وكانت رحلتهم أول بعثة علمية تتبناها الدولة.
وقد ذكر المؤرخ ابن خلكان ما أنجزه بنو موسى بإسهاب في كتابه “وفيات الأعيان”، ونكتفي بقوله إنهم هم كانوا أول من تحقق من حساب قطر الأرض ليتطابق مع ما ترجم من الكتب الإغريقية، إذ يقول: ومما اختصوا به في ملة الإسلام، فأخرجوه من القوة للفعل وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه، ولكنه لم ينقل أن أحدا من أهل هذه الملة تصدّى له وفعله إلا هم5.
مرصد قبة السيار.. تاج على جبل قاسيون منذ ألف عام
يتربع فوق هامة جبل قاسيون، محتفظا بشموخه بعد مضي 1192 عاما على تأسيسه بأمر من الخليفة المأمون، ويشير بعض المؤرخين إلى أن هذا المرصد هو الأول من نوعه في الحضارة الإسلامية.
ويُطلق عليه مرصد “قبة السيّار” نسبة للقبة التي بناها الأمير المملوكي سيار الشجاعي، على الرغم من الملامح المعمارية للطراز الأيوبي الظاهرة عليه6.
كلا المرصدين في جبل قاسيون والشماسية كانا مكفولين بميزانية ضخمة مدفوعة من خزينة الدولة ومدعمين بأحدث آلات الرصد، كما أنّ تدريس علم الهيئة (الفلك) كان ينشط باستمرار في المرصدين، فيكون إجراء التطبيق العملي مباشرة.
مرصد مراغة.. منة بلاد فارس على عصر النهضة الأوروبية
على ارتفاع 1560 مترا فوق سطح البحر، في شمال غربي بلاد فارس (إيران حاليا)، شُيد في عام 1259م في مدينة مراغة أضخم المراصد في التاريخ الإسلامي على أيدي علماء الفلك نصير الدين الطوسي ومحي الدين المغربي وعلي نجم الدين الاسطرلابي الذين كانت لهم اسهامات كثيرة وهامة في الفلك والهندسة والرياضيات.
لقد احتوى المرصد على قبة قطرها يبلغ 22 مترا، بالإضافة إلى ممر مركزي عرضه 3 أمتار يربط بين مفترقين، في كل مفترق تقع 6 حجرات. وفي الخارج شُيّدت 5 أبنية دائرية استخدمت للمراقبة بالمعدات الفلكية الثانوية والأصغر حجما7.
وتوجد أيضا مكتبة ضخمة منفصلة تبلغ مساحتها 330 مترا مربعا. ويعتقد الباحثون أن هذه المكتبة كانت تضم في جعبتها 400000 كتابا مما قد نهب من مكتبات العراق والشام أثناء الغزو المغولي8.
وهذا ما ألهم علماء بارزين حينئذ أن يوجهوا مساعيهم نحو مرصد مراغة لتبدأ من هنا نهضة علمية شكلت بشكل مباشر سبيلا لعصر النهضة الأوروبية.
لقد كانت ثورة مدرسة مراغة العلمية هي التي سعت إلى تصحيح النموذج البطلمي (نسبة إلى بطلميوس) في مركزية الأرض. وكان أبرز أولئك الذين استفادوا من سجلات الرصد الدقيقة التابعة للمرصد هو عالم الفلك ابن الشاطر.
مرصد أولوغ بيك.. عين سمرقند التي حددت مواقع ألف نجم
في القرن الخامس عشر كانت الإمبراطورية التيمورية تحتل جزءا كبيرا من خارطة آسيا الوسطى، وكان يحكمها في ذلك حين الأمير أولوغ بيك الذي كان مولعا بالفلك والرياضيات، وهذا ما دفعه إلى بناء مرصد مكون من ثلاثة طوابق عام 1424 في مدينة سمرقند المركزية التي كان يمر بها طريق الحرير.
صُمم المرصد ليكون على هيئة دائرة موازية للأرض بقطر 46 مترا وارتفاع 30 مترا، كما ضم المرصد آلة سدس هائلة (السدسية جهاز فلكي يستخدم لقياس الزاوية بين جِرمين) بلغ طولها 60 مترا، فكانت أكبر آلة فلكية من نوعها.
لقد تميز المرصد بقدرته على تحديد مواقع 992 نجما، بالإضافة إلى قياس طول السنة الشمسية بدقة فائقة إذ بلغت 365 يوما و6 ساعات و10 دقائق و8 ثوان، وهي أطول بـ62 ثانية فقط من الحسابات الحديثة9.
تضرر هيكل المرصد خلال حرب التيموريين الأهلية في القرن السادس عشر ولم يبق منه سوى الجزء السفلي وباب الإيوان.
مرصد تقي الدين.. بناء وهدم بأمر من خليفة إسطنبول
في عهد الخليفة العثماني مراد الثالث استدعي الفلكي تقي الدين الشامي أحد أبرز علماء ذلك العصر إلى إسطنبول، حيث بلاط الخليفة الذي كان بانتظاره. لقد كان مراد الثالث مهتما بعلم الفلك، وقد طلب من العالم تقي الدين أن يتحقق من صحة الحسابات في الأزياج الفلكية القادمة من مرصد سمرقند، ليتبين لاحقا بأنّ ثمة أخطاء في الرصد، وكان الحل هو إعادة حسابات الزيج عبر رصد جديد، فأمر الخليفة ببناء أول مرصد فلكي في إسطنبول على مرتفع إحدى التلال بتمويل مباشر من خزينة الدولة.
وقد اكتمل بناء المرصد عام 1579 ليضم مبنيين منفصلين يضاهي حجمهما أكبر المراصد، مثل مرصد سمرقند ومرصد مراغة، كما أنه ضم 16 فلكيا للقيام بعملية المراقبة والرصد، لكن ما لبث أن دمر بأمر من الخليفة بعد عام واحد فقط، لادعاءات دينية، وفي الحقيقة لم يكن وراء ذلك سوى بعض النزاعات السياسية10.
مرصد القطامية.. مرآة المقطم المطلة على قبة السماء
يعد مرصد القطامية المرصد الأحدث من بين القائمة، وقد أنشئ عام 1905 على هضبة المقطم على ارتفاع 476 مترا فوق سطح البحر، ويقع شرق القاهرة، وذلك بعد توصيات من المجمع الفلكي للسلطات المصرية ببناء تلسكوب فلكي حديث قطر مرآته 74 بوصة (185 سم).
يحتل مرصد القطامية مرتبة خاصة ليس في مصر فحسب بل في العالم أجمع، لكونه من المراصد النادرة المطلة على قبة السماء في النصف الشمالي بالإضافة إلى جزء كبير من النصف الجنوبي، مما يتيح له مجالا للرؤية لا تتوفر عند المراصد الأوروبية.
يغطي التلسكوب قبة يبلغ قطرها نحو 18 مترا بغلاف من الفولاذ مطلية من الخارج بالألومنيوم. كما أنها معزولة جيدا عن الحرارة والغبار بحيث لا تزيد درجة الحرارة عن 3 درجات مئوية مهما اشتدت حرارة الشمس في الصيف11.
حقق المرصد بعض الإنجازات طيلة فترة عمله، كما أنه سجل انفجارا لمستعر أعظم (Supernova) لمرات عدة بالشراكة مع مراصد فضائية يابانية12.
المصادر: الجزيرة الوثائقية