“تمنيت أن أفقد يديّ أو عينيّ في الحرب بدل فقداني النوم للأبد”؛ هذا ما يدور ببال الجندي الإيراني الذي شارك في الحرب العراقية الإيرانية قبل أربعين عاماً، فأصابت جمجمتَه شظايا الحرب لتجعله في حسرة دائمة للنوم.
ليالي قرية “قُرقِي” وتلالها وجبالها في شمال شرقي إيران، شاهدة على سهر رجب رشيدي نسَب، فعندما ينام الآخرون تبدأ الحياة المنعزلة للرجل. على دراجته النارية يقطع رجب مسافات قريبة وبعيدة متجولاً وسط السهول الممتدة هناك ليقضي ساعات الليل الموحشة هارباً من صداع لا يفارقه مع بداية الظلام.
شغوف باستيقاظه كي يزيد من ساعات الخدمة العسكرية
في ثمانينيات القرن المنصرم وعندما كان في السادسة عشرة من عمره قطع رجب واثنان من إخوته 1500 کلم من شمال شرقي إيران نحو جنوب غربيه، كي يقاتلوا أمام الغزو العراقي، وكانت مهمة رجب ضمن طاقم سلاح الآر بي جي (القذائف صاروخية الدفع)، ما جعل موقعه بداية الرتل العسكري على الخط الأمامي، وعند فجر نهاية أيلول/سبتمبر عام 1982 في أثناء عملية عسكرية شرسة وقعت في منطقة كِرمانشاه، غربي إيران، اخترقت شظایا قذيفة مدفعية للجيش العراقي قبعته الحديدية فوقعت بين جمجمته عند القسم الجبهي للدماغ.
انتهت الحرب فعاد المقاتل لدياره، تاركاً وريد نومه في المعارك، وحتی الساعتان من النوم اللتان كانتا تشكلان نقطة هامة في تجديد بعض خلايا الجسم، ذهبتا بلا عودة، إذ اعتاد جسمه علی الحبوب المنومة والمهدئات شديدة التأثير
بعد سبعة أيام من الغيبوبة، استيقظ رجب من نومه استيقاظاً أبدياً، إذ لم يتمكن من النوم مجدداً سوی عبر تناول الحبوب المنومة القوية التي تساعده في ساعتين من النوم يومياً.
بداية رأی رجب هذه المرحلة في صالحه كي يزيد من ساعات الخدمة العسكرية مدافعاً عن الوطن، وبات شغوفاً يلبي طلبات جنود الحراسة الآخرين ليقف بدلاً عنهم في ساعات نوباتهم المسائية.
انتهت الحرب فعاد المقاتل لدياره، تاركاً وريد نومه في المعارك. وحتی الساعتان من النوم اللتان كانتا تشكلان نقطة هامة في تجديد بعض خلايا الجسم، ذهبتا بلا عودة. إذ اعتاد جسمه علی الحبوب المنومة والمهدئات شديدة التأثير. وهكذا فقد رجب إحدى ثوابت الحياة الإنسانية والتي يصعب إكمال الحياة بشكل طبيعي دونها.
أعراض عدم نوم على صحة البشر
جرّب رجب شتى طرق العلاج التقليدية وأنواع الأعشاب المحلية وصولاً إلی الدواء الكيمياوي، وفحوصات طبية واختبارات بإشراف أطباء حول العالم، أشهرهم أطباء حاذقون ألمانيون، لإفراز الميلاتونين (هورمون النوم) علّه يتمكن من أن يغفو للحظات أو حتى أن يتثاءب، ولكن دون جدوی، فيبدو أنه لا يوجد طرف خيط يدله على نهاية المطاف، فقد تقارنت نهاية الحرب مع نهاية النوم عنده فبقي مستيقظاً للأبد، شاهداً علی ويلات الحرب التي لا تتوقف عند توقف النزاع.
خمسة وعشرون بالمئة، نسبة سجلتها الحكومة لإعاقة رجب في الحرب، والتي اعترض عليها معتقداً أن فقدانه لجزء من نشاط دماغه يمثل خمسين بالمئة، حاله حال من بترت قدمه أو يده أثناء القتال، لكن قرار الدولة كان حتمياً.
طالما تمنی رجب الذي يعيش مع أبنائه الخمسة في قرية نائية ضمن مدينة مَشهد، أن يتم قبوله كعامل نظافة أو حارس ليلي في البلدية ليستثمر استيقاظه اللا إرادي ويتغلب علی الصداع الذي لا يغادره مع حلول المساء حتی مع تناول 10 حبوب منومة كفلورازيبام وديازيبام وأميتربتيلين، والتي لم يتخل عنها علی مدی 40 سنة، لكن العائق أمام توظيفه هو التوتر والضغط النفسي الذي يعاني منه المحارب القديم.
طرق أخرى للراحة بدل النوم
في هدوء الليل يزداد منسوب القلق خاصة عند المتقدمين في العمر لارتباط ذلك بالعوامل البيولوجية، فيأتي النوم ليساعد على إبعاد شبح الأفكار السوداء والتغلب على المخاوف والتفكير غير المثمر، أما رجب ذو الـ57 عاماً والذي حرم من هذه الحالة، تصاحبه المشاعر المؤلمة والإرهاق والقلق والكئابة المميتة بعد كل زوال شمس.
يعصب رجب عينيه من شدة التعب؛ سبيل يتوسل إليه كي ترتاح جفونه قليلاً من عدم النوم وليهرب من تلك العتمة التي طالته منذ ريعان شبابه فحرمته طعم الحياة بشكل طبيعي، وحددت أمنياته وأحلامه بالنوم فقط، أبسط روتين في الحياة البشرية.
يريد القول للروس والأوكرانيين إنه بالإمكان الحصول على علاج لأي جرح، أو يمكن العيش من دون بعض الأعضاء الحيوية، لكن فقدان النوم المساند لتجديد بعض خلايا الجسم واسترخائه، قادر على الإخلال في معنى الحياة بأكملها
يعتقد رجب أن فقدان النوم هو أشد مرض وصداع في العالم، ربما رغبته بتوقف هذا الصداع جعلت لنهاية حياته معنى جميلاً، يعيش منتظراً إياها، حيث آمن أن نهاية حياته أوسع أفقاً مما عليه الآن، والتي تترنح في دائرة يظهر فيها شيء واحد: اليقظة الممتدة.
ذهب إلى دبي للعلاج فقُطِع راتبه
ليس رجب رشيدي نسب وحيداً في حالته الفريدة، فيماثله في عدم النوم مقاتل آخر من مدينة إصفهان وسط إيران؛ غضَنفر موسوي لم ینم منذ 36 سنة، فكان ضحية خطأ طبي إثر علاج بالصدمة الكهربائية في 12 نوبة، بعدما تعرض لهجوم كيمياوي بنسبة مئة بالمئة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، عام 1986. نجا غضنفر من الموت عبر العلاج، لكنه حرم من النوم تماماً.
ولما اشتد الصداع وآلت الأمور إلی ما لا يطاق، قرر الجندي وعلی نفقته الشخصية ودعم الأقرباء أن یسلم نفسه للأطباء في مستشفيات الإمارات، وبعد فشل المحاولة العلاجية في دبي وعودته للبلاد، قطعت الحكومة راتبه المتواضع كمعوق حربي بنسبة 25 بالمئة، والحجة رحلته العلاجية إلى خارج البلاد، ليعود راتبه بعد فترة بفضل متابعاته.
دعاء… كيلا يفقد جندي وريد نومه في أوكرانيا
في هدوء العتمة وسلام العزلة، يهرب غضنفر إلی نهر ماربر وجبل دِنا ضمن سلسلة جبال زاكرس غربي إيران راجلاً، ليختلي مع نفسه علی أمل طي صفحة النوم هناك وتجديد الطاقة والاسترخاء والطمأنينة، فهو في حالة نُعاس مفرط وتعب دائم وإرهاق طيلة النهار بسبب فقدانه القدرة على النوم، فيهرب إلى الطبيعة باحثاً فيها عن تعويض عن جزء قليل مما یمنحه النوم للبشر.
يتابع غضنفر بقلق أنباء الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي هذا الضباب الرمادي الكثيف الذي حل في شرق أوروبا، جل ما يأمله هو ألا يصاب جندي أو مدني في القسم الجبهي للدماغ، فيجفَّ إفراز الميلاتونين عنده للأبد. فهو لا يرغب بإضافة فرد جديد إلى قائمة المصابين بهذه الحالة النادرة التي تذهب بصاحبها نحو الدمار النفسي.
فكل اهتمام الرجل بأحداث المشهد في الغرب ينصب في ألا يضيع فرد وريدَ نومه في زحام الحرب، وكأنه يريد القول للروس والأوكرانيين إنه بالإمكان الحصول على علاج لأي جرح، أو يمكن العيش من دون بعض الأعضاء الحيوية، لكن فقدان النوم المساند لتجديد بعض خلايا الجسم واسترخائه، قادر على الإخلال في معنى الحياة بأكملها.
ينام الإنسان ليتجاهل همومه وأفكاره المقلقة والمفزعة؛ ينام المحاربون لیبتعدوا عن تجاربهم الحربية التي تخيم كغيم ثقيل علی حياتهم اليومية، ولكن لا سبيل أمام رجب وغضنفر، فيبدو أن ذكريات الحرب لم تكن ضمن ماضٍ قديم، بل مازالا يحملان تلك اللحظة الفارقة في عمرهما وزراً أثقل من الألم الذي في داخلهما حتی بعد مرور أربعة عقود على وقوعها، وكأن الحياة أصبحت صراعاً أبدياً لهؤلاء المحاربين.
المصدر: رصيف – مواقع إلكترونية