كثيراً ما يتردد على مسامعنا مصطلح “المنعطف التاريخي”، ونعيش رهناً لشدة هذا المنعطف، ونشاهد “سكيتشات” الكوميديا السوداء الساخرة من هذا المصطلح، ولا يأتي مَن يُخطرنا بألا نضحك دون أن نسأل عن ماهية هذا المنعطف، حتى لا نسمع ما يوهن عزيمتنا ولا يرضينا.
رغم ذلك، نعرف على الأقل أن المنعطف الذي يحدثوننا عنه تاريخي، ولذلك، حاله كحال أي حدث يمر بتاريخ أمة من الأمم، لا تتضح حقيقته وأسبابه إلا بعد انتهائه وجلاء كل ريب والتباس عن الصورة الكبرى.
وعليه، نستطيع أن نأخذ انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم كمنعطف تاريخي عظيم التأثير في مسار الدولة السورية، نظراً لأن انقلاب الزعيم يُعَدّ الأول في تاريخ الدول العربية الحديث ككل، ولم يشهد إراقة قطرة دمٍ واحدة، أما انقلاب الحناوي فهو أول انقلاب تُراق فيه الدماء وهو منعطفٌ يقبل السؤال عن أسبابه لوفرة ما ورد عنه من تأريخ ومؤلفات قدّمها أشخاص تناولوا ذات الحدث من زوايا مختلفة، بالإضافة إلى ما كشفته الأيام من وثائق وتصريحات كانت خفيّةً أثناء وقوعه، ولأنه ما من أحدٍ اليوم يوبّخنا على أسئلتنا الحمقاء عن مثل هكذا منعطف تاريخي.
انقلاب الزعيم
انقلاب الزعيم الذي غيّر موازين الحكم في سوريا عام 1949، ولا نبالغ إذا قلنا أنه الملهم الأول لتنظيم “الضباط الأحرار” في مصر الذين خلعوا الملك فاروق عام 1952، أتى نتيجةً لمجموعة من الأسباب أولها الحملة الشعواء التي شنّها بعض البرلمانيين على الجيش وقائده حسني الزعيم وما رافقها من تهمٍ بالفساد.
واستناداً إلى ما يورده الصحافي السوري نذير فنصة، رئيس تحرير جريدة “ألف باء” ونسيب حسني الزعيم أو كما يقال عديله، في كتابه “أيام حسني الزعيم”، كانت الحملة التي شنّها أعضاء في البرلمان على الزعيم ظالمةً. يروي أن الزعيم كان يأتيه باكياً من شدة ظلم الادّعاءات الموجهة إليه ليتحوّل هذا البكاء في صباح يوم 29 آذار/ مارس من عام 1949 إلى انقلابٍ ينتزع الحكم من حكومة شكري القوتلي ويعلن حقبةً جديدةً في تاريخ الدولة السورية الحديثة، بعد اجتماع عقده الزعيم مع مجموعة من الضباط في منزل نذير فنصة، في منطقة عين الكرش، في دمشق.
وكان سامي الحناوي، أحد الضباط الحاضرين في منزل نذير والمخططين للانقلاب برفقة الزعيم. وما إن تقلّد الزعيم موازين الحكم حتى شرع بإصدار التشريعات والقوانين المدنية التي تتعارض مع شريعة الملة الإسلامية مما دفع بعض رجال الدين والتجار إلى وصفه بالرئيس الملحد، خلال أحد الاجتماعات التي أقاموها في جامع “دنكز” (هكذا يكتب الاسم نذير فنصة والأرجح أن القصد هو جامع “تنكز”) في دمشق لمناقشة الاعتراض على القانون المدني.
وصلت أخبار المجتمعين إلى الزعيم، وطلبوا لقاءه فاستقبلهم بخطةٍ تَختصر، بالرغم من سفاهتها، عقلية حاكم بأكملها. طلب حسني الزعيم من المقدم إبراهيم الحسيني أن يتصل به بعد بداية لقائه مع الوجهاء بعشر دقائق، وهذا ما حصل فعلاً. بعد دخول الوجهاء إلى مكتب الزعيم اتّصل المقدم الحسيني به، فرفع الزعيم السماعة وراح يصرخ غاضباً: “لا يهمني، أعدمه فوراً، سكين أو مسدس لا فرق أعدمه، سوف أعلّم هذا الشعب احترام القانون”، ثم أغلق السماعة لينظر إلى وجوه الحاضرين المصفرّة ويخبرهم أن هذا الهاتف من المقدم إبراهيم الحسيني ليستشيره بخصوص شابٍ ألقي القبض عليه وهو يروّع أمن إحدى المناطق باستخدام سكين كان يحمله.
بعد ذلك، سألهم عن سبب حضورهم إلى مكتبه، فلم ينبس أحد ببنت شفة وطُوي الموضوع كأنه لم يكن. ويستطرد نذير فنصة في كتابه بالقول إن الزعيم ضحك كثيراً بعد رحيل الوفد وقال لنذير: “هيك شعب بدو هيك واحد متلي”.
هذه الحادثة تُظهر الشرخ الكبير بين الزعيم والشعب وجنوحه إلى الترهيب دون الأخذ بعين الاعتبار تداخل نسيج المجتمع السوري وحق الشعب على دولته بإصدار قوانين تعكس توجهات الشعب ليس توجهات القيادات.
اقرأ أيضاً: ثلاثة رؤساء منسيون في تاريخ سورية الحديث
في معظم بلدان العالم يوجد توافق عام على عدد رؤساء الجمهورية أو الملوك، إلّا في سورية.
لأسباب عدة، لم يتمكّن المؤرخون من تحديد عدد رؤساء سورية، وكان أولها أن بعضهم بدأ العد من مطلع عهد الانتداب الفرنسي، أما الآخرون فلم يعترفوا بالرؤساء الذين تولوا الحكم في ظلّ الانتداب. والسبب الثاني يعود إلى الاختلاف بين رئيس الدولة، المُعيّن من قبل جهة ما، ورئيس الجمهورية المنتخب بموجب انتخابات وبرلمان وأحكام دستورية، فعلى سبيل المثال، اللواء فوزي سلو كان رئيس دولة معيّناً من قبل العقيد أديب الشيشكلي.
أما شكري القوتلي فكان رئيساً منتخباً من داخل البرلمان. والسبب الثالث هو أن البعض يحسب للمرحوم الرئيس هاشم الأتاسي ثلاث ولايات رئاسية، والأصح أنهما ولايتان فقط، لأن فترة حكمه الثالثة والأخيرة كانت مجرد استمرار لولايته الثانية التي بدأت سنة 1950 وقطعت سنة 1951.
والسبب الرابع هو مجرد جهل الناس بأن صبحي بركات وأحمد نامي وعطا الأيوبي كانوا رؤساء للدولة في زمن الانتداب، معينين وليسوا منتخبين، ولكنهم رؤساء دولة وليس فقط رؤساء حكومات. أما السبب الخامس والأخير فهو ناتج عن سقوط ثلاثة أسماء من حسابات الناس بسبب قصر مدة حكمهم، وهم جميل الألشي، سعيد إسحاق ومأمون الكزبري.
في معظم بلدان العالم يوجد توافق عام على عدد رؤساء الجمهورية أو الملوك، إلّا في سورية
رئاسة جميل الألشي (17 كانون الثاني 1943 – 25 آذار 1943)
ولد جميل الألشي في دمشق سنة 1883، وبدأ حياته ضابطاً في الجيش العثماني ثم مرافقاً عسكرياً للملك فيصل الأول. تولّى وزارة الحربية بعد استشهاد يوسف العظمة في معركة ميسلون، ثم أصبح رئيساً للحكومة في أيلول 1920.
عاد وزيراً في الثلاثينيات قبل تعيينه رئيساً للحكومة في كانون الثاني 1943. ولكن رئيس الجمهورية، تاج الدين الحسني، توفي وهو في سدة الحكم، فأصبح الألشي رئيساً بالوكالة من 17 كانون الثاني 1943 وحتى 25 آذار 1943. أي أن رئاسته لم تستمر إلا شهرين فقط، ولكن البعض طعن بها لأن الألشي كان خليفة لرئيس جمهورية معين من قبل الفرنسيين وليس منتخباً بموجب دستور أو برلمان.
وخلال الشهرين التي حكم فيهما الألشي، لم ينتقل إلى القصر الجمهوري في منطقة المهاجرين، بل ظلّ في مكتب رئيس الحكومة في السراي الكبير، وسط ساحة المرجة.
رئاسة سعيد إسحاق (2-3 كانون الأول 1951)
كان سعيد إسحاق من أعيان عامودا، وهو مسيحي من تولد سنة 1902، انتُخب نائباً عن منطقته سنة 1932، وجدّد انتخابه في كل المجالس النيابية حتى سنة 1951، عندما أصبح نائباً لرئيس البرلمان، الدكتور ناظم القدسي. في 29 تشرين الثاني 1951، قام العقيد أديب الشيشكلي بانقلاب عسكري ضد حكومة حزب الشعب ورئيسها الدكتور معروف الدواليبي، وأمر باعتقال جميع رموز الحزب، بما في ذلك رئيس المجلس ناظم القدسي. بسبب غياب القدسي، بات سعيد إسحاق رئيساً بالوكالة لمجلس النواب، ومن هذا الموقع تسلّم استقالة رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي في 2 كانون الأول 1951.
لأسباب عدة، لم يتمكّن المؤرخون من تحديد عدد رؤساء سورية، وكان أولها أن بعضهم بدأ العد من مطلع عهد الانتداب الفرنسي، أما الآخرون فلم يعترفوا بالرؤساء الذين تولوا الحكم في ظلّ الانتداب. والسبب الثاني يعود إلى الاختلاف بين رئيس الدولة المُعيّن، ورئيس الجمهورية المنتخب
وقد جاء في المادة 88 من دستور عام 1950: “يمارس رئيس مجلس النواب صلاحيات رئيس الجمهورية حين لا يمكنه القيام بها، على أن يتخلى عن رئاسة المجلس خلال هذه المدة إلى نائب الرئيس”. وبما أن سعيد إسحاق كان رئيساً بالوكالة للمجلس، فقد أصبح وبشكل تلقائي رئيساً للجمهورية في 2 كانون الأول 1951.
ولكن حكمه، إن صحّ التعبير، لم يستمر إلا 24 ساعة فقط لا غير، لأن الشيشكلي أصدر قراراً بحلّ مجلس النواب وتنصيب فوزي سلو رئيساً للدولة. وقد شطبت هذه الساعات الأربعة والعشرون من ذاكرة الناس لأن فيها خرقاً للدستور، الذي ينصّ، وبحسب المادة الثالثة، على أن يكون “دين رئيس الجمهورية الإسلام”، وهذا لا ينطبق على سعيد إسحاق. بذلك، أسقط سعيد إسحاق من قائمة الرؤساء السابقين، علماً أنه لم يدخل قصر الرئاسة ولم يوقع مرسوماً بصفته رئيساً للجمهورية.
رئاسة مأمون الكزبري (26 شباط – 1 آذار 1954)
أمّا عن مأمون الكزبري، فهو أستاذ قانون معروف في جامعة دمشق ومن عائلة دمشقية عريقة، انتُخب رئيساً لمجلس النواب في عهد الرئيس أديب الشيشكلي سنة 1953. ولكن العهد أُسقط بموجب انقلاب عسكري واستقال الشيشكلي من منصبه في 25 شباط 1954، ليغادر البلاد إلى لبنان ثم إلى السعودية، قبل أن يستقر في أمريكا اللاتينية. وفور شغور الرئاسة الأولى، أعلن الدكتور الكزبري عن توليه رئاسة الجمهورية في 26 شباط 1954، استناداً إلى أحكام الدستور.
وقد أيده في ذلك رئيس الأركان شوكت شقير، ولكن بعض ضباط الجيش رفضوا الاعتراف بهذا الأمر، مثل النقيب عبد الحق شحادة، آمر الشرطة العسكرية، وزميله النقيب حسين حدة، آمر المدرعات في منطقة القابون. فقد أصدرا بياناً مزوراً عبر إذاعة دمشق، حمل اسم رئيس الأركان، يطالبون فيه باستمرار المقاومة لاستعادة شرعية الشيشكلي رئيساً على سورية.
سقط الرؤساء السوريون الثلاثة جميل الألشي، سعيد إسحاق ومأمون الكزبري من حسابات الناس وذاكرتهم بسبب قصر مدة حكمهم التي وصلت إحداها إلى 24 ساعة لا غير
وقد أجبر الكزبري عن ترك المنصب بعد ثلاثة أيام، عند عودة هاشم الأتاسي من حمص في 1 آذار 1954، لإكمال ولايته الشرعية التي بدأت سنة 1950، وكانت قد قطعت بسبب انقلاب الشيشكلي في تشرين الثاني 1951.
إذا حسبنا هؤلاء الأشخاص، وعدنا إلى مرحلة الانتداب الفرنسي، يكون عدد رؤساء سورية قد وصل إلى 23، وهم على الشكل التالي:
1. صبحي بركات (رئيس دولة الاتحاد السوري): 31 آب – 21 كانون الأول 1925. (4 أشهر)
2. الداماد أحمد نامي (رئيس دولة ورئيس وزراء): 26 نيسان 1926 – 8 شباط 1928. (سنة و10 أشهر)
3. محمد علي العابد (رئيس جمهورية): 11 حزيران 1932 – 21 كانون الأول 1936. (4 سنوات وستة أشهر)
4. هاشم الأتاسي (رئيس جمهورية): 21 كانون الأول 1936 – 7 تموز 1939. (سنتين وسبعة أشهر)
5. تاج الدين الحسني (رئيس جمهورية): 12 أيلول 1941 – 17 كانون الثاني 1943. (سنة وأربعة أشهر)
6. جميل الألشي (رئيس جمهورية بالوكالة): 17 كانون الثاني – 25 آذار 1943. (شهرين)
7. عطا الأيوبي (رئيس دولة): 25 آذار – 17 آب 1943 (خمسة أشهر)
8. شكري القوتلي (رئيس جمهورية): 17 آب 1943 – 29 آذار 1949 (خمس سنوات وسبعة أشهر)
9. حسني الزعيم (رئيس جمهورية): 25 حزيران – 14 آب 1949 (شهرين)
10. هاشم الأتاسي (رئيس وزراء ثم رئيس دولة ثم رئيس جمهورية): 14 كانون الأول 1949 – 2 كانون الأول 1951 (سنتين)
11. سعيد إسحاق (رئيس جمهورية بالوكالة): 2-3 كانون الأول 1951 (24 ساعة)
12. فوزي سلو (رئيس دولة): 3 كانون الأول 1951 – 11 تموز 1953 (سنة وسبعة أشهر)
13. أديب الشيشكلي (رئيس جمهورية): 11 تموز 1953 – 25 شباط 1954 (سبعة أشهر)
14. مأمون الكزبري (رئيس جمهورية بالوكالة): 26 شباط – 1 آذار 1954 (ثلاثة أيام)
15. شكري القوتلي (رئيس جمهورية): 6 أيلول 1955 – 22 شباط 1958 (سنتين وخمسة أشهر)
16. جمال عبد الناصر (رئيس جمهورية): 22 شباط 1958 – 28 أيلول 1961 (ثلاث سنوات وسبعة أشهر)
17. ناظم القدسي (رئيس جمهورية): 14 كانون الأول 1961 – 8 آذار 1963 (سنة وثلاثة أشهر)
18. لؤي الأتاسي (رئيس مجلس قيادة الثورة): 9 آذار – 27 تموز 1963 (ثلاثة أشهر)
19. أمين الحافظ (رئيس مجلس قيادة الثورة ثم رئيس مجلس رئاسي): 27 تموز 1963 – 23 شباط 1966 (سنتين وسبعة أشهر)
20. نور الدين الأتاسي (رئيس دولة): 25 شباط 1966 – 17 تشرين الثاني 1970 (أربع سنوات وتسعة أشهر)
21. أحمد الخطيب (رئيس دولة): 18 تشرين الثاني 1970 – 12 آذار 1971 (أربعة أشهر)
22. حافظ الأسد (رئيس جمهورية): 12 آذار 1971 – 10 حزيران 2000 (ثلاثون سنة)
23. بشار الأسد (رئيس جمهورية): 17 تموز 2000 – حتى الآن
المصدر: رصيف – مواقع إلكترونية