لماذا تتجه الميزانيات العسكرية لدول العالم نحو التوسع أكثر في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.. كيف تتجلى هذه النزعة في أوروبا؟
قالت مجلة “إيكونوميست” (The Economist) البريطانية إن الحرب الروسية على أوكرانيا أظهرت أن العالم اليوم يتنازعه تياران: تيار يؤيد المزيد من الإنفاق على القوة العسكرية، وآخر يدعم برامج الرفاه الاجتماعي للشعوب.
وذكرت في تقرير اقتصادي أن الميزانيات العسكرية لدول العالم تتجه نحو التوسع أكثر في أعقاب تلك الحرب، وأن هذه النزعة أكثر ما تتجلى في أوروبا، حيث يلوح التهديد الناجم عن الحرب الروسية في الأفق.
فقد قررت كل من ألمانيا وإيطاليا والنرويج -من بين دول أخرى- بالفعل إنفاق المزيد من ميزانياتها على الدفاع، بينما تعمل الولايات المتحدة والصين -وهما أكبر دولتين من حيث الإنفاق العسكري- على زيادة المخصصات لقطاع الدفاع.
ولم يقتصر الأمر في ذلك على الدول الكبرى وحدها، إذ تؤكد المجلة في تقريرها أن هذا المنحى يبدو أنه أمر لا مفر منه حتى بالنسبة للدول الصغرى، قبل أن تتساءل عن حجم التبعات الاقتصادية المترتبة عن هذا الزخم.
وتضيف أن الحكومات عندما تنفق مزيدا من مواردها على الجنود والأسلحة، فلن يتبقى لديها الكثير لتنفقه على بقية القطاعات.
إذا لم تخصص حكومة ما موارد مالية كافية في نظام التعليم من أجل شراء أسلحة جديدة، فإن تأثير ذلك على المدى الطويل سيكون ضارا على الإنتاجية والنمو في نهاية المطاف
ومن ثم، فهناك افتراض شائع مفاده أن أي إنفاق زائد على الجيوش مضرّ بالنمو والتطور، لكن المجلة البريطانية ترى أن العلاقة بين طرفي المعادلة ليست بتلك البساطة. ففي بعض الحالات قد تتمخض ميزانيات الدفاع الكبرى في الواقع عن فوائد اقتصادية جمة.
فالنموذج التقليدي لإيضاح الخسائر المحتملة من الفرص الضائعة (أو ما يعرف أيضا باسم تكلفة الفرص البديلة)، تتمثل في الصرف على السلاح مقابل الإنفاق على البرامج الاجتماعية، “فكلما حققت الكثير في واحد من القطاعين، كان الإنتاج المتحصل من الآخر أقل”.
المغالاة في الإنفاق على الدفاع تدمر الاقتصاد
ويسري هذا النموذج البسيط على أي سنة من السنوات. فالحكومات لديها ميزانيات محدودة يتم توزيع مخصصاتها في اتجاهات مختلفة عديدة، ولهذا فمن السهل أن نرى كيف أن المغالاة في الإنفاق على الدفاع قد تكون مدمرة للاقتصاد.
وإذا لم تخصص حكومة ما موارد مالية كافية في نظام التعليم من أجل شراء أسلحة جديدة، فإن تأثير ذلك على المدى الطويل سيكون ضارا على الإنتاجية والنمو في نهاية المطاف، وفق المجلة.
وبحسب المجلة، يعتقد بعض الاقتصاديين أن أميركا تقترب من منطقة الخطر تلك.
وكانت مؤسسة راند (The Rand Corporation) الأميركية للأبحاث والتطوير، قد نشرت عام 2021 تقريرا حددت فيه اثنين من المخاطر التي تواجه الدولة الأميركية:
الخطر الأول: أن الحكومة إذا ما خصصت أموالا للدفاع على حساب مشاريع البنية التحتية، فإنها قد تقوّض بذلك فرص النمو على المدى الطويل، “ذلك لأن أميركا بحاجة ماسة لطرق وموانئ أفضل وغيرها”.
الخطر الثاني: هو أن الإنفاق على الدفاع يساهم في زيادة العبء على الدين العام. ويخلص معدو التقرير إلى أنه في الحالتين فإن أي شيء يضعف من القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، سيضرّ في النهاية بقواتها المسلحة.
ولربما هناك ما يتعلق بصلب الموضوع، وهو أن المفاضلة بين تلك المخاطر تلحق الأذى بالاقتصاد على مستوى الولايات المتحدة، “التي بلغت ميزانيتها العسكرية خلال العقد الماضي في المتوسط أكثر من 4% من إجمالي ناتجها المحلي”.
في عالم تقوّض استقراره قوى تحركها دوافع الثأر، فإن الحقيقة تكمن في القوة العسكرية والرفاه الاجتماعي على حد سواء، وإن من دواعي الأسف أن الدفاع القوي هو من مقتضيات الاقتصاد القوي
غير أن ثمة تعقيدات تظهر عند دراسة الاتجاهات السائدة بمرور الوقت. فالدولة العضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تعد أكثر إنفاقا على قطاع الدفاع (بنحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي)، هي إسرائيل، التي تتباهى على الدوام بأن اقتصادها من بين الأسرع نموا في المجموعة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن اليابان واحدة من أقل دول المنظمة إنفاقا على القطاع العسكري من حيث حصته من الناتج المحلي الإجمالي، وهي إحدى الدول الأبطأ نموا.
وفي حقيقة الأمر -بحسب إيكونوميست- فإنه أشبه بالمستحيل الوقوف على نمط في تلك البيانات، إذ هنالك دول -مثل إيرلندا- تخصص موارد مالية في ميزانياتها العسكرية مماثلة لليابان، إلا أنها تحقق نموا شبيها بما تحققه إسرائيل.
وتخلص المجلة إلى أن اقتفاء أثر الإنفاق العسكري على النمو أو الابتكار يكتسب أهمية، إلا أن مثل هذه الممارسات قد تغفل السياق الأعم الذي تشكله الحرب الروسية على أوكرانيا.
وتشير المجلة في تقريرها إلى أن السلام والاستقرار يمثلان عنصرا جوهريا لأي اقتصاد ناجح، فهو الذي يمنح الثقة للشركات أن تستثمر ويتيح المجال للشعوب أن تزدهر.
لكن في عالم تقوض استقراره قوى تحركها دوافع الثأر، فإن الحقيقة تكمن في القوة العسكرية والرفاه الاجتماعي على حد سواء، فمن دواعي الأسف أن الدفاع القوي هو من مقتضيات الاقتصاد القوي.
المصدر : إيكونوميست – مواقع إلكترونية