تركيا تفتح ذراعيها لآلاف اللبنانيين “الهاربين” من البلد.. واللبنانيات يودعن الرفاهية ويعملن في مهن شاقة

بالتزامن مع الأزمة الاقتصاديّة التي يمر بها لبنان، صرّح الأب طوني خضرة، رئيس مؤسسة “لابورا” المعنية برصد مشكلة الفقر والبطالة، قائلاً إن 230 ألف مواطن غادروا الأراضي اللبنانيّة خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 2021 قصداً للهجرة.

وقالت جريدة “المدن” اللبنانية، إن “انهيار الليرة اللبنانيّة أمام الدولار الأميركي يأتي في صدارة أسباب الهجرة، حيث أن سعر الدولار الواحد لامس 21 ألف ليرة، بالاضافة الى سقوط آلاف العائلات اللبنانيّة في هوة الفقر المدقع، بسبب تبخّر قيمة الأجور والمداخيل، ما دفع بالأدمغة للهجرة في أصقاع الأرض بحثاً عن ظروف معيشيّة أفضل، وفرص عمل أوسع، وبلد يوفر الأمن والأمان، اللذين فقداه في لبنان، خصوصاً بعد انفجار 4 اب 2020”.

تركيا: وجهة مفضلة

وتضيف “المدن”: “يعدّ قرار إلغاء تأشيرات السفر بين لبنان وتركيا عام 2010 من أهم العوامل التي دفعت بالشباب للهجرة نحو تركيا، إضافة إلى أنها فتحت باباً أمام الأجانب للاستثمار، ومن ثمّ الحصول على الإقامة والجنسيّة التركيّة للاستقرار”.

وبحسب “المدن” فإن البيئة الاستثمارية في تركيا أكثر جذباً من بلدان أخرى. فهي تقدم فرصاً للمستثمرين في العديد من القطاعات؛ منها الموقع الاستراتيجي كوجهة سياحية في الدرجة الأولى، وإتساع السوق المحليّة، والبيئة المناسبة، إضافة إلى سهولة التصدير للدول المجاورة. كما أنها توفّر فرصاً كبيرة كالإعفاء من ضريبة القيمة المضافة، وتخفيضات على الرسوم الجمركية.

مقبرة الأحلام

“الهروب من الموت”. بهذه العبارة استهلّ أحمد يونس حديثه لـ”المدن”. وهو في بداية العقد الثالث، حائز على شهادة جامعيّة بإدارة الأعمال من الجامعة اللبنانيّة. وعمل في محل لبيع الأجهزة الخلوية والأجهزة الإلكترونيّة، ويتقاضى مليوناً ونصف مليون ليرة لبنانيّة.

يشرح أحمد ل”المدن” أنه لطالما تمنّى أن يحقق أحلامه في لبنان، لكن أسباباً كثيرة جعلته يفكر بالهجرة، ومنها التفلّت الأمني، وازدياد الكراهية الطائفية والسلاح غير الشرعي المنتشر لدى الناس، إضافة إلى فقدان الأمان في لبنان، خصوصاً بعد انفجار 4 آب الذي أسفر عن 219 ضحية و7000 إصابة، من دون معرفة القاتل، بسبب التدخلات السياسيّة.

يضيف ل”المدن” “”قرّرت الهروب من الموت، فلا أريد أن أكون ضحيّة جديدة، ولا جثة هامدة وأشلاء متفرّقة فداءً لأي زعيم سياسيّ. وكانت تركيا الخيار الأمثل! زرت تركيا عدة مرات بقصد السياحة. ولم أفكر في الهجرة إلا بعد انفجار المرفأ.

تابع أحمد خلال حديثه ل”المدن”: ” فأنا لم أنم ليلتها؛ كنت أريد الهرب بأي وسيلة. وكان بحوزتي رأسمال صغير وهو 4000$، وقررت المغامرة والانتقال إلى اسطنبول بحثاً عن فرصة عمل”.

ويروي أحمد ل”المدن”: “سكنت في منزل صغير يتألف من غرفتين، وقمت باستعمال رأسمالي الصغير لتدبير أموري، ريثما أجد وظيفة مناسبة. وقضيت حوالى شهرين أبحث عن عمل أنا ويارا، التي رافقتني في انتقالي من بيروت، وأصبحت زوجتي اليوم، وننتظر مولودنا الأول. فهي مثلي، تبحث عن الأمن والأمان ولو بالصين! وبدأت بالعمل لدى شركة أوروبية في تركيا”.

أما يارا فقد انضمت إلى مطعم عربي في ضواحي اسطنبول، وقد ساعدتني لغتي الأجنبية على التواصل في الشركة ومع زبائنها وقضاء أمور حياتي اليوميّة. أما يارا فقد تعلّمت اللغة التركيّة في بيروت سابقاً. وما نجنيه شهرياً كفيل بقضاء كل احتياجاتنا الشهريّة. فنحن نقوم بوضع برنامج لتقسيم مصاريفنا اليوميّة.

ويقول ل”المدن”: الحياة في تركيا ليست مثالية، فلا يمكنك تحصيل الكثيرمن المال كأوروبا وأفريقيا، ولكنها توفر لك الأمان الذي افتقدناه في لبنان، إضافة إلى أنها تضمن حقوق المواطنين الأتراك والأجانب على حد سواء.

وهذان السببان كافيان للاستقرار. أتقاضى شهرياً بالدولار الأميركي، وزوجتي بالليرة التركيّة. ونقوم بدفع إيجارمنزلنا وشراء مستلزماتنا الشهريّة وعندما نشعر بالملل,. نتنقل بين مناطق تركيا السياحيّة: “لن أعود إلى لبنان، ولو أصبحت متسولاً في شوارع اسطنبول. فالتسول أفضل من الموت على أبواب المستشفيات”.

أسباب الإقبال على تركيا

وبحسب جريدة “المدن” تعد تركيا من أفضل البلاد للعيش والاستقرار، وذلك بسبب انخفاض الأسعار في تركيا نوعاً ما، مقارنة بالدول العربيّة والغربيّة، من ناحية التكاليف المعيشيّة والطعام والمواصلات والسكن وغيرها. كما أنها تضم مختلف الثقافات والديانات وتتشابه طبيعة المجتمعات بين العرب والأتراك، إضافة إلى العلاقات القديمة التاريخيّة المميزة بين لبنان وتركيا.

يقول محمد شرقاوي ل”المدن”، وهو لبناني في أواخر العقد الثالث، انتقل للاستقرار في تركيا في أوائل العام، ويعمل في مصنع لبيع الألبسة النسائية في اسطنبول، إنه منذ مطلع شبابه حاول السفر لعدة بلدان قصداً للهجرة، وذلك بسبب عدم رغبته بالبقاء في لبنان، بسبب الوضع السياسي والأمني، وحاول الحصول على تأشيرة للانتقال إلى ألمانيا ولم يُوفّق. فانتقل أخيراً إلى تركيا لعدم الحاجة إلى تأشيرة، وانخفاض كلفة السفر من لبنان إلى تركيا التي لا تتعدّى 300 دولار.

يقول: ما يميّز هذا البلد أنه يتمتّع باقتصاد متين. ويعود ذلك بسبب التجارة المتوسعة مع مختلف أنحاء العالم. فحسب وزير التجارة التركي، محمد موش، للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركيّة تتجاوز صادرات بلاده 1% من إجمالي الصادرات العالميّة، مشيراً إلى أن المنتجات التركية أصبحت تصدر إلى كافة أصقاع العالم. وهذا النجاح لتركيا كلها.

فرصة للعمل وللترفيه

يضيف محمد في حديثه ل”المدن” عن مزايا العيش في تركيا: كلما شعرت بالضجر، لست بحاجة لتكاليف باهظة للقيام برحلة ترفيهيّة. بل يكفي أن تقصد جسر البوسفور، كما بإمكانك زيارة المعالم التاريخيّة والثقافيّة والسياحيّة المتنوعة. ولكل فصل من السنة سياحة خاصة؛ ففي فصل الصيف أذهب إلى شواطئ مارماريس. أما في فصل الشتاء فهل هناك أجمل من بياض الثلج والاستمتاع بروعة الأجواء التركية في مقهى مريح، مع تناول البقلاوة اللذيذة وفنجان ساخن من القهوة التركيّة؟

يعبّر محمد عن حزنه على هجرة معظم الشباب من لبنان ويقول: لطالما تميّز اللبنانيون بحبهم للحياة، وسعيهم لبناء مستقبل أفضل في لبنان. ولكن من أوصلناهم لحكمنا.. قتلونا وفجّرونا! ولم يبق أمامنا أي خيار سوى الهجرة. لا أنكر بأني تأملت خيراً في ثورة 17 تشرين، وشاركت فيها سعياً لتحسين أحوال لبنان، ولكن الطبقة الحاكمة ومن حولها لا تريد للبنان الازدهار.

اللبنانيات يودعن الرفاهية ويعملن في مهن شاقة

قالت جريدة “المدن” أن “الأزمة الماليّة أدت إلى تبخّر قيمة المداخيل. إذ أن الارتفاع المستمرّ للدولارالأميركي أمام الليرة اللبنانيّة أفقدها قيمتها، وجعل الرواتب الشهريّة لا تكفي لسداد كلفة المولدات الكهربائيّة. وبناءً عليه، فقد لجأت الكثير من النساء اللبنانيّات إلى الانخراط في سوق العمل من أجل مساعدة عائلاتهن من خطر الجوع، الذي بات يدقّ أبواب اللبنانيين ويهدّدهم بالعوز”.

أضافت “يأتي انخراط النساء اللبنانيات في العمل لأن معظم العائلات تخلّت عن خدمة العاملة الأجنبية في بيوتها، بسبب عدم قدرتها على دفع أجرها بالدولار الأميركي، بعد أن لامس عتبة 21 ألف ليرة لبنانيّة؛ ولأن أغلب العاملات الأجنبيات فضّلن العودة إلى بلادهن ولم يعد لبنان المكان المناسب لهن.. فقد عرضت الكثير من ربّات المنازل اللبنانيّات على مواقع التواصل الاجتماعي استعدادهن للعمل في الخدمة المنزليّة، من أجل تأمين قوتهّن اليوميّ”.

أبكي خلسة

تنقل جريدة “المدن” عن منى قولها “جعنا.. الشغل مش عيب المهم ناكل”. بهذه العبارة برّرت “منى” عملها بالخدمة المنزلية، وهي إمرأة متزوجة في العقد الرابع، وأم لطفلين، دفعت بها الحاجة نحو العمل في منازل الناس يومياً. فراتب زوجها الشهري الذي يعمل في مطعم ويتقاضى مليوناً ونصف المليون ليرة لبنانيّة، لم يعد كافيّاً لإطعام أولادها وتعليمهم.

تروي منى لـ”المدن” عن الأسباب التي دفعت بها للعمل في الخدمة المنزليّة، وتقول إنها تحتاج شهرياً إلى 800 ألف ليرة لبنانيّة لإيجار منزلها، المؤلّف من غرفتين ومطبخ، و500 ألف ليرة لصاحب المولد الكهربائي مقابل 2 أمبير فقط، و600 ألف ليرة بين أقساط ومستلزمات المدرسة الرسميّة، إضافة لحاجتها لشراء مؤنة لبيتها من أجل تحضير الطعام لأطفالها.

لجأت منى لطلب العمل بالساعة عند سيّدة مقيمة في بيروت، بشكل يومي. فهي إمرأة عاجزة، لذا أقوم بمهامها اليوميّة. أرتب منزلها وأنظفّه، وأقوم بتحضير الطعام لعائلتها، واتفقت معها من الإثنين إلى الجمعة، كل يوم 3 ساعات وبدل الساعة الواحدة 35 ألف ليرة لبنانيّة.

لم يكن الأمر سهلاً، ولكني مجبرة من أجل عائلتي. أشعر بالتعب في كثير من الأوقات، وأبكي خلسةُ وأنا أنظف مراحيض الناس. ولكن ماذا أفعل؟ لا يمكنني أن أرى طفلي جائعاً وأنا غير قادرة على إطعامه. طلبنا المساعدة من كثير من مكاتب بعض النواب الذين قمنا بانتخابهم، ولكن لا إجابة.. بكرا، وقت الانتخابات بيتذكرونا بكرتونة إعاشة من أجل الحصول على أصواتنا!

وتضيف بلوعة: نعم كثيراً ما كنت أشعر بالإحراج، فهذه المهنة كانت للعاملات الأجنبيّة وليست للبنانيات. ولكن أدركت مؤخراً أن “الشغل مش عيب”. صحيح أنّ هذه الأزمة غيرت حياتي رأساً على عقب، ونحن في مجتمع لا يرحم المرأة. فأنا أسمع بعض جيراني يتهامسون خلفي”حرام عم تشتغل خدّامة”؛ أمسح دمعتي وأكمل طريقي. الشغل صعب.. لكنّ الحاجة أصعب!

عربة سكاكر

والأزمة طالت “هناء” أيضاً. وهي متزوجة وأم لثلاثة أطفال، في العقد الخامس من عمرها، وزوجها يملك “فاناً” صغيراً يعمل عليه يومياً. وبسبب عدم قدرتهما على تأمين إيجار بيتهما، جعلها تفكّر في أي طريقة لجني المال. طلب صاحب المنزل مليوني ليرة لبنانيّة للإيجار، وصاحب الاشتراك الكهربائي مليوناً ومئة ألف ليرة لبنانيّة. كل هذه الأرقام وأنا لم أدفع الأقساط المدرسية، ولم أشتر الكتب المدرسيّة، ولم أجلب طعاماً لأولادي بعد..

لذا، قررنا تأمين عربة صغيرة، وضعت عليها أصنافاً عديدة من السكاكر لبيعها للأطفال، لا يتعدى سعر الصنف الواحد 1500 ليرة لبنانيّة. يبدأ نهاري من السادسة صباحاً، أقوم بتوصيل أطفالي للمدرسة وأبدأ بترتيب السكاكر على العربة بعلبها الملونّة، وأسجل نواقصي لأقوم بشرائها من التاجر في اليوم نفسه.

تضيف، أتعامل مع تاجر يشعر بمعاناتي ويساعدني عبر تأمين السكاكر وعدم دفع ثمنها سوى لحظة بيعها كلها، ومن ثمّ أقوم بأخذ ربحي وإعطائه ثمن سكاكره. أبدأ بالعمل منذ السابعة صباحاً وعند الثانية ظهراً أجلب أطفالي من المدرسة وأعود للعربة.

أقوم أحياناً بتحضير طعام أطفالي وأنا أجلس قرب العربة، فأنا بحوزتي غاز صغير أستعمله لأحضر الأطعمة الخفيفة والقهوة لأشعر ببعض الأنس خلال النهار. ويقومون بتحضير دروسهم قربي بانتظار أن نذهب سوياً للبيت عند الساعة السابعة مساءً. لم أحتج أي مساعدة حتى الآن، ولكني خائفة من الشتاء، ولا أعلم كيف سأستطيع وضع عربتي من دون وصول الماء إليها. وأسعى لتأمين ستارة واقية من الماء لأضعها على العربة ريثما تهدأ الأزمة الاقتصادية ونجد بعض الحلول المناسبة.

مطعم.. من المنزل

تعدّدت المهن والحاجة واحدة، فمن الخدمة المنزلية إلى عربة السكاكر.. “هدى” تمتهن تحضير وجبات الطعام وبيعها للزبائن من منزلها. إزاء التضخم المالي وانخفاض القدرة الشرائيّة للمواطنين، ولأن كلفة إيجار أي محل لفتح أي مشروع باتت في غاية الصعوبة، قررت هدى العمل من منزلها لتتحدى هذه الظروف الصعبة. وهي امرأة في منتصف العقد الرابع، متزوجة من سائق سيارة أجرة وأم لأربعة أطفال .وهي كباقي النساء اللبنانيات التي أجبرت على دخول سوق العمل من أجل مساعدة زوجها صاحب الدخل المحدود، في ظل ارتفاع سعر صفيحة البنزين إلى أكثر 300 ألف ليرة.

تنشر صور وجبات الطعام وأسعارها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتقوم بتحضير أي وجبة يرغبها الزبون حتى الصعب منها، والذي يتطلب بعض التعب لإتمامه “كالاوزه .. الكراعين.. رأس النيفة”.

وتقوم بإعطاء أسعار مناسبة للمناسبات. كما تقدم وجبات يومية لطلاب الجامعات وللموظفين الذين يتعاملون معها يومياً. تقول:لم أتوقع أن ألجأ للعمل، وأن أعرض طبخي على وسائل التواصل الاجتماعي. لكني لطالما كنت أتلقى المدح في “لقمة الأكل التي أحضرها حين يأتي أصدقاء أولادي”. تشجعت وقررت البدء من منزلي وربما لاحقاً أقوم بفتح محل صغير لي.. لا أحد يعلم! أزور السوق يومياً منذ الصباح الباكر لشراء الخضار والأغراض اللازمة للوجبات التي سأحضرها، وأقوم بتجهيز علب الألمنيوم التي سأضع الوجبة فيها. أواجه بعض التعب، ولكني بحاجة لأن أساعد زوجي الذي يسعى من الصباح إلى المساء لتأمين قوتنا اليومي. مصروفنا الشهري بات كبيراً، فإيجار منزلنا وحده مليون وسبعمئة ألف ليرة، وصاحب المولد الكهربائي يقوم برفع أسعاره شهرياً.

نحتاج إلى تعبئة قارورة الغاز مرتين في الشهر. وقد وصل سعرها إلى 250 ألف ليرة. كما يحتاج زوجي إلى تعبئة سيارته بالوقود أسبوعياً. ناهيك عن مصاريفنا اليومية من أكل وطبابة وغيرها الكثير.. لذا، أمام كل هذه الأعباء التي تواجهنا في لبنان، لم يعد أمامنا أي خيار سوى المواجهة والكد في العمل!

المصدر : فرح منصور (جريدة المدن الالكترونية)

 

Exit mobile version