هي قاهرة المعز أو المحروسة كما يحلو للبعض تسميتها، ويقولون عنها جوهرة الشرق، وهي كذلك مدينة الألف مئذنة، ويدعوها البعض باريس الشرق. كل هذه ألقاب للقاهرة، أكبر مدن أفريقيا والشرق الأوسط، وواحدة من أكبر عشرين مدينة عالمية.
من شارع المعز نبدأ على بركة الله، وسوف يصحبنا في هذه الجولة في شوارع وحارات القاهرة العتيقة سامح الزهّار الباحث في التاريخ الإسلامي وآثار القاهرة، ومعه الرسام محمد وهبة الشناوي، وسوف يصور فريقنا فيلما من حلقتين لا تكادان تغطيان جزءا يسيرا من عبق التاريخ وأصالة الماضي في المحروسة، لتعرضه قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “قلب مدينة”.
هزيمة كليوباترا.. مدينة الألف حكاية
القاهرة مدينة الألف حكاية، كل عصر مرّ عليها ترك فيها بصمة ما زالت تظهر عليها الآن، انتصارات وهزائم ومؤامرات ونوادر وصُنّاع وفنانون ورثوا مهارة أجدادهم المصريين القدماء. سوف نحكي عن حقائق تاريخية وأحداث خيالية وقصص وحكايات امتزجت في النهاية في أسطورة واحدة تحكي قصة مدينة عتيقة اسمها القاهرة.
لم تكن بداية القاهرة مع الدولة الفاطمية فقط، قد تكون التسمية وحدها والشكل النهائي هما ما يرتبطان بالفاطميين، أما المدينة وأرضها فقد بدأت منذ سنة 31 قبل الميلاد، عندما هُزمت “كليوباترا” على يد “أوكتافيوس”، حيث آلت كل ملكيات الرومان الغربيين فيها إلى الشرقيين، فتغير شكل المدينة.
في العصر الروماني وقبل ظهور المسيحية وصلت العائلة المقدسة إلى القاهرة هربا من “هيدريوس” حاكم القدس الروماني، وقد كان طريقهم صعبا وقاسيا وطويلا، وفي كل محطة توقفوا واختبؤوا فيها بنى الناس بعدهم كنيسة، من حي بابليون إلى المطرية إلى الصعيد، كانت الكنيسة المعلقة أولى هذه الكنائس، وسميت بالمعلقة لأنها بنيت فوق برجين من أبراج حصن بابليون.
بنيت الكنيسة على شكل سفينة نوح وكانت مقرا للبطارقة الأقباط زمنا طويلا، أما حصن بابليون فهو أحد أهم الحصون الرومانية، بني في القرن الـ12 الميلادي، ويُرجِع مؤرخون بناءه الأول إلى القرن الرابع، وقد كان يسمى حصن الشمع، لكثرة الشموع التي تنيره في الليل وتنعكس الأضواء على صفحة النيل لتعطيه منظرا خلابا.
فتح مصر.. أرطبون العرب يعتلي أسوار بابليون
عندما وصل الفتح الإسلامي إلى مصر وقف الجيش عاجزا أمام هذا الحصن وحاصره سبعة أشهر، إلى أن اهتدى الصحابي الجليل الزبير بن العوام إلى حيلة السلالم الخشبية الطويلة والحبال واعتلى الحصن وكبّر، وبعدها تبعه الجيش واحتلوا القرى الرومانية تباعا، وفتحت مصر للمسلمين في سنة 640 للميلاد، الموافقة للعام 19 للهجرة.
وقد بنى القائد المسلم والصحابي الجليل عمرو بن العاص مدينة الفسطاط لتكون مقرا لحكمه في مصر، والفسطاط كلمة قيل إن أصولها يونانية وتعني الحصن أو الخندق، والأرجح أنها كلمة عربية تعني الخيمة، وهي من أوائل المدن التي شكّلت الكيان الذي سمّي فيما بعد بالقاهرة.
في القرن العاشر الميلادي زار العالِم الجغرافي ابن حوقل مدينة الفسطاط، وكتب عنها في كتابه المسمّى صورة الأرض ما نصه: مدينة كبيرة على غاية العمارة والخصب والطيبة واللذة، ذات رحاب في مَحالّها، فيها أسواق عِظام ومتاجر فخام، منظر أنيق وهواء رقيق وبساتين نضرة ومتنزهات على مرّ الأيام خَضِرة.
وفي القرن 12 الميلادي وصل القائد الصليبي “أموري” في محاولة لغزو مصر، فأمر الوزير الفاطمي “شاوِرْ” أهل الفسطاط بإخلائها، فقد كانت المدينة بلا أسوار ولا حصون تحميها، فخرج الناس في خوف وهلع، واحترقت المدينة عن بكرة أبيها بنيران الصليبيين لمدة 54 يوما متواصلة، حتى صارت أطلالا، ولم يبق فيها قائما إلا جامع عمرو بن العاص.
مدينة القطائع.. ابن طولون يغرد خارج سرب بغداد
في القرن التاسع للميلاد وصل البلاد أقوى قادة البلاط العباسي أحمد بن طولون، وكان هذا القائد على قدر كبير من الذكاء والدهاء بحيث استقل بمصر عن الدولة العباسية، وبنى له مدينة جديدة لتكون عاصمة لحكمه وسماها القطائع، ويحتل مكانها الآن حي السيدة زينب.
في هذا الحي تروى قصة طريفة مفادها أن ابن طولون كان يفرض ضرائب باهظة على دور العبادة لغير المسلمين، وكانت في الحي كنيسة قديمة مشهورة، اضطر أهلها لبيعها لليهود حتى يتخلصوا من دفع الضرائب، وكان هنالك اتفاق بينهم وبين اليهود على إعادة الكنيسة بعد مئة عام، وكتبت الوثيقة ولكن بدون تاريخ، وبقيت الكنيسة معبدا يهوديا إلى يومنا هذا، وما زال اليهود يماطلون.
أراد ابن طولون أن يبني جامعا يخلّد ذكره دون أن يعتدي على أرض أحد أو يسرق أعمدة من أبنية أخرى كما جرت عادة الملوك، فسمع بطلبه مهندس قبطي كان مسجونا في سجون ابن طولون لخلاف معه، وكان اسم هذا المهندس سعيد بن كاتب الفرغاني، وقد أرسل لابن طولون تصاميم لا تحتوي على أعمدة إلا على عمودين للقبلة، فأعجب ابن طولون بالتصميم وأفرج عن المهندس.
شرع المهندس سعيد ببناء الجامع الذي يعد الآن أكبر جامع أثري في مصر، ومن أكبر الجوامع التاريخية في العالم، بمساحة 6.5 فدانا، ولكن حكم أسرة ابن طولون لم يدم أكثر من أربعين عاما، حيث جاء من بعده ابنه خمارويه الذي كان ماجنا ومسرفا حد البذخ وضيَّع حكم أبيه.
إلى جانب جامع ابن طولون وملاصقا له كان هنالك بيت تملؤه الأسرار والحكايات، ونُسِجت حوله القصص والأساطير، اشتراه “الخواجة” الإنجليزي “غاير أندرسون”، وعندما زار البيت لأول مرة رأى من المشربية فتاة جميلة جدا دعته للزيارة فخطفت قلبه بكلماتها، وقرر أن يرجع إلى مصر ثانية للبحث عن الفتاة فلم يجدها، فاشترى البيت إكراما لذكراها وحوَّله إلى متحف.
ومن الأساطير التي نسجت حول هذا البيت، أن من فقد حبيبته فعليه أن يأتي إلى فوهة البئر التي أسفل البيت في الليالي التي يكون فيها القمر بدرا، وينظر في قاع البئر، وسوف يرى وجه حبيبته على صفحة ماء البئر.
دولة الفاطميين.. “اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني”
في القرن العاشر الميلادي هزم الفاطميون العباسيين ودخلوا مصر بقيادة جوهر الصقلي أحد أقوى قادة الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، وهو الذي أمر ببناء عاصمة المعز قبل وصوله، وجوهر هذا كان في الأصل صانع حلويات، ومن هنا جاء المثل الشعبي المشهور: “اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني”.
وتقول الأساطير إن المنجمين ركزوا في عام 969 الميلادي أعمدة وحبالا وأجراسا ينتظرون الطالع السعيد لبناء العاصمة، وأمروا العمال ألا يبدأوا الحفر حتى يسمعوا الأجراس، وحين وقف طائر صدفةً على أحد الحبال دقت جميع الأجراس، وبدأ العمال حفر الأسس، فحاول المنجمون اللحاق بهم ليمنعوهم من الاستمرار، لكن كان قد فات الفوت.
نظر المنجمون إلى النجم الصاعد في السماء ساعتها وكان المريخ، وهذا الكوكب يسمى القاهر بين النجوم في اصطلاح الفلكيين، فأطلقوا اسم القاهرة على العاصمة الجديدة، وقيل إن المعز لدين الله الفاطمي أطلق عليها اسم القاهرة لتكون قاهرة لكل المدن والعواصم حولها.
كانت القاهرة الفاطمية بمساحة 340 فدّانا فقط، وبني القصر الفاطمي الكبير على 70 فدّانا من المساحة الكلية، وخصصت 30 فدانا للحدائق والبساتين، بينما كانت 30 فدانا أخرى للساحات والميادين، وقسمت المساحة الباقية لحارات سكنت فيها فرق الجيش المختلفة، وسمِّيت بأسماء هذه الفرق، وما زال بعض هذه الحارات قائما حتى يومنا هذا.
دخلنا حارة “حوش قدم”، ويعني اسمها بالتركية قدم الخير، وعمرها الآن أكثر من 700 عام، وكان الشاعر أحمد فؤاد نجم ينسج قصائده هنا، بينما كان الشيخ إمام يغني له، وكان أهل الحارة هم الفريق الذي يردد الغناء، ومشينا في الدرب الأحمر والدرب الأصفر وشارع الخيامية وعطفة الحمّام والضبابية، ودخلنا من بوابة بيت القاضي، وكل هذه الأسماء ما تزال على حالها منذ يوم بناها الفاطميون.
أراد الفاطميون أن تكون القاهرة على شكل مجمع سكني خاص محاط بأسوار وله بوابات لا يدخلها غير أهلها إلا بإذن، وكان يسمح لأصحاب الحرف اليدوية وأصناف من الباعة المتجولين أن يدخلوها في أوقات محددة لخدمة ساكني المدينة ثم يغادرون.
وكان شارع المعز أو الشارع الأعظم هو أكبر طريق في القاهرة يوم بنائها، وكان يقسم المدينة إلى قسمين قسم شرقي وآخر غربي، ويمتد من باب زويلة جنوبا إلى باب الفتوح شمالا، وكان هذا الشارع بمثابة القلب السياسي والروحي للقاهرة على مر التاريخ، ويعتبر اليوم أكبر متحف مفتوح للحضارة الإسلامية.
الشدة المستنصرية.. سبع عجاف أهلك ثلث سكان مصر
في العام 1065 الميلادي إبان خلافة المستنصر الفاطمي أصاب القاهرة جدب وقحط وأمراض شديدة نتيجة جفاف النيل، وانتشر الطاعون وعاش الناس شدّة لم تشهدها القاهرة من قبل ولا بعد، واستمرت مدة سبع سنوات، وسميت بالشّدّة المستنصرية، وقد أكل فيها الناس القطط والكلاب والجيف وجثث الأموات، ووصل فيها ثمن رغيف الخبر إلى 15 دينار، بينما بلغ ثمن شربة الماء دينارا، وقد مات فيها ثلث سكان مصر.
استعان المستنصر خلال هذه الشدة بالقائد بدر الدين الجمالي، وكان من أعظم قواد مصر آنذاك، فأنقذ هذا القائد الفذ مصر من الفناء، وأعاد بناء القاهرة ومصر من جديد، ووسَّع القاهرة بـ400 فدان يمكن أن تعتبر بمثابة التوسعة الأولى للمدينة، فخلّد المصريون هذا القائد وأطلقوا اسمه على أحد مناطق القاهرة، حي الجماليه، وشارع الجمالية.
وفي عام 1073 هدم الجمالي السور الفاطمي القديم وبنى سورا بالحجارة، بقيت من أجزائه حتى يومنا هذا أبواب زويلة والفتوح والنصر، وتعلو هذه الأبواب “المزاغل” وهي فتحات يتمركز خلفها الجنود ويرمون الأعداء بالسهام من خلالها، وكانت الجيوش تخرج من باب الفتوح للفتح وتوسعة الدولة، أما باب النصر فكانت تدخل منه الجيوش منتصرة.
أما باب زويلة فهو أكبرها وأكثرها من حيث الاستحكامات الدفاعية، وقد بنيت عليه مئذنتان في عصر المماليك أمر بهما السلطان مؤيد شيخ حتى يكمل بهما جامعه الملاصق للباب، وقد ارتبط اسم باب زويلة بحوادث دموية من قتل وشنق وتعذيب، حصلت على مر العصور التي شهدتها المدينة، وقد يكون من أشهرها إعدام طومان باي آخر سلاطين المماليك.
استمر حكم الفاطميين حوالي 200 سنة كانت من أزهى العصور، خصوصا فيما يتعلق بالحريات الدينية، ويبدو أن الشعب المصري قد تعلّق بهم وأحبهم، للاستقرار السياسي النسبي الذي شهده تحت حكمهم إذا ما قورن بما بعده، ولروح الفكاهة التي كانت لديهم وحبهم للطرب والغناء والحلويات كذلك.
لا يفوتنا ونحن الآن في حارة الكبابجي، أن نشير إلى مبنى رقم 6، وهو كُتّاب البحيري الذي تتلمذ فيه الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ، ومنها ننفذ إلى “قبو قرمز” وهو أحد قبوين بقيا في القاهرة، وفي هذه الأماكن كتب نجيب محفوظ أروع رواياته، على رأسها ثلاثية قصر الشوق وبين القصرين والسُّكَّرية.
شجر الدر.. خاتمة الأيوبيين التي نهشتها الوحوش
بنيت قلعة صلاح الدين سنة 1183 الميلادية بأمر من الناصر صلاح الدين الأيوبي نفسه حين أنهى حكم الفاطميين لمصر، وقد بناها على ربوة عالية (جبل المقطم)، لتشرف على القاهرة الفاطمية وما خارجها كالقطائع وعسكر والفسطاط، وحتى ينهي آثار الفاطميين فقد هدم سور القاهرة، وبنى سورا يضم كل المدن المحيطة، وبهذا أنهى الأيوبيون فكرة القاهرة الملكية، وتحولت إلى المدينة الشعبية التي نراها الآن.
حكم الأيوبيون مصر لمدة 80 عاما، ولكن القلعة بقيت مقر حكم القاهرة ومصر مدة ستة قرون بعدهم. ولا ينبغي أن نمر بالأيوبيين دون أن نذكر أعظم نساء مصر، شجر الدر التي حكمت من وراء حجاب، بعد وفاة زوجها نجم الدين أيوب، وقد أبقت أمر وفاته سرا حتى استتب لها الحكم واستقرت البلاد.
كانت تحكم من خلال زوجها الثاني أيبك الذي بزغ نجمه كأول سلاطين المماليك، لكنها قتلته فيما بعد عندما علمت بزواجه من غيرها، الأمر الذي أوغر صدر ابنه عليّ وأمه (أم عليّ) فقررا قتل شجر الدر، وقد كان مقتلها شنيعا، فقد طافوا بها في القلعة عارية مقيدة، في أذل صورة يمكن أن يتخيلها عقل بشر.
ثم أمرت أم علي النساء أن يضربنها بالقباقيب حتى ماتت، وألقي جسدها من خلال سرداب إلى خارج القلعة، وبقيت جثتها ملقاة تنهشها الوحوش والجوارح، حتى أشفق عليها فلّاح ودفنها في قبر ما زال ضريحا قائما حتى اليوم.
دولة المماليك.. يد تعمر وأخرى تغدر
بدأ حكم المماليك سنة 1250 ميلادي، ولأن الحكم لم يكن بينهم وراثيا فقد كثرت الانقلابات فيما بينهم، وكثر القتل والدم بينهم للفوز بالسلطة، فصار الحكم فيهم لمن غلب، وقد قتل منهم خمسة سلاطين أثناء حكمهم و12 بعد انتهاء حكمهم، واثنان منهم قتلا أثناء حروب، ومات خمسة منهم بالسم على أغلب الظن.
ولكن دولة المماليك كانت بالمجمل قوية، وتركت بصمة واضحة ما زالت آثارها قائمة إلى الآن، وترك المثلث الذهبي من مماليك البحرية المتمثل بالمظفر قطز والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون إرثا ثقافيا وحضاريا ومعماريا ما زال مؤثرا في القاهرة العتيقة حتى يومنا هذا.
ما زال لفظ “أسطه” يُستخدم للحرفيين الكبار، وهي كلمة استخدمها المماليك قديما للإشارة إلى نقّاشي ومزخرفي النحاس والفنانين في الصنعات الأخرى مثل الأرابيسك (فن الزخرفة العربية) والنقش على الصدف وما شابه، وكان السلاطين يكرمونهم بالمال ويكفونهم مؤونة أهلهم وعيالهم من أجل أن يبدعوا في النقش.
فنون ونقوش متوارثة
وما زالت هذه الصناعات اليدوية متوارَثة عبر الأجيال إلى وقتنا الحاضر، وقلب القاهرة العتيقة ما زال يحتويها، وعلى الرغم من دخول الآلات الكهربائية على هذه الحرف، فإنها بحاجة للذوق والفن البشري، ومن المؤسف أن هذه الحرف ما عادت تستحوذ على اهتمامات جيل اليوم، وهي في طريقها إلى الانقراض إذا لم تتنبه الدولة والمنظمات راعية التراث لها.
وتظهر أيضا حرفة تشكيل الزجاج، وذلك لسدِّ النقص الحاصل نتيجة تكسّر ألواح الشبابيك والمشربيات القديمة، وكذلك فوانيس الإضاءة في المباني التراثية والمساجد، وهي حرفة آيلة للانقراض كذلك، والعاملون فيها الآن معدودون على الأصابع، كما يقول حسن هدهد الذي ورث هذه الصنعة عن أبيه وجده، ويورثها لابنه وابنته اللذيْنِ يعملان في المشغل معه.
أما “حمّام إينال” فهو من أقدم وأروع الحمامات الإسلامية العتيقة التي ما زالت تنبض بالحياة في قلب القاهرة، ومن هذا الحمام خرج المثل المشهور: “اللي اختشوا ماتوا”، حيث تقول القصة الشعبية إن مجموعة من النساء كنَّ يستحممْن عندما شب حريق كبير في الحمام، فخرجت بعض النسوة عرايا هربا من النار، وعندما وبّخهنّ الناس في الخارج على هذا المنظر قلن لهم: “اللي اختشوا ماتوا”، في إشارة إلى النساء الحييّات اللاتي أبين الخروج من الحمام عرايا فاحترقن.
“الجامع الحرام”.. هزيمة الجيش الذي لا يقهر
خلف قلاوون ابنه الناصر محمد، وكان عهده زاهرا رغدا في مدينة القاهرة، ثم جاء السلطان حسن ابن الناصر محمد فحاول أن يرفع من شأن المماليك الصغار الذين لم يكونوا عبيدا قط، وكانو يسمّون “طائفة أولاد الناس”، فتنبه لهذا التوجه أحد تلاميذ السلطان من المماليك القدماء واسمه “يلوبغا”، فكاد للسلطان حسن وقتله وتولى الملك مكانه.
ثم تولى السلطان قنصوه الغوري العرش وهو ابن ستين عاما بعد أن توافق عليه المماليك بمختلف أطيافهم، وطلب منهم أن يخبروه متى ما رأوا أنه بات غير مناسب للحكم، حتى يتنازل دون أن يقتلوه كعادتهم، وكعادة السلاطين بنى الغوري الجامع والقبة الخاصة به، ولكن بعد أن هدم أبنية كثيرة في المكان واستخدم أعمدتها وأبوابها في بنائه، فسخر منه الأهالي وسموا جامعه “الجامع الحرام”.
وفي زمن الغوري هُزِم المماليك في مرج دابق من قبل الجيش العثماني، وكانت هزيمتهم حدثا مدويا آنذاك فهم جيش لا يقهر، وهم الوحيدون الذين تصدوا للمغول وهزموهم، فذهب كثير من أهل التاريخ إلى أن خيانة ما أو خدعة عظيمة حدثت في صفوف المماليك في هذه المعركة، والعجيب أن الغوري قتل في هذه الواقعة واختفت جثته إلى الأبد.
غزو العثمانيين.. نهر دماء على باب زويلة
دخل السلطان العثماني سليم الأول القاهرة عام 1517، وطلب من طومان باي آخر سلطان مملوكي أن يبقى في الحكم تحت سلطنته، ولكن طومان باي رفض وتصدى للعثمانيين في جولات كر وفر أنهكتهم كثيرا، ولكنهم ظفروا به في النهاية وشنقوه على “باب زويلة”، وتحولت القاهرة من عاصمة دولة مهابة عمرها 250 عاما، إلى مدينة عادية تابعة للأستانة.
في بداية عهد العثمانيين دخلت القاهرة في مرحلة من الضعف والإهمال لم تعهدها من قبل، وانتشرت الفوضى وقل الأمن وزاد فيها الفقر، وتركها الصنّاع والحرفيون بعد أن أجبرهم السلاطين العثمانيون على السفر إلى الأستانه للعمل هناك، لذا ترى أن الآثار العثمانية قليلة نوعا ما في القاهرة، إذا ما قورنت بالفترة المملوكية.
حملة نابليون.. موسوعة الغازي الذي جمع تاريخ مصر
يعتبر “بيت السناري” بالسيدة زينب أول مجمع علمي في تاريخ مصر، جمع فيه نابليون العلماء الفرنسيين الذين رافقوه في حملته على مصر، وطلب منهم إعداد موسوعة علمية تعتبر من أشمل ما كتب عن مصر والمصريين في شتى المجالات التاريخية والاجتماعية والجغرافية وغيرها، وكتبت في حوالي عشرين مجلدا.
استمرت الحملة ثلاث سنوات كانت الاستفادة الرئيسية منها هي هذه الموسوعة التي احتوت على خرائط ورسومات لكل أوجه الحضارة المصرية على مر تاريخها، وقام العلماء خلالها بتفكيك أكثر أسرار الحضارة الفرعونية، وقراءة حجر الرشيد، وقد فتحت الموسوعة للمصريين الباب للاطلاع على منجزات عصر النهضة في أوروبا.
باريس الشرق.. ثورة محمد علي باشا المعمارية
جاء محمد علي باشا ليقضي قضاء مبرما على آخر من تبقى من المماليك، وذلك في مذبحة القلعة الشهيرة، وقد أُرسِل محمد علي واليا على مصر من قبل الأستانة عام 1801، واستتب له الأمر بعد 4 سنوات فقط من حكمه، وقتل يوم مذبحة القلعة وما حولها حوالي ألف مملوكي، كانت هذه الحادثة الشنيعة في الأول من مارس 1811، في حدث يصعب على القاهرة نسيانه.
وفي عهد إسماعيل باشا حفيد محمد علي، قامت ثورة معمارية هائلة غيرت وجه القاهرة الكلاسيكي إلى الأبد، فقد استقدم الخديوي مهندسا معماريا فرنسيا كان قد أسهم في بناء باريس، وطلب منه تخطيط قاهرة جديدة تكون باريس الشرق.
كبرت القاهرة، وتغيرت بشكل سريع جدا خلال السنوات المئة الفائتة، ووصلت العاصمة التي بناها الفاطميون لأول مرة على مساحة 340 فدّان، وتضاعفت في يومنا هذا إلى أكثر من 200 ألف ضعف، لتصل إلى 741 ألف فدّان في الأيام الحالية، وهي مساحة القاهرة الكبرى الآن، ويعيش فيها أكثر من 20 مليون إنسان، وتعتبر أكبر مدن أفريقيا والشرق الأوسط، ومن أكبر عشرين مدينة على مستوى العالم.
المصدر: الجزيرة الوثائقية