في صيف عام 1969 اندلعت نيران حرب في أميركا الوسطي بين دولتي هندوراس والسلفادور. الحرب تلك عُرفت باسم حرب كرة القدم.
وسببها مباراة أقيمت في استاد العاصمة المكسيكية لتحديد الفائز، بعد أن تعادل منتخبا البلدين في مباراتين واحدة جرت بهندوراس والأخرى بالسلفادور، في تصفيات دورة كأس العالم لكرة القدم لعام 1970.
المباراة الثالثة والنهائية انتهت بفوز المنتخب السلفادوري بنتيجة 1- صفر، وسُجّل هدف الفوز قبل نهاية الوقت الإضافي بدقائق قليلة. كانت تلك الحرب، المرّة الأولى التي أسمع فيها بوجود دولتين، في أميركا الوسطى، باسم هندوراس والسلفادور.
ما يستحق الذكر، هو أنني، منذ تلك الحرب إلى وقتنا الحالي، ظللت كلما انبثق اسم هندوراس أو السلفادور في الأخبار، أتذكر تلك الحرب الغريبة، التي استمرت لمدة أربعة أيام، وراح ضحيتها مدنيون أبرياء تجاوز عددهم 3000 شخص، بالإضافة إلى آلاف المشردين.
ما يهمّ حقاً أن مباراة الكرة تلك التي وُصِفَتْ بها الحرب لم تكن إلا الشرارة التي أضرمت نيرانها. لأنَّ التوتر في العلاقات بين البلدين كان قد بلغ مداه منذ وقت قبلها.
أضف إلى ذلك أنَّ السلفادور أعلنت في اليوم الذي ستجري فيه المباراة عن قطع علاقاتها الدبلوماسية بالهندوراس.
في الأيام القليلة الماضية، تفضل صديق بإرسال مقالة إلى بريدي الإلكتروني، وحرص على تذييلها بملاحظة تؤكد أهميتها، وضرورة عدم تفويت فرصة الاطلاع عليها.
المقالة تتحدث عن الهندوراس، تحديداً عن جسر في الهندوراس، يقع على نهر اسمه تشولوتيكا (Choluteca). عقب انتهائي من قراءتها، تذكرت تلك الحرب عام 1969 أولاً، ثم اعتراني، ثانياً، فضول لمعرفة المزيد عن تفاصيل قصة الجسر.
لذلك سارعت إلى «غوغل» واطلعت على ما توفر في الشبكة العنكبوتية من تقارير وصور تتعلَّق بالجسر العجيب هذا. الحكاية باختصار، كما تبيّنت لي، هي أنَّ الجسر بُني أصلاً في الثلاثينات من القرن الماضي، في منطقة تتميز بشدة الأعاصير، فوق نهر تشولوتيكا.
وفي عام 1996 قررت الحكومة الهندوراسية تجديد بناء الجسر، فعهدت بتصميم وتشييد جسر جديد لشركة إنشاءات يابانية يكون قادراً على مواجهة ما تتميز به المنطقة من أحوال طقسية استثنائية في عنفوانها وشدّتها.
الشركة اليابانية أنهت العمل في المشروع، وسلمت إلى الحكومة الهندوراسية في عام 1998 جسراً مكتملاً، غاية في الروعة هندسياً، وبطول 484 متراً.
وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وصل إعصار «ميتش» (Mitch) ودمَّر المنطقة، بكميات أمطار وصلت إلى 75 بوصة في أربعة أيام.
فَقَدَ خلالها 7000 مواطن حياتهم، ودمَّرت كل الجسور في المنطقة. لكن الجسر على نهر تشولوتيكا قاوم الإعصار وأمطاره الهائلة، وصمد ثابتاً إلى النهاية، ولم يدمّر.
ما لم يكن في حسبان الحكومة والشركة اليابانية هو أنَّ الإعصار، بسبب شدّته وكميات أمطاره، تمكَّن من شق مجرى آخر للنهر، معاكسة لقول نزار: هل يملك النهرُ تغييراً لمجراه؟ انسابت إليه مياهه، فبقي مجراه الأول مهجوراً، وترك الجسر معلقاً في الفراغ، بلا فائدة ولا وظيفة، وليس أكثر من دعاية ترويجية ضخمة، بُنيتْ من كونكريت، ترمز لجودة ومتانة الإنشاءات الهندسية اليابانية!
حين تمعَّنت في الصور المرفوقة بالتقارير عن الجسر، قبل وبعد الإعصار، عقدت الدهشة لساني، وبقيت محدّقاً فيها كمصعوق، بعينين غير مصدقتين، متعجباً، ومأخوذاً بما حدث وكيف حدث، وفي عقلي تنبثق أسئلة تتكاثر كفطر.
ما حدث لنهر تشولوتيكا وجسره تحوّل إلى مجاز يستخدم للتدليل على جسور حياتية كثيرة، تبنى وتشيّد ثم فجأة تصير بلا معنى أو جدوى.
ولو نظر المرء منَّا إلى مسيرته في الحياة، لربما اكتشف أن ما حدث للنهر وجسره أمر لا يختلف عما حدث له شخصياً، وما بناه، في فترة مبكرة من حياته، من أحلام وطموحات لا تقل عنها حجماً، وكيف عملت تقلبات الدنيا على تحويلها إلى أطلال حتى صارت كجسر معلق في فراغ، بينما نهر الحياة قد شقّ لنفسه مجرى آخر بعيداً.
ومن الممكن، أيضاً، أن يكون حال ذلك الجسر الهندوراسي مجازاً سياسياً لتغيير إعصاري لا يختلف عما أحدثه إعصار «ميتش»، ضرب بلادي ليبيا عام 1969، وحوّل مجرى نهر حياتها الآمن إلى جهة مجرى آخر، قادها إلى هاوية لم تخرج منها إلى الآن، تاركاً ما بنته من جسور أحلام وطموحات معلقة في فراغ الزمن.
من الممكن، أيضاً، أن يكون حال الجسر قبل الإعصار وبعده مثالاً مجازياً يضاف إلى ما سبق أعلاه، يمثل حالة أخرى أقرب تاريخياً، ونقصد بذلك المآل الذي آلت إليه أحوال دول ما أطلق عليه اسم «الربيع العربي».
وما تطورت إليه الأمور والأوضاع في تلك البلدان بعد ثورات عامي 2010 – 2011، وكيف تمكنت الأعاصير التي حاقت بها فيما بعد، من شق مجارٍ أخرى في الأرض لأنهار تلك البلدان، فتخلت عن أهدافها، أو دُفعت قسراً للتخلي عنها، وظلت تنساب جارية في مجارٍ جديدة، أودت بها إلى ما أوصلها من فوضى ودمار واحتراب وخراب.
المصدر: الشرق الأوسط