تحرر نفسها من العربدة الروسية.. ألمانيا تبدأ بإنشاء أكبر محطة للغاز الطبيعي المسال في العالم

أعلنت ألمانيا بدء عمليات بناء أول محطة عائمة للغاز الطبيعي المسال، الخميس، في مدينة فيلهيمسهافن، التي تقع في ولاية ساكسونيا، في شمال غرب ألمانيا، وتعد هذه الخطوة من أولى الخطوات الألمانية للتحرر من الغاز الروسي في ظل حرب الكرملين على أوكرانيا.

وتحاول ألمانيا أن تسرع عملية إنشاء المحطة من أجل استيراد الغاز المسال من دول مختلفة من ضمنها أمريكا.

وقال نائب المستشار الألماني ووزير الاقتصاد، روبيرت هابيك خلال حضوره بدء عمليات الإنشاء في المحطة على متن سفينة: “لدينا فرصة جيدة لعمل ما هو مستحيل في العادة بالنسبة لألمانيا، وهو بناء محطة للغاز المسال في غضون 10 أشهر، وأن نوصلها بخط إمداد الغاز الألماني”.

وعانت ألمانيا من ضغط شديد من جانب أوكرانيا، وغيرها من دول أوروبا، من أجل تحرير نفسها من إمدادات الطاقة الروسية منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 23 فبراير/شباط.

ودعا هابيك الشهر الماضي لإجراءات غر مسبوقة لتقليص اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي ومكافحة ما يصفه الساسة الألمان بـ”الابتزاز الروسي عبر الطاقة”.

وأكد هابيك أن الاستقلال عن إمدادات الطاقة الروسية أولوية بالنسبة لألمانيا، حتى لو كان ذلك يعني الدفع نحو حلول بديلة اعتُبرت سابقا “غير واقعية”، وأضاف قائلا إن الدولة الأكبر اقتصادا في أوروبا قللت حصتها من واردات الطاقة الروسية من 35% إلى 12% على صعيد النفط، ومن 50% إلى 8% على صعيد الفحم، ومن 55% إلى 35% على صعيد الغاز.

اقرأ أيضاً: اعتماد ألمانيا على غاز بوتين محفوف بالمخاطر!


ألمانيا في مأزق بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية. فألمانيا تحصل على نصف كميات غازها الطبيعي من روسيا. وقد تم منذ وقت بعيد تمهيد الطريق للاعتماد على قوة الطاقة لدى بوتين. فما هو وضع ألمانيا الآن؟ وهل هناك بدائل لغاز بوتين؟

“أدت الأزمة في أوكرانيا إلى تدهور كبير في العلاقات بين روسيا والغرب”. بهذه الجملة، يبدأ ماتياس بازيداو وكيم شولتس دراستهما بعنوان: “الاعتماد على واردات الطاقة: مخاطرة بالنسبة لألمانيا وأوروبا؟”. وتقول الدراسة: “تعتمد ألمانيا وأوروبا إلى حد كبير على واردات الطاقة من روسيا. وهذا ينطبق بشكل خاص على الغاز الطبيعي والنفط والفحم الحجري. وفي ضوء تدهور العلاقات مع روسيا، تتعالى التحذيرات بأنه ربما تستخدم الحكومة الروسية إمكانية وقف الإمدادات كسلاح سياسي على نطاق واسع”.

وجدير بالذكر أن ورقة البحث تلك أعدت في عام 2014 كدراسة أجراها معهد “غيغا” (GIGA) الألماني للدراسات العالمية والإقليمية – معهد لايبنيتس للدراسات العالمية والإقليمية في هامبورغ.

التبعية مقابل المعرفة الأفضل

لم يتغير شيء في التحليل الجيوسياسي منذ ذلك الحين، بل على العكس؛ فمنذ ذلك الحين، قام فلاديمير بوتين بزيادة قوة سياسته الخارجية وسياسته المتعلقة بالطاقة عدة مستويات. فقام رئيس الدولة الروسي بتحديث القوات المسلحة لبلاده بشكل أساسي ويمارس عبر تحركات عسكرية ضغوطًا متزايدة على البلدان المجاورة له وأجزاء من الاتحاد الأوروبي.

الأمر الخطير هو أن اعتماد ألمانيا على واردات الطاقة الروسية قد ازداد بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية. فمنذ عام 2012 ارتفعت حصة إمدادات الغاز الطبيعي الروسي وحدها من 40 إلى 55 في المائة، بزيادة تربو عن الثلث. بل حتى في حالة واردات النفط، ارتفعت في نفس الفترة حصة الواردات من روسيا 10 بالمائة فبعدما كانت 38 بالمائة أصبحت 48 بالمائة.

لا للخوف على تدفئة المساكن

يتم الآن تدفئة شقة من كل اثنتين في ألمانيا بالغاز، وبحسب الطقس يمكن أن تستمر فترة التدفئة حتى شهر مارس/ آذار. ومع ذلك، فإن الخبراء مقتنعون بأنه لا داعي للقلق بشأن بقاء المساكن باردة، أي بدون غاز تدفئة، إذا ما تصاعد الصراع في أوكرانيا.

ونقلت صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه زونتاغس تسايتونغ” (FAS) عن أندرياس غولتهاو، خبير الطاقة بالجمعية الألمانية للعلاقات الخارجية (DGAP) في نهاية يناير/ كانون الثاني قوله “إذا كان الأمر يتعلق فقط بعروض الإمداد (بالغاز) على مستوى العالم، فإن بإمكاننا استبدال الغاز الطبيعي الروسي غدًا، بيد أن السؤال هو: كم نريد أن ندفع مقابل ذلك؟”. ويوضح غولتهاو أنه في حال وقف الإمدادات، سيكون أمام أوروبا ثلاثة خيارات: الحصول على المزيد من الغاز الطبيعي من البلدان الموردة الأخرى عبر خطوط الأنابيب، أو استيراد المزيد من الغاز الطبيعي المسال (LNG) عبر الناقلات، أو السحب من مرافق تخزين الغاز.

حملة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال

نجح الاتحاد الأوروبي الآن في زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال، ووفقًا لمعطيات مفوضية الاتحاد الأوروبي، فقد تحسن الوضع بشكل كبير. وأكدت سلطات بروكسل أنها الآن – في الأسبوع الأخير من فبراير/ شباط – مستعدة جيدًا في حال قيام روسيا بقطع إمدادات الغاز. وقالت متحدثة باسم المفوضية إنه تم تحويل العديد من السفن التي تحتوي على غاز طبيعي مسال إلى أوروبا. وفي يناير/ كانون الثاني وحده، جلبت 120 سفينة ما مجموعه عشرة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى القارة. وهذا يؤمن امدادات الطاقة. وقبل بضعة أسابيع، كانت إمدادات الغاز الطبيعي المسال غير مضمونة إلى حد بعيد.

وفقًا لمركز الأبحاث “بروغل” (BRUEGEL) في بروكسل، زادت واردات الغاز المسال إلى الاتحاد الأوروبي بأكثر من الضعف في الأسابيع القليلة الأولى من العام مقارنة بعام 2021. حتى أن خبراء مركز “بروغل” يفترضون أنه حتى مع برودة الطقس في شهر مارس/ آذار، يمكن للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تتدبر أمرها بالكامل بدون الغاز الروسي.

وهذا يساعد الصناعة لكن في حدود ضيقة، فالصناعة تستهلك 35 في المائة من الغاز، وهي بذلك أكبر مستهلك للغاز الطبيعي في ألمانيا، وهي تعاني بسبب ارتفاع أسعار الغاز منذ شهور. وبالنسبة للقطاعات التي تستخدم الطاقة بكثافة بشكل خاص مثل صناعة الألمنيوم أو الأسمدة أو السيراميك، فإن الإنتاج لن يكون مفيدا اقتصاديا عندما يرتفع سعر الغاز الطبيعي إلى مستوى معين.


تراجع مناسيب منشآت تخزين الغاز في ألمانيا

لكن الوصول إلى مخازن الغاز ليس بهذه السهولة، لأن الكميات المخزنة في مرافق التخزين، التي تقع بشكل رئيسي في شمال ألمانيا، يُعتقد أنها منخفضة بشكل قياسي منذ شهور.

وأكد ذلك سيباستيان بليشكه، من مبادرة تخزين الطاقة (INES)، في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني في مقابلة مع DW. وقال المدير الإداري لاتحاد مشغلي منشآت تخزين الغاز والهيدروجين الألمانية: “تمتلك ألمانيا رابع أكبر سعة تخزين للغاز الطبيعي في العالم، وهذا بالتأكيد أحد الأسباب التي تجعل كثيرين، خاصة في السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي، ينظرون الآن إلى منشآت التخزين الألمانية. فهي ممتلئة حاليًا بنسبة 42 بالمائة تقريبًا. وهذا المستوى المنخفض في مثل الوقت الحالي لم يسبق له مثيل”. أما الآن (الوضع في 20 فبراير/ شباط) فانخفضت كمية التخزين إلى مستوى تاريخي إذ أصبحت 31 بالمائة.

ومن التفاصيل الطريفة هو أن عشرة بالمائة من مرافق تخزين الغاز الألمانية يتم إدارتها من قبل شركات تابعة لمجموعة غازبروم المرتبطة بالكرملين. وكما أكد سيباستيان بليشكه، قبل شهر كانت تلك المرافق مليئة بالغاز بنسبة 17 بالمائة فقط، بينما كانت النسبة لدى المنشآت الأخرى تبلغ 50 بالمائة. ومن المثير للاهتمام بشكل خاص هو أن مرفق التخزين في “ريدن” (Rehden) (ولاية ساكسونيا السفلى) ممتلئ بنسبة 3,6 فبالمائة فقط. علما بأنه أكبر منشأة لتخزين الغاز في أوروبا الغربية، وهو مملوك لشركة أورورا (Aurora) التابعة لشركة غازبروم.

النرويج وهولندا ينتجان بأقصى طاقتهما

الدول الأوروبية المنتجة للغاز مثل النرويج أو هولندا أو بريطانيا لا يمكنها أن تعوض الغاز القادم من روسيا. فوفقًا للحكومة في أوسلو، تدعم النرويج بقدر الإمكان، وكذلك فإن هولندا لا تستطيع زيادة شحناتها أكثر من ذلك. وتعاني بريطانيا نفسها من نقص في الغاز وأسعار قياسية أدت بالفعل إلى إفلاس عدد من موردي الغاز الصغار.

الغاز المسال ليس منافسًا لغاز الأنابيب

في الأسابيع الماضية، وصل عدد كبير من ناقلات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، محملة بالغاز المسال من الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن ألمانيا ليست سوى متفرج لأنها، على عكس البلدان المجاورة مثل هولندا، ليس لديها محطة واحدة للغاز الطبيعي المسال على سواحلها. كما تم تأجيل تشغيل خط أنابيب نورد ستريم 2، المملوء بالفعل بالغاز الروسي، حتى إشعار آخر. ويكاد لا يكون هناك مشروع آخر غير مشروع نورد ستريم 2، اتضح خلاله تماما طريقة التعامل الألماني الحذر المبالغ فيه، بسبب الاعتماد على الطاقة من روسيا. فقد أشارت وزيرة الخارجية أنالينا بربوك مرارًا وتكرارًا إلى استخدامه كتهديد محتمل لفرض عقوبات على روسيا، لكن على العكس من ذلك كان المستشار أولاف شولتس، قبل تصعيد الأزمة الأوكرانية، يقلل من هذا الأمر بالقول إنه ليس سوى مشروع اقتصادي للقطاع الخاص، قبل أن يغير المستشار رأيه ويتحدث عن وقف خط الأنابيب في حالة حدوث غزو روسي لأوكرانيا.

نورد ستريم 2.. مقبرة للاستثمارات؟

في 22 فبراير/ شباط، وبعد أن اعترفت روسيا بمنطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين بشرق أوكرانيا كـ “جمهوريات شعبية مستقلة”، أعلن شولتس أخيرًا أن عملية التصديق على خط أنابيب الغاز المثير للجدل بين روسيا وألمانيا ستتوقف حتى إشعار آخر. وأكد شولتس أنه بدون هذا التصديق، لا يمكن بدء تشغيل نورد ستريم 2.

المطلعون على قطاع الغاز من الداخل لا يعتقدون أن روسيا ستتوقف تمامًا عن إمداد الغرب بالغاز. ويشير كلاوس-ديتر ماوباخ، رئيس شركة “أونيبير” (Uniper) لإنتاج الكهرباء، إلى أن روسيا حافظت على التزامات التسليم طويلة الأجل حتى أثناء الحرب الباردة وبعد ضم شبه جزيرة القرم. ويقدر حصة الغاز الطبيعي الروسي في الطلب الألماني بنحو 50 بالمائة. ومع ذلك، فقد تذبذب المعدل، خاصة في الآونة الأخيرة. ووفقًا لمزود البيانات “ICIS”، قدمت روسيا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي 32 بالمائة فقط من الغاز الطبيعي المستهلك في ألمانيا. وساهمت النرويج بنسبة 20 بالمائة وهولندا بـ 12 بالمائة. ويتم تغطية خمسة بالمائة فقط من متطلبات الغاز الطبيعي الألمانية من خلال الإنتاج المحلي. وجاء حوالي 22 بالمائة من مرافق التخزين والباقي من مصادر أخرى.

ولكن حتى مع وجود أقل من 50 بالمائة من الواردات، هناك شيء واحد واضح بالنسبة لماوباخ رئيس شركة “أونيبير” وهو: “لا يمكن استبدال روسيا كمورد في السنوات القادمة”. بالإضافة إلى ذلك، ينص تحول الطاقة على إغلاق محطات الطاقة النووية الألمانية الثلاث التي لا تزال نشطة والتوقف عن توليد الطاقة بالفحم نهائيا. ومن أجل سد فجوات الطاقة الناتجة عن ذلك، يبقى الغاز الطبيعي مصدر الطاقة الأحفوري المركزي لألمانيا.

شراء المزيد من الغاز عبر السوق الفوري

منذ عقود يملك الموردون والمستوردون الأوروبيون عقود توريد لخطوط الأنابيب الروسية بشروط تصل إلى 30 عامًا. وأحد أسباب الزيادة الشديدة في سعر الغاز الطبيعي هو أن العديد من الموردين يشترون الغاز في وقت قصير من ما يسمى بالسوق الفوري. وتضاعفت الأسعار هناك في العام الماضي- وأصبح مقدمو الخدمات الآن في وضع لا يحسدون عليه.

لكن على أي حال، فإن المتخصصين في الطاقة يتفقون على أن شحنات الغاز الطبيعي المسال باهظة التكلفة عن طريق السفن يمكن فقط أن تعوض مؤقتًا عن حالات فشل الإمداد المحتملة من قبل روسيا – كما هو الحال الآن. ولو كان التصعيد في أوكرانيا قد وقع في ديسمبر/ كانون الأول، لكانت الأمور قد أصبحت أكثر تعقيدا.

في يناير/ كانون الثاني، كان سيباستيان بليشكه مقتنعًا بأنه في ظل الأزمة الحالية، فإن الوقت يعمل لصالح ألمانيا والاتحاد الأوروبي، اللذين يحصلان على ما يقرب من 40 بالمائة من احتياجاتهما من الغاز من روسيا. لكن “مع مرور أيام فصل الشتاء، نتوقع أن يكون لدينا ارتياح على الأرجح لأن الطقس معتدل جدًا في الوقت الحالي.” وكلما طالت مدة بقاء الطقس المعتدل في فصل الربيع، قل اعتماد الاتحاد الأوروبي على غاز بوتين.

ومع ذلك، سيظل الغاز الطبيعي مكلفًا ما دام الرئيس الروسي بوتين باقيا على مسار التصعيد. ولا يزال من المأمول أن يكون الاتحاد الأوروبي مستعدًا بشكل أفضل هذا العام للشتاء القادم مع كميات تعبئة أعلى في منشآت تخزين الغاز الطبيعي، وهو الأمر الذي سينص عليه القانون قريبًا.

ملحوظة: تم نشر هذا المقال لأول مرة بتاريخ 25 يناير/ كانون الثاني 2022، وتم تحديثه بتاريخ 22 فبراير/ شباط 2022.

توماس كولمان/ص.ش

المصدر: CNN – DW

Exit mobile version