بإمكان روسيا توجيه نشاطها الجاري، وخاصة في مجال الغاز الطبيعي المسال، نحو الأسواق الآسيوية، لكن التحول لن يكون فوريًا ولا سهلًا، وسوف يعتمد ذلك على الشركاء الأجانب، بما في ذلك الصين، وفقًا للمحلل البارز في برنامج أمن الطاقة وتغير المناخ بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، نيكوس تسافوس.
في المقابل، تدفع رغبة أوروبا في تنويع مواردها بعيدًا عن الغاز الروسي روسيا للبحث عن أسواق جديدة، حيث بدأت إمداد آسيا بالغاز فقط في عام 2009، ولا تزال السوق الأوروبية أكبر وأكثر ربحًا من الأسواق الآسيوية.
وربما تستطيع آسيا، من حيث الحجم، أن تضاهي أوروبا يومًا ما كسوق للغاز الروسي، ولكن كمصدر للدخل وثقل جيوسياسي، ستكون آسيا ثاني أفضل بديل. فقد كانت روسيا لاعباً مبكراً في صناعة الغاز الطبيعي في أوروبا، ونما دورها مع توسع السوق.
روسيا وآسيا وأوروبا
تأتي روسيا متأخرة في التعامل مع سوق الغاز الآسيوي، إضافة إلى أن مواردها بعيدة للغاية عنه. ويمكن لروسيا أن تتحول إلى أسواق الغاز الطبيعي في آسيا، وأن تبيع كميات كبيرة من الغاز هناك، بمرور الوقت.
ورغم ذلك، فإن هذا العمل لا يمكن أن يحل محل مكانة روسيا في أوروبا؛ حيث لا يمكن للمحور الروسي باتجاه آسيا سوى تقديم كميات كبيرة من الغاز الطبيعي.
في عام 2021، باعت روسيا نحو 33 مليار متر مكعب من الغاز إلى آسيا، مقارنة بالسوق الأوروبية التي تستورد عادة 160 إلى 200 مليار متر مكعب من روسيا.
وجاء ثلثا الغاز الذي أرسلته روسيا إلى آسيا في شكل غاز طبيعي مسال: 14 مليار متر مكعب من مشروع سخالين -2.
وتوجهت هذه الكميات إلى اليابان وكوريا وتايوان والصين، و 8.5 مليار متر مكعب من حقل يامال للغاز الطبيعي المسال، يخدم معظمهم الصين، ولكن أيضًا اليابان وكوريا وتايوان والهند (ذهبت كميات أصغر إلى بنغلاديش وإندونيسيا وسنغافورة).
وسلّمت روسيا 10 مليار متر مكعب إلى الصين عبر خط أنابيب “باور أوف سيبريا، الذي تم إطلاقه في أواخر عام 2019، لتصل الكميات في النهاية إلى 38 مليار متر مكعب سنويًا.
وعند وصول خط أنابيب باور أوف سيبيريا إلى سعته الكاملة، يمكن لروسيا تسليم ما يقرب من 60 مليار متر مكعب إلى الصين (بافتراض استمرار تدفق الغاز الطبيعي المسال إلى آسيا).
وتبيع روسيا أيضًا نحو 20 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. يأتي هذا الغاز الطبيعي المسال من مشروعات في الشمال (يامال) والغرب (فيسوتسك وبورتوفايا).
بالنسبة للمشروعات في الغرب، بالقرب من مدينة سانت بطرسبرغ، فإن أوروبا هي السوق الطبيعي.
وتُعدّ أوروبا وجهة على مدار العام، بالنسبة لواردات الغاز الطبيعي المسال المتدفق من شبه جزيرة يامال، بينما تتلقى آسيا المزيد من الغاز عندما يكون الطريق البحري الشمالي صالحًا للملاحة.
ويمكن أن تنتهي كل هذه الكميات في آسيا، من خلال دفع تكلفة إضافية. ويمكن أن تساعد مشروعات الغاز، في الشمال والغرب، روسيا في بيع نحو 80 مليار متر مكعب في آسيا – دون الحاجة إلى مشروعات جديدة.
مشروعات الغاز الطبيعي المسال الجديدة
تعتمد قدرة روسيا على زيادة مبيعاتها من الغاز إلى آسيا بشكل أكبر على المشروعات الجديدة. على المدى القصير، تقوم روسيا ببناء مشروع أركتيك 2، الذي سيضاعف سعة الغاز الطبيعي المسال للدولة في القطب الشمالي.
بدوره، يعتمد هذا المشروع على شركاء أجانب -كشركاء في الأسهم وممولين، وكمزوّدي التكنولوجيا الرئيسيين وخبرة إدارة المشروع، وفقًا للمحلل البارز في برنامج أمن الطاقة وتغير المناخ بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، نيكوس تسافوس.
وتم إنجاز المشروع على 3 مراحل (خطوط الإنتاج، بلغة الصناعة)، الأولى على وشك الاكتمال، والثانية أقل من نصفها مكتمل، والثالثة لم يتم تشييدها بعد.
ومن غير الواضح ما إذا كان بإمكان روسيا تنفيذ هذا المشروع بالكامل، حسبما نشر مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في العاصمة الأميركية واشنطن، في 4 مايو/أيار الجاري.
وطورت شركة نوفاتيك الروسية، الراعية، بديلاً محليًا لإحدى التقنيات الرئيسة (عملية “أركتيك كاسكيد”، لكن الأداء كان دون المستوى، وعادت نوفاتيك إلى استخدام التكنولوجيا الغربية.
علاوة على ذلك، تم بناء سفن كاسحات الجليد التي تنقل الغاز الطبيعي المسال في كوريا الجنوبية، على الرغم من أن معظم السفن الخاصة بمشروع أركتيك 2 سيتم بناؤها في حوض بناء السفن زفيزدا في روسيا – وهو الأول من نوعه في حوض بناء السفن هذا.
ولا يزال المشروع يعتمد على الدعم المالي الأجنبي والخبرة في إدارة المشروع، وكلاهما يمكن أن يتعطل جرّاء فرض المزيد من العقوبات أو قرارات الشركات بالانسحاب من روسيا.
يوجد مشروع الغاز الطبيعي المسال الآخر قيد الإنشاء هو أوست لوغا، أو البلطيق للغاز الطبيعي المسال بدأ مؤخرًا وهو أقل تقدمًا من مشروع أركتيك 2، كما أن شركة غازبروم الروسية، راعية المشروع، أقل خبرة أيضًا في الغاز الطبيعي المسال.
جدير بالذكر أن غازبروم تشارك في مشروع سخالين 2، لكنها دخلت المشروع في وقت متأخر واعتمدت في الغالب على شركاء أجانب لتنفيذ المشروع، حسبما قال المحلل البارز في برنامج أمن الطاقة وتغير المناخ بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، نيكوس تسافوس.
كان مشروع الغاز الطبيعي المسال في البلطيق يعمل ويتوقف منذ سنوات، كما أن التزام الشركة وقدرتها على التنفيذ المشروع مشكوك فيه (تم إلغاء المشروع بالفعل مرة واحدة، في عام 2008، قبل أن يتم إنعاشه بعد سنوات).
وتوجد مشروعات أخرى للغاز الطبيعي المسال على الطاولة، لكن لم يبدأ أي منها في البناء حتى الآن. تعتزم شركة نوفاتيك بناء مشروع ثالث في القطب الشمالي (يسمى بشكل مربك إلى حد ما أركتيك 1).
وفي الشرق الأقصى، تعمل شركة روسنفط على تطوير مشروع للغاز الطبيعي المسال، كان آخرها بالشراكة مع إكسون موبيل، التي انسحبت من المشروع كجزء من انسحابها من روسيا في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا، ما وجه ضربة قاضية محتملة لهذا المشروع في وضعه الحالي.
وتبدو مشروعات الغاز الطبيعي المسال الأخرى التي تم تطويرها على مر السنين أقل احتمالًا اليوم.
مشروعات خطوط الأنابيب الجديدة
وقعت شركة غازبروم، في فبراير/شباط 2022، اتفاقية مع شركة البترول الوطنية الصينية لتسليم 10 مليار متر مكعب إضافية إلى الصين عبر الشرق الأقصى.
ولم يتم الإعلان عن أي من التفاصيل – مثل موعد بدء عمليات التسليم، وموقع توريد الغاز، والطريق الذي سينقل الغاز، وما إلى ذلك.
إضافة لذلك، يوجد بعض الغاز في المنطقة: في مشروع سخالين 1، لكن ليس تحت سيطرة غازبروم، وفي مشروع سخالين 3، تحت سيطرة شركة غازبروم-نفط التابعة لشركة غازبروم.
لطالما كافح الغاز في سخالين 1 للعثور على منفذ. أرادت شركة روسنفط، الشركة الروسية الحكومية التي تعد جزءًا من المشروع، بيع هذا الغاز إلى الصين لسنوات، لكنها لم تنجح أبدًا في إتمام الصفقة.
ولم تتمكن شركة روسنفط من تجاوز احتكار صادرات غاز خط الأنابيب التي تحتفظ بها شركة غازبروم.
كما واجه الغاز في سخالين 3 تحديات، حيث كان الحقل الرئيس مستهدفًا بالعقوبات الغربية في عام 2015. ومنذ ذلك الحين، سعى الروس للتغلب على التحديات التقنية التي ينطوي عليها إنتاج الغاز.
ويُعدّ الغاز في مشروع سخالين 3 المصدر الأكثر منطقية لعقد يبلغ 10 مليار متر مكعب؛ وليس من الواضح أن يكون هذا الغاز متاحًا في أي وقت قريب.
ويعدّ خط أنابيب “باور أوف سيبيريا” الثاني أهم مشروع لنقل الغاز الطبيعي إلى الصين.
شأنه شأن خط الأنابيب الأول، تمت مناقشة الاختلافات في هذا الاقتراح لسنوات دون إحراز تقدم كبير.
وتتمثل الفكرة الرئيسة في ربط الحقول في غرب سيبيريا، التي تزود أوروبا الآن، بآسيا. وستسمح خطوط باور أوف سيبيريا 2 بالموازنة بين الأسواق الأوروبية والآسيوية، وهو ما يسعى لتحقيقه عمالقة الطاقة الروس.
وتكمن المشكلة في أن الصين تمتلك كل أوراق المفاوضات. وما لا يمكن معرفته في هذه المرحلة هو ما إذا كانت الصين مستعدة لعقد صفقة.
ويرجح المحللون أن تقدم روسيا شروطا جذابة للغاية – إن لم يكن هناك شيء آخر، بسبب يأسها. لكن هل ستقبل الصين تلك الشروط؟ هل سيغريهم السعر، أم سيفكرون مليًّا في توسيع اعتمادهم على روسيا في هذه اللحظة؟ من الصعب معرفة كيف سيجيب الصينيون على هذه الأسئلة.
خيارات الشرق والغرب
تبيع روسيا عادة من 160 إلى 200 مليار متر مكعب إلى أوروبا على أساس سنوي.
واعتمادًا على البنية التحتية الحالية، يمكن لروسيا تسليم 80 مليار متر مكعب إلى آسيا، مقسمة بين خط أنابيب الغاز والغاز الطبيعي المسال. وتمكنت شركة نوفاتيك من إكمال أول خط إنتاج من أركتيك 2، وربما تنجز، بمرور الوقت، خطي الإنتاج الآخرين.
ويمكن لروسيا أن توسع صادراتها من خطوط الأنابيب إلى الصين، على الرغم من أن مشروع باور أوف سيبريا 2يواجه احتمالات غير مؤكدة. ومن غير المرجح أن تبيع روسيا من الغاز إلى آسيا نفس القدر الذي تبيعه إلى أوروبا الآن.
ومن الممكن تخيل سيناريوهات حيث تبيع روسيا 100 إلى 120 مليار متر مكعب إلى آسيا بحلول عام 2030. سيكون هذا إنجازًا رائعًا بالنظر إلى ما كانت عليه روسيا قبل عقد من الزمان. لكن أعمال روسيا في الشرق تختلف عن أعمالها في الغرب.
وكان على روسيا أن تعرض صفقة مساومة، لتأمين عقد مع الصين، حيث تدفع الصين مبالغ أقل بكثير مقابل الغاز الروسي مما تدفعه أوروبا. حتى أنها تدفع لروسيا أقل مما تدفعه للموردين في آسيا الوسطى.
إعفاءات لتطوير أعمال الغاز
من ناحية ثانية، توجّب على روسيا أن تقدم عددًا من الإعفاءات الضريبية، من أجل تطوير أعمال الغاز الطبيعي المسال لديها، لذلك لا تكسب الخزانة الروسية الكثير من الغاز الطبيعي المسال مثلما تجني من الغاز عبر خطوط الأنابيب.
وكانت الصين أقل استعدادًا للسماح لشركة غازبروم ببناء أي نوع من الأعمال داخل الصين – على عكس أوروبا، حيث تمكنت شركة غازبروم من إنشاء عدد من المشروعات المشتركة بمرور الوقت.
الأهم من ذلك، أن حصة روسيا من السوق في آسيا ستظل صغيرة.
فقد حصلت كل من الصين واليابان وكوريا وتايوان على أقل من 10% من الغاز الطبيعي المسال من روسيا في عام 2021، وفقًا لما نشر مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية.
وحتى عندما يصل خط أنابيب باور أوف سيبيريا إلى سعته الكاملة، قد تستورد الصين أقل من 10% من احتياجاتها من الغاز من روسيا (الطلب الصيني في عام 2021 كان نحو 367 مليار متر مكعب وهو ينمو بسرعة).
ولن يكون لروسيا أبدًا قوة سوقية في آسيا، وبالتأكيد لا يمكن مقارنتها بمكانتها المهيمنة في السوق الأوروبية.
المصدر: الطاقة – مواقع إلكترونية