من بين المزايا التي يذكرها التاريخ المغربي بفخر واعتزاز مبادرة تأسيس أول جامعة في التاريخ وفي العالم العربي والإسلامي، وذلك بمدينة فاس كما صنفتها منظمة اليونسكو، وهي جامعة القرويين.
ووفقا لكثير من الدراسات والبحوث التاريخية والعلمية أنشئت هذه الجامعة من قبل فاطمة الفهرية، تحت إشراف السلطان يحيى بن إدريس الثاني، وذلك في بداية شهر رمضان المبارك سنة 245هـ، الموافق للثاني من ديسمبر/كانون الأول 859 م
وتصنف هذه الجامعة بأنها أقدم جامعة في العالم، إذ سبقت الجامعات الأوروبية بقرون، وشكلت وجهة مفضلة لكثير من العلماء المسلمين لطلب العلم والارتواء من معينها المعرفي، لعل أبرزهم مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة
رحلة امرأة مباركة
نعود إلى البدايات الأولى لهذه المعلمة الحضارية التي أنجزت حولها الكثير من التقارير التلفزيونية والأفلام الوثائقية، فقد عمدت فاطمة الفهرية إلى التفكير في إنشاء جامع القرويين، ليكون لها صدقة جارية، وعملا إنسانيا ينتفع به الناس، ويجزيها الله تعالى به خير الجزاء يوم القيامة.
ومعروف أن فاطمة بنت محمد الفهرية وُلدت سنة 800 ميلادية في مدينة القيروان التونسية، من أبيها العربي محمد بن عبد الله الفهري الذييعود نسبه إلى عقبة بن نافع الفهري فاتح المغرب الأقصى، وقد هاجرت من القيروان التونسية، ثم استقرت في مدينة فاس
وتناول سيرة فاطمة الفهرية وعلاقتها ببناء القرويين كثير من الدراسات والمصادر، خاصة ابن خلدون، وابن أبي زرع في مؤلفه الشهير “روضة القرطاس”، والمؤرخ المغربي عبد الهادي التازي الذي تناولها خلال أطروحته الأكاديمية والجامعية لنيل شهادة الدكتوراه
كما تناول سيرتها المؤرخ المغربي عبد الواحد المراكشي في كتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” في القرن السادس، فضلا عن المؤرخ التونسي حسن حسني الذي تناولها من خلال مؤلفه القيّم “شهيرات التونسيات”، والمنتصر بالله الكتاني في كتابه “فاس عاصمة الأدارسة”
حصاد 18 عاما من الصوم والبناء
عُرفت فاطمة الفهري بكثرة الإنفاق والإحسان، خاصة في شهر رمضان، فكانت تغدق أموالها التي ورثتها عن والدها الغني وزوجها بسخاء على المساكين والمحتاجين، وأيضا على طلاب العلم والمعرفة، فلُقبت بالمرأة الصالحة والكريمة وبأم البنين
كما يُضيف بعض الدراسات أن فاطمة الفهرية ظلت صائمة متعبدة وناسكة طيلة فترة بناء الجامع الذي استغرق 18 عاما (من 245-263 هـ)، ولم تزل كذلك حتى انتهت أشغال البناء، فصلت في مسجده حمدا لله وشكرا له على فضله ونعمه، وقد سمته بالقرويين تيمنا بمدينة القيروان، العاصمة الأفريقية آنذاك ومسقط رأسها
وفيما تحكيه الدراسات التاريخية فإن فاطمة أصرت على أن يُبنى مسجد القرويين في البداية من تراب الأرض التي اشترتها، كما حفرت بئرا في فناء المسجد ليرتوي منه البناؤون والعاملون،وكانت تقف على كل كبيرة وصغيرة حتى انتهاء الأشغال
تحفة تجذب اهتمام السلاطين
تبرز القيمة الفنية والجمالية للهندسة المعمارية الراقية للمسجد منذ تدشينه وحتى الآنفي كل مرافقه وأسسه وزواياه وفنائه الواسع، ومتانة أسواره وزخرفته الإسلامية المنمقة، وأبوابه المقوّسة الهلالية التي تحمل الكثير من الإشارات الرامزة للهوية الإسلامية المتفتحة الحاضنة لكل القيم والقلوب بسلام
كما يظهر باقي المعالم المعمارية في هذا الصرح الإسلامي الفريد دراية واسعة بعلوم البناء والهندسة لدى فاطمة الفهرية، فقد تحدثت بعض الدراسات عن اهتمام هذه المرأة بمجال البناء، فكانت تقف على كل كبيرة وصغيرة أثناء البناء، حتى يُنجَز المسجد في أحسن شكل وهيئة
ومع مرور السنين شهد جامع القرويين اهتماما كبيرا من قبل سلاطين الدولة المغربية منذ عهد الأدارسة، حتى تحول إلى قبلة لحفظة القران الكريم وطلبة العلم من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، خاصة من القارة الأفريقية
وتروي كتب التاريخ أن الجامع لم يتحول إلى جامعة إلا سنة 877 م -حسب موسوعة غينيس-، فكانت تقام بفنائه الواسع في البداية حلقات النقاش العلمية، كما كان شيوخ القرويين يُقدمون محاضراتهم ودروسهم للطلبة وأهل العلم
إحدى أقدم المكتبات في العالم
تقول الدراسات إن الجامع في عهد الدولة المرابطية خلال القرن الخامس الهجري شهد قفزة نوعية من حيث إنشاء كراسي علمية جامعية جديدة، كما اشتهر شهرة واسعة في عصر الدولة المرينية التي اتخذت من فاس عاصمة لها خلال القرن الرابع عشر
وزاد إشعاع الجامعة في العهد المريني، فشهدت توسيعات مهمة، فإلى جانب مرافق جامعة القرويين الأخرى فقد أحدثت مكتبة فريدة اعتبرها دارسون من أقدم المكتبات في العالم، لينهل منها طلاب العلم، ولتكون منارة فكرية في ذلك العصر، ومرجعا أساسيا للبحث والتمحيص والتأليف
وضمت المكتبة الآلاف من أمهات الكتب العلمية والمجلدات والمؤلفات النفيسة في مختلف الأصناف، فضلا عن مخطوطات نادرة للقرآن الكريم والحديث النبوي، ومنها ما كُتب على رق الغزال، ولا يزال موجودا حتى الآن
منافسة عواصم الحضارة الكبرى
استحدثت الجامعة كراسي علمية متخصصة مهتمة بعلوم الفلك والرياضيات والأدب والطب وغيرها، وهو ما حوّل مدينة فاس إلى عاصمة علمية، وقبلة لطالب العلم من مختلف الأقطار
بهذا الإنجاز العلمي الراقي والتفوق المعرفي الكبير لجامعة القرويين وكراسيها ومكتبتها النادرة التي تجاوزت صيت مكتبات أخرى كمكتبة قرطبة؛ أصبحت حديث أهل العلم في كل مكان، فتحوّلت فاس في تلك الحقبة الزمنية إلى مركز علمي عالمي تغري الطلبة من مختلف الأصقاع والبقاع
وتحوّلت مدينة فاس خلال عهد المرينيين والزناتيين والمرابطين والموحدين إلى حاضنة إسلامية ذائعة الصيت، فأصبحت تنافس العواصم العلمية والحضارية في تلك الفترة، خاصة ببغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وغيرها، وذلك من خلال جامع القرويين الذي شهد توسيعات وتحسينات كثيرة، وتحول من جامع إلى جامعة ومكتبة فريدة
وبوفاة فاطمة الفهرية بين سنتي 878 و 880 ميلادية زاد اهتمام سلاطين المملكة المغربية بهذه المعلمة الفكرية والمنارة العلمية، لما أصبحت تمثله من مكانة علمية رفيعة المستوى على الصعيدين الإسلامي والدولي، حيث تخرج منها الكثير من العلماء والمفكرين والفلاسفة
العصر الذهبي للجامعة
تقول جل المصادر التاريخية إن المساحة الأصلية للجامع كانت محدودة في البداية، ثم أخذت تتسع تدريجيا حتى أصبح المسجد الرسمي الذي يؤدي فيه السلطان صلاة الجمعة سنة 918م، وبذلك دخل الجامع تحت إشراف “الحكومة”
وقد كتب المؤرخ المستشرق البولوني الأصل والبريطاني الجنسية البروفيسور روم لاندو، أن هذا المسجد الإسلامي الكبير الذي يسع مئتي ألف مصل، “قد أصبح مند عهده الأول المركز الرئيسي للدراسات الإسلامية في أفريقيا، وأحد المراكز الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي. وهو يتميز كثيرا عن بقية مساجد فاس من ناحية البناء، وقصر الحمراء بغرناطة لا يفوقه حجما وعظمة رغم جماله ولطفه”
المؤرخ البولوني قال في ما خلفه من كتابات إن العصر الذهبي للقرويين كان خلال القرون الثاني والثالث والرابع والخامس عشر، أي أيام دولتي الموحدين والمرينيين اللتين كانت أيامهما عصر علم وعهد تشييد لما تحتويه من مآثر تاريخية جميلة. “ولم تكن (جامعة القرويين) مقصد التلاميذ من أفريقيا والعالم الإسلامي فحسب، بل كانت مقصد الأوروبيين أنفسهم في ذلك العصر”
أبناء القرويين في أصقاع العالم
اغترف من معين جامعة القيروان علماء كبار مسلمون وعجم منهم بابا الفاتيكان سيلفستر الثاني الذي يشهد التاريخ أنه أول من نقل علم الأرقام إلى أوروبا التي كانت غارقة في الجهل والأمية، ثم الفيلسوف والطبيب موسى بن ميمون، والشريف الإدريسي مؤسس علم الجغرافيا، إضافة إلى ابن البناء المراكشي عالم الرياضيات الفلكي الشهير، وغيرهم كثير
ولعل من أبرز الشخصيات التاريخية التي وجدت في القرويين المعهد الإسلامي المتخصص والكلية الفريدة في مجال تخصصهم؛ الطبيب والفيلسوف والقاضي الأندلسي المتضلع في علوم الفقه والفلك والفيزياء أبا الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، الشهير باسم “ابن رشد”
وإلى جانب ابن رشد تتلمذ على شيوخ القرويين ابن خلدون وأبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي الشهير باسم “ابن باجة” الذي يُعد من أبرز الفلاسفة المسلمين، كما اشتهر بنبوغه في علوم الطب والرياضيات والفلك والأدب والموسيقى وغيرها
كما تخرجت من هذه الجامعة شخصيات بارزة لا يزال التاريخ يشهد بتفوقها منذ مئات السنين في مجالات وتخصصات عدة، منها علوم الدين والفقه والفلسفة والأدب والطب والرياضيات والفلك، وقد شكلت جميعها ركيزة أساسية في تأسيس النهضة العلمية والمعرفية للبشرية
إرث حضاري يجتذب السائحين
لا تزال جامعة القرويين إلى اليوم تشكل إرثا حضاريا يجتذب آلاف السائحين وأهل العلم من مختلف أنحاء العالم، لزيارتها واستحضار روح امرأة صالحة وهبت مالها بسخاء لبناء مؤسسة تربوية وعلمية متفردة على الصعيد العالمي قبل النهضة الأوروبية، لتصنف فيما بعد كأول جامعة في التاريخ
كما ساهمت فاطمة بمبادرتها الإنسانية التي تُبرز النموذج الراقي للمرأة المسلمة في الإنفاق والإحسان، ودعم العلوم والمعرفة، في نشر قيم التعايش الإسلامي السمحة، حيث كرست حياتها لخدمة العلم والثقافة والفكر والأدب كصدقة جارية لآخرتها، وتكريما لروح والدها الذي أحب العلم والعلماء
وتشهد جامعة القرويين التي لا تزال شامخة في فاس حتى اليوم على سحر العمارة الإسلامية وجمال هندستها بفسيفسائها وسقايتها، فضلا عن روح الزخرفة الإسلامية والأندلسية على الخشب والجبص والزليج، فهي ثورة فنية أبدعها فنانون محترفون برعوا في تحويل الفضاء إلى أيقونة فنية وإسلامية قل نظيرها في الوجوة
وشم خالد في جسد الحضارة
أُنجز حول جامعة القرويين كثير من البحوث والدراسات الجامعية والأفلام الوثائقية والتقارير، لكونها شكلت صورة حية للحوار الحضاري، ومرآة تعكس أهمية الحضارة الإسلامية في نبذ التطرف وترسيخ قيم السلام والتسامح بين الأديان والشعوب، كما أبرزت دور الجامعة الإسلامية مند فجر الإسلام، باعتبارها مركزا من مراكز العلم والمعرفة وإنتاج النخب التي لعبت دورا لا يُستهان به في التاريخ الحضاري والإنساني بشكل عام
وستظل جامعة القرويين التي وضعت أسسها الأولى السيدة الفاضلة فاطمة الفهرية رمزا من رموز المجد العربي والإسلامي والوجاهة، وصورة حقيقية للدور الاجتماعي للمرأة المسلمة التي تعكس قيم الحضارة الإسلامية والإنسانية المبنية على تشجيع العلم والعلماء ودعم المعرفة العالمة في أبهى التجليات
كما ستبقى هذه الجامعة التي ينبهر بها كل من زارها- وشما شريفا وصرحا مباركا في الذاكرة والتاريخ الإسلاميين، خاصة أن بناء هذه المعلمة الحضارية والعلمية المتفردة انطلق في شهر رمضان الذي شهد أحداثا ووقائع كثيرة لا يزال التاريخ يذكرها بفخر وإجلال كبيرين
شقيقة الأزهر الكبرى
إذا كان البعض يعتقد أن الاعتراف بالتاريخ العريق لجامعة فاطمة الفهرية يعني بالضرورة مقارنتها بجامعة الأزهر المصرية العريقة، فإن أستاذا سابقا في جامعة القرويين هو الراحل يوسف الكتاني، خلّف دراسة مخصصة بالكامل لدور هذه الجامعة في تعزيز التواصل بين الشعبين المغربي والمصري، نشرتها المجلة التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية
“كانت رحـلات كل من الطلبة والأساتذة والشيوخ بين الجامعتين من أهـم وسائل التواصل، ومن دوافـع استمراره ودوامه واتصاله. ولقد أكــد هذا التواصل وعززه وقرره وجود قــواسم مشتركة بين الجامعتين مـن حيث صفتهما ووظيفتهما ومركزهما، وتشابه وتماثـل أنظمتهما وأنشطتهما وانفتاحهما، وانتشار دعاتهما ورسلهما في مختلف الأنحاء والآفـاق”، كما يقول يوسف الكتاني
المصادر : شبكة الجزيرة