لم يعرف الإنسان الطيران والتحليق في السماء إلا مع نهاية القرن الثامن عشر بعد أن أقدم المخترعان الأخوان “مونغولفييه” على إطلاق مركبتهما الطائرة (المنطاد) وسط جمع من الناس في حدث تاريخي في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس.
لقد كان اختراعا بسيطا للغاية مقارنة بما تلاه من اختراعات أخرى في عالم الطيران، فقد كان بالونا هوائيا عُلّق في أسفله قفص به موقد فحم مشتعل لتسخين الهواء، فيدفع بذلك تيارا من الهواء الساخن صاعدا إلى الأعلى فيملأ جوف البالون، مما يدفعه إلى الارتفاع عن سطح الأرض.
إنّه التطبيق العملي لمبدأ أرخميدس للطفو الذي وضعه في القرن الثالث قبل الميلاد. وعلى الرغم من دراية العلماء بهذا القانون لحوالي ألفي عام من لحظة هذا الحدث، لم تجرِ أي تطبيقات لمبدأ الطفو في الهواء وإنما كانت على مستوى الأجسام العائمة على الماء فحسب.
وبدءا من تلك الحادثة، شهد العالم نشوء سوق الصناعة الجديدة، صناعة الطيران، وانتشرت وتعددت، فباتت هنالك عدة نماذج للطيران مثل بالونات الهواء والمناطيد والسفن الهوائية وغيرها، وكان ذلك جميعه يندرج في قائمة “أجسام طائرة ذات وزن أقل من الهواء”.
وعلى جهة أخرى كان العمل على محركات الاحتراق في السيارات يأخذ منحنى جدّيا في عالم المواصلات، إذ تمكن المهندس الألماني “كارل بنز” من اخترع محرك احتراق عالي السرعة يعمل بالوقود البترولي السائل في عام 1887، لتركيبه على هيكل سيارة أطلق عليها “بينز باتنت موتور” وهي الأولى من نوعها في التاريخ. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى انضم إلى ركب صناعة السيارات مهندسون بارزون مثل “فيلهلم مايباخ” و”جوتليب ديملر”.1
“رايت فلاير”.. تحليق يتحدى العاصفة الثلجية
في منتصف التسعينيات من القرن الثامن عشر، كان المهندس ورائد الطيران الألماني “أوتو ليلينثال” يجري تجاربه لتحليل القوى الديناميكية الهوائية على طائرات شراعية ذات جناحين منبسطين مرتفعين عن جسم الطائرة، وهو ما جذب انتباه الأخوين المخترعين “رايت” الذين كانا مهوسين بالطيران حينئذ.
وعلى الرغم من حادثة وفاة “ليلينثال” المأساوية التي شهدت تحطم الطائرة الشراعية عليه، لم يتوان الأخوان “رايت” في إبداء حماسهما في بدء مشروعهما الخاص في عالم الطيران، والتوجه نحو المراكب الطائرة التي تعمل بالمحركات (الطاقة)، وهو ما بتنا نسميه اليوم بالطائرات.
ففي السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 1903، وبعد محاولات عدّة ودراسات مطوّلة على هياكل الطائرات وتصاميم الأجنحة، والبحث في قدرة المحرك وكفاءة الوقود، قرر الأخوان “رايت” كسر حاجز الرهبة ومجابهة العاصفة الثلجية في صباح ذلك اليوم.
وعند تمام العاشرة أقدما على إطلاق مركبتهما آلة الطيران “رايت فلاير” التي حلّقت على نحو غير مستقر قاطعة 120 قدما في ظرف 12 ثانية، ولعلّ هذه الفترة الزمنية لا تمثل أي قيمة لدينا اليوم، إلا أنها كانت من أعظم الإنجازات التي حققها الإنسان في القرن العشرين، ومنذ تلك اللحظة بدأ فعليا عصر الطيران.2
صناعة المقاتلات.. تأهب على أعتاب الحرب العالمية
كانت صناعة الطيران بطيئة النمو نسبيا بسبب حداثة الإنسان في التعامل مع الهواء وتأثيره على الأجسام الطائرة، لا سيما أنّ دراسة الهياكل والأجنحة تتطلب كثيرا من التجارب والمراجعات. لم يستطع الأخوان “رايت” احتكار سوق تصنيع الطائرات على الرغم من حصولهما على براءة اختراع معترف بها في أوروبا وأمريكا. وقد كانت الحكومة الفرنسية أول من أبرم صفقة مع شركة الأخوين “رايت” لشراء براءة الاختراع مقابل مليون فرانك.
وبعد قرابة عقد من الزمن وقبيل اشتعال الحرب العالمية الأولى في عام 1914، أدركت حكومتا ألمانيا وفرنسا ضرورة التسليح الجوي لذا شرعا في تصنيع الطائرات الحربية على نطاق واسع لعدة أعوام، وفي لحظة اندلاع الحرب كان الأسطول الجوي الفرنسي هو الأضخم لامتلاكه 1500 طائرة حربية، ثم تلاه الأسطول الألماني بـ1000 طائرة، وبفارق شاسع عن الأسطول الانجليزي الذي بلغ 176 طائرة فقط.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت بعيدة كل البعد عن الركب، وهذا ما استدعى من الكونغرس الأمريكي تأسيس “اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الجوية” (NACA) التي تغيّر اسمها لاحقا إلى “المركز الوطني للملاحة الجوية وإدارة الفضاء” (NASA). ومع نهاية الحرب، وبجهد عظيم، تمكنّت الحكومة الأمريكية من إنتاج 4000 طائرة مقاتلة من طراز “إيركو دي إتش 4”. وعالميا، كان ثمّة 210 آلاف طائرة جرى تصنيعها في تلك الحقبة، وهو ما يُعد نموا صاخبا في هذه الصناعة الحديثة.
وفي السنوات التالية طرأ تحول جوهري على الطائرات المقاتلة من هياكل ذات سطحين إلى طائرات أحادية السطح، وهو ما يمنحها انسيابية أكبر في المناورة والتحرك، كما بدأ تصنيع هياكل الطائرة معدنية بالكامل، وغالبا ما كانت من سبائك الألومنيوم خفيفة الوزن.
لقد أدرك العسكريون حينئذ بأنّ مؤسسة الطيران سلاح لا يُستهان به وبات جزءا لا يتجزأ من المنظومة العسكرية حتى هذه اللحظة.3
من نيويورك إلى باريس.. أول رحلة مدنية تعبر المحيط الأطلسي
في عام 1927 حلّق الطيّار الأمريكي “تشارلز ليندبرغ” قاطعا بنفسه المحيط الأطلسي من نيويورك إلى باريس في حادثة هي الأولى من نوعها، وهو ما عزز حماس الجماهير ودفعهم إلى اتخاذ ذات المسار في الطيران والتحليق حتى زادت نسبة مبيعات الطائرات إلى أكثر من ثلاثة أضعاف حول العالم، وأطلق على هذه الظاهرة “ليندبرغ بووم”.
ثمّ في عام 1929 دُمجت عدة شركات مصنعة للطائرات تحت مظلة شركة “بوينغ” للطيران، وفي نفس العام صُنعت طائرة الركاب “بوينغ 247″، وقد بقيت ضمن نطاق الخدمة حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وكذا الأمر بالنسبة لشركات تصنيع وإنتاج الطائرات الأمريكية مثل شركة “لوكهيد” التي تأسست في ذات الفترة.4
وكما حدث في الحرب العالمية الأولى، كان سلاح الطيران يلعب دورا حاسما في تحديد مصير الكثير من المعارك التي جرت، وقد أبدت ألمانيا بقيادة الحزب النازية جاهزية فائقة في صناعة الطائرات، وباتت إمبراطورية اليابان أكبر المستوردين حينئذ من حكومة الرايخ الثالث. وفي تلك الأثناء كانت الشركات الأمريكية تزوّد الحلفاء بأعداد ضخمة من الطائرات المقاتلات حتى بلغ رقم الإنتاج 100 ألف طائرة في السنة الواحدة مع حلول عام 1944.
“أيرباص”.. منافسة أوروبية لعملاق الصناعة الأمريكية
مع خمود شرارة الحرب شهد العالم انتشارا غير مسبوق في زيادة الرحلات الجوية وفي صناعة الطائرات، كما ازدهرت المطارات وخدمات الدعم وأصبح السفر أكثر سهولة وأمانا من قبل، فباتت الوسيلة المفضلة للتنقل، وكانت حتى في متناول الموظفين متوسطي الدخل.
وفي مطلع السبعينيات أقدمت عدة دول أوروبية على تأسيس شركة “أيرباص”، لتصبح منافسا شرسا لشركة “بوينغ” الأمريكية في صراع تصنيع الطائرات المدنية. وقد صاحب ذلك ظهور عدد من شركات خطوط الطيران التي غالبا كانت تتبناها الحكومات في سبيل تمثيل واجهة للبلاد، فضلا عن خطوط الطيران الخاصة التي ظهرت كخيار إضافي.5
ومع مضي الوقت أصبح التركيز على النوعية وسعة المقاعد بدلا من الكثرة والعدد، فبدلا من صناعة طائرتين تحملان 400 راكب، يمكن استبدالهما بطائرة واحدة تنقل ذات العدد، وفي ذلك توفير للوقود وأعمال الصيانة ولطاقم الطائرة. وثمّة خيارات أخرى عدة اليوم تلائم متطلبات كل خطوط جوية.
ووفقا لشركة الاستشارات الإدارية الأمريكية “أوليفر وايمان” (Oliver Wyman)، فإن هناك أكثر من 25 ألف طائرة في الخدمة حاليا حول العالم تمثل الأسطول التجاري العالمي النشط، ويتوقع أن يشهد نموا بنسبة 3% خلال السنوات الخمس القادمة.6
صلاحية الطيران.. معجزات الهندسة التي تحمينا في السماء
إنّ أي آلة هندسية ترضخ لعوامل معيّنة لتحديد عمرها الافتراضي، والطائرات ليست استثناء عن بقية الآلات الهندسية، بل إنّ حساسية البيئة تستدعي النظر بكافة الاحتياطات لتجنب حدوث كارثة. ويكاد لا يخفى على أيّ من العاملين في مجال تصنيع الطائرات إمكانية حدوث نوعين من العطب في الطائرات على مستوى الهيكل الخارجي وهما: الإجهاد، والقصور الهيكلي.
ووفقا لشركة بوينغ، فإنّ الأعطال الهيكلية تمثل اليوم قرابة 20% من حوادث الطائرات، وهذا مؤشر جيّد للغاية نسبيا، إذ كانت النسبة فيما سبق تمثل 80% من الحوادث.7
وتقيّم مدة صلاحية الطائرة عند بنائها وفق حسابات المتخصصين والشركات المصنعة، وهو ما يُطلق عليه تقنيا “صلاحية الطيران” (Airworthiness). وتتعلق صلاحية الطيران بمعايير السلامة في كل أجزاء الطائرة وجميع الجوانب، مثل أنظمة الكهرباء والضغط الداخلي والأنظمة الهيدروليكية، وكذلك بالأجزاء الهيكلية التي تتعرض للديناميكا الهوائية.
وقبل أن تكون الطائرة معتمدة وآمنة، فإنها ترضخ لأعلى مستويات الاختبارات الصارمة، وتستمر عمليات الفحص والصيانة في المطارات بشكل دوري إلى أن ينتهي عمرها الافتراضي، فيتخلص منها مع محاولة الاستفادة من قطع الغيار الصالحة بحدود الممكن. والعمر الافتراضي هو ما يُطلق عليه تقنيا “حد الصلاحية” (Limit of Validity)، ويمنح فترة زمنية تُقدّر بالساعات في إمكانية عمل الطائرة.8
مقابر الطائرات.. هياكل مكدسة في المثوى الأخير
تطلق مقابر الطائرات على المنافي التي يتخلص فيها من الطائرات غير المرغوب بها، وهي موجودة على نطاق كبير في دول العالم المتقدم مثل أمريكا والمملكة المتحدة. وقد يبدو المشهد باعثا للاكتئاب بالنسبة للمغرمين بالطيران والتحليق.
ولو مرّ أحدهم على تلك المقابر، لصادف كثيرا من هياكل الطائرات المكدسة والمصطفة بانتظام مثير. والأمر لا يقف على تخزينها وتكديسها فحسب، بل إن ثمّة عدة شركات اليوم مهتمة بخدمة تفكيك الطائرات وبيعها للمهتمين بأسعار مرضية.
ويشير “جيمس كوبيلد” مدير المبيعات لدى شركة “انترناشونال اير سالفج”، وهي إحدى الشركات الرائدة في هذه الخدمة، إلى أنهم قادرون على التعامل مع الطائرات بكافة الأطرزة، وقد تستغرق عملية التفكيك من 6 إلى 8 أسابيع لطائرة متوسطة الحجم على عدة مراحل.
تفكيك الطائرة.. آلاف القطع الهندسية تعرض للبيع
يُعد المحرك أول الأجسام استخراجا من جسم الطائرة، وهو الأكثر قيمة كذلك، وتجرى العملية بحذر بعد أن يُفرغ المحرك من الوقود، ويفصل عن الأجزاء الإلكترونية الموصولة به. ثم تأتي المراحل التالية تباعا لفصل الإلكترونيات والتكييف وأجهزة التحكم وجهاز هبوط الطائرة.
والطائرة في ذاتها هي أيقونة هندسية بديعة لاحتوائها على آلاف القطع الهندسية الصغيرة والدقيقة المدمجة ببعضها لتمنحها هيكلا واحدا صلبا. وإذا ما تطلب الأمر، فإن جميع تلك القطع تُنظف وتُعرض للبيع على حدة، مثل الكراسي والمراحيض والمطبخ وصناديق الأمتعة وغيرها، وقد تصل نسبة الاستفادة من أجزاء وقطع الطائرة إلى نحو 92% من الهيكل الكلي، بينما يذهب قسم كبير إلى مصانع التدوير. وتشير بعض التقارير إلى تسريح أكثر من 500 طائرة سنويا.9
وتعد قاعدة دافيس-مونتان الجوية أكبر مقبرة طائرات في العالم، إذ تحتوي على 4000 طائرة خردة، وتقع في صحاري جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن حسن الحظ أن طائرات أخريات نجون من هذا المصير ولقين حياة أكثر تشويقا ومتعة بعد التقاعد، فكبر السن وتقدم العمر يمنحها شيئا من الخصوصية لكي تكون وجهة للزائرين.
مطاعم الطائرات.. محاكاة للأكل الجوي على سطح الأرض
على الرغم من أنّ كبريات شركات الطيران في العالم تحاول جاهدة تقديم أفضل الوجبات وألذها على متن طائراتها ضمن خدمتها للمسافرين، فإن الشكاوى تبقى مستمرة، ويعود السبب وراء ذلك إلى أنّ حاسة التذوق عند اللسان قد تتعرض للتغير على ارتفاعات عالية، والبعض يدّعي بأنّ الحالة المزاجية في أثناء التحليق تؤثر على قدرتنا في الحكم على جودة الطعام المُقدم.
لذا عمد بعض التجّار إلى توفير تجربة تناول أشهى الأطباق على متن الطائرات، لكن بينما تكون قابعة على الأرض، ولا بأس في إعادة ترتيب الأثاث وتزيين المكان وفق أجواء رومنسية ربّما.
وأشهر تلك المطاعم (الطائرة)، مطعم “فيركا هاواي أدا” الواقع في مدينة لوديانا الهندية، وكذلك مطعم “لا تانتي دي سي 10” الواقع بالقرب من مطار كونتوكا الدولي في غانا. وتنضم كذلك إلى القائمة سلسلة مطاعم ماكدونالدز، إذ تمتلك مطعما على متن طائرة في أحد أفرعها في نيوزيلندا.10
ويُنظر إلى أنّ صناعة الطائرات المتصاعدة شكلت عاملا حاسما في نشوء مقابر الطائرات، وزيادة الصناعة يعود سببها إلى أمرين، أحدهما انتهاء صلاحية الطائرة وهو ما تطرقنا إليه، والثاني التطور المستمر للتكنولوجيا والحاجة إلى مواكبة هذا التطور.
المصدر: الجزيرة الوثائقية – مواقع إلكترونية