أعجب بعادات أهلها ومدح أخلاقهم ورهافة حسهم.. هكذا سحرت “جزر المالديف” عقل “ابن بطوطة” أعظم الرحالة على مر العصور!
من أعظم الرحَّالة وأوسعهم شهرة، سُمِّيَ بشيخ الرحالين لكثرة طوافه في الآفاق، فقد أمضى ثماني وعشرين عامًا من حياته في أسفارٍ متصلة ورحلاتٍ متعاقبة، فكان أوفر الرحَّالين نشاطًا واستيعابًا للأخبار
وكان ابن بطوطة أشهرهم عناية بالحديث عن الحالة الاجتماعية في البلاد التي تجوَّل فيها، كما كان من المغامرين الذين دفعهم حبُّ الاستطلاع إلى ركوب الكثير من الصعاب
نسبه ومولده
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللوائي الطنجي الشهير بابن بطوطة
وُلد في مدينة طنجة عام 703هـ/ 1304م، ويُنسب إلى قبيلة لواتة البربرية، التي انتشرت بطونها على طول سواحل إفريقية حتى مصر، وينحدر من أسرة عالية، أُتيح لكثير من أبنائها الوصول إلى منصب القضاء والنبوغ في العلوم الشرعية
وفي طنجة درس ابن بطوطة العلوم الشرعية وفقًا للمذهب المالكي السائد في أقطار المغرب، ولكن يبدو أنه لم يُتِمَّ دراسته؛ لأن سنَّ الحادية والعشرين التي خرج فيها للرحلة تدلُّ على أنه لم ينتظر حتى يستكمل دراسة الفقه؛ لأن الدراسة في ذلك الوقت كانت تطول فلا يفرغ الشاب من دراسته إلا في حدود الثلاثين، والواضح أن رغبته في السفر والتجوال أعجلته عن إتمام الدراسة
كان الدافع وراء خروج ابن بطوطة لرحلاته أولاً أداء فريضة الحج، إضافةً إلى رغبته في رؤية أحوال الناس في مختلف الأقطار، وشوقه إلى المعرفة، وولعه بالتنقل والمغامرة والتجربة، ومعرفة أحوال الدنيا من حوله
كان خروج ابن بطوطة من بلدته طنجة في شهر رجب سنة 725هـ بنية الحج وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن ذلك الشاب لم يكن يدري أو لعله لم يُخطِّط آنذاك أنه سيغيب عن وطنه ثلاثين عاما يجوب فيها أصقاع العالم
مستكشفا ومتزوجا ثم راحلا فغريبا تحمله الأقدار إلى الأقدار، والبحار إلى البحار حتى يعود إلى وطنه في بدايات الشيخوخة ليدوّن رحلته أحد الأدباء المغاربة وهو ابن جُزي نقلا عن ابن بطوطة والتي سمّاها “تُحفة النُّظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” المشهورة اليوم برحلة ابن بطوطة
كانت جُزر المالديف الساحرة المشهورة آنذاك بجزر “ذِيبة المهل” الواقعة في المحيط الهندي جنوب الهند وسريلانكا قد شهدت نزول ابن بطوطة فيها ساكنا ومتزوجا أربعا من نسائها، ثم قاضيا لها كأنه الملك بين جنباتها. فكيف كان نزول ابن بطوطة إلى هذه الجزر الغنّاء؟ وكيف استقبله أهلها وجعلوه كالملك بينهم؟ وكيف انقلبوا عليه وما أسباب هذه الشحناء؟ ذلك ما سنراه في قصتنا التالية
ركب ابن بطوطة البحر من جنوب الهند إلى جزر ذيبة المهل (المالديف)، وحين نزلها قال: “وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا، وهي نحو ألفي جزيرة، ويكون منها مئة فما دونها مجتمعات مستديرة كالحلقة، لها مدخل كالباب لا تدخل المراكب إلّا منه”
أضاف ” وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بدّ له من دليل من أهلها يسير به إلى سائر الجزائر، وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى، وهذه الجزائر أهلها كلّهم مسلمون، ذوو ديانة وصلاح، وهي منقسمة إلى أقاليم، على كلّ إقليم والٍ يُسمُّونه الكردوبي”
ويبدو أن الاسم العربي لجزيرة “ذيبة المهل” إنما هو مقلوب اسمها المعروف اليوم مالديف (مال – ديب)، ومال أو مهل هي عاصمة الجزر والجزر كلها تابعة لها، وكانت معظم هذه الجزائر لا زرع فيها كما يقول ابن بطوطة
لكنهم كانوا يزرعون في بعضها حبوبا تُشبه الدخن، وهي الذرة الصغيرة، واعتمد أهلها في الطعام على السمك، وأشهره كما يذكر يُسمُّونه قلب الماس، وهو المعروف اليوم باسم سمك المالديف، وهو نوعان، واحد يُسمى البونيتو، والآخر التونة، وكانوا يُجفِّفون السمك ثم يُدخّنونه ويصدرونه، ولديهم الكثير من أشجار النارجيل وهي جوز الهند
وحين نزل ابن بطوطة تلك الجُزر الغنّاء، أكبَره أهلها حين رأوه عالما قادما من بلاد الإسلام والعروبة، له شأن وسُمعة انتشرت قبل مجيئه لمكانته العالية التي اكتسبها عند سلاطين الهند العظماء
وهو الذي عمل عندهم قاضيا وسفيرا مرموقا، ولذلك عيّنته سلطانة المالديف قاضيا على كل الجزر والرعية التابعين لها، وجعلوه في مكانة عالية، يقول: “إن أردتم مقامي فأنا أشترط عليكم شروطا، فقال: نقبلها فاشترط، فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي
ومن عادتهم أن لا يركب أحد هنالك إلا الوزير، ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته يتبعني الناس رجالا وصبيانا يعجبون مني”. وكان من عادتهم ألا تركب إلا السلطانة والوزير، فأذنوا لابن بطوطة القاضي أن يكون مثلهم رجل دولة كالملك بينهم، وقد أهدوه البساتين والأموال وجعلوا أوامره مُجابة بينهم
المالديف
يُكثِر ابن بطوطة من مدح هذه الجزر وأهلها وأخلاقهم العالية، حتى إنهم ليستنصرون على عدوّهم بالدعاء، لأنهم لا طاقة لهم بالحروب لضعف أجسادهم، ورهافة حسّهم
قال ابن بطوطة “وأهل هذه الجزائر أهل صلاح وديانة، وإيمان صحيح ونية صادقة، أكلهم حلال ودعاؤهم مجاب، وإذا رأى الإنسان أحدهم قال له: الله ربي، ومحمد نبيّي، وأنا أُميّ مسكين، وأبدانهم ضعيفة، ولا عهد لهم بالقتال والمحاربة، وسلاحهم الدعاء، ولقد أمرتُ مرة بقطع يد سارق بها فغُشي على جماعة منهم كانوا بالمجلس
وأضاف “لا تطرقهم لصوص الهند ولا تذعرهم لأنهم جربوا أنّ مَن أخذ لهم شيئا أصابته مصيبة عاجلة، وإذا أتت أجفان العدو إلى ناحيتهم أخذوا مَن وجدوا من غيرهم، ولم يعرضوا لأحد منهم بسوء، وإن أخذ أحد الكفار ولو ليمونة عاقبه أمير الكفار وضربه الضرب المبرح خوفا من عاقبة ذلك، ولولا هذا لكانوا أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم”
كما أشاد ابن بطوطة بنظافتهم وجمال مساجدهم وعاداتهم في التنزه والتزيّن والتعطّر قائلا: “وفي كل جزيرة من جزائرهم المساجد الحسنة، وأكثر عمارتهم بالخشب، وهم أهل نظافة وتنزُّه عن الأقذار، وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم تنظفا لشدة الحر بها وكثرة العرق، ويكثرون من الأدهان العطرية كالصندلية، ويتلطّخون بالغالية المجلوبة من مقدشو
ومن عادتهم أنهم إذا صلّوا الصبح أتت كل امرأة إلى زوجها أو ابنها بالمكحلة وبماء الورد ودهن الغالية، فيُكحِّل عينيه ويدهن بماء الورد ودهن الغالية، فتصقل بشرته وتزيل الشحوب عن وجهه
عالم المرأة في المالديف
أما ما يتعلق بعالم المرأة في هذه الجزيرة فقد رأى ابن بطوطة بعض العادات التي كان أهلها ملازمين لها رغم إسلامهم قبل ذلك بقرنين على الأقل، منها عدم سترة أجساد النساء في الأجزاء العلوية منها تشبُّها بالرجال، يقول في ذلك: “ولقد جهدتُ لمّا وُليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس، فلم أستطع ذلك
فكانت لا تدخل إليَّ منهُنّ امرأة في خصومة إلا مستترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن لي عليه قدرة، ولباس بعضهن قُمص زائدة على الفوطة (التي يلبسنها في الجزء السفلي أسفل السرة إلى القدمين)، وقُمُصهن قصار الأكمام عراضها، وكان لي جَوارٍ كسوتهن لباس أهل دهلي (الهند) وغطّين رؤوسهن، فعابهن ذلك أكثر مما زانهن إذ لم يتعودنه”
ورغم ذلك كانت المالديف آنذاك تحكمها امرأة اسمها السلطانة خديجة، كانت قد تزوجت وزيرها القاضي جمال الدين الحضرمي، وحين يقف الخطيب يوم الجمعة يدعو لها بقوله: “اللهم انصر أَمَتَك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافّة المسلمين، ألا وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين ابن السلطان صلاح الدين”
لكن ابن بطوطة رأى عادات رائعة في نساء المالديف (ذيبة المهل)، كما رأى سهولة الزواج ويُسره لقلة الصداق أو انعدامه تقريبا، فضلا عن أخلاق نساء المالديف الجميلة، يقول: “والتزوج بهذه الجزائر سهل لنزارة الصداق وحُسن معاشرة النساء، وأكثر الناس لا يُسمي صداقا، إنما تقع الشهادة ويعطي صداق مثلها”
كانت زوجة ابن بطوطة من البيت السلطاني زوجة والد السلطانة السابقة، “فكانت مِنْ خيارِ النِّساء”، لكن نعيم ابن بطوطة في هذه الجزر لم يدم طويلا، فقد حسده الوزير عبد الله بن محمد الحضري، وزاد الأمر سوءا أن ابن بطوطة لم يحكم بما أراده هذا الوزير في بعض القضايا المتصلة به، وانتهى الأمر بأن قال له هذا الوزير: “إنما غرضك السفر عنّا، فأعطِ صدقات النساء وديون الناس وانصرف إذا شئت
يقول ابن بطوطة، فخدمت له على هذا القول، وذهبت إلى داري فخلّصت ممّا علي من الدَّيْن، وكان قد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها، وكان يعطيني كلّ ما أطلبه ويحبني ويكرمني، ولكنه غيّر خاطره وخوّف مني
وذلك لما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على السفر ندم على ما قاله، وتلكأ في الإذن لي في السفر، فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بدّ من سفري، ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر، وطلّقت إحدى الزوجات، وكانت إحداهن حاملا، فجعلت لها أجلا تسعة أشهر إن عدتُ فيها، وإلا فأمرها بيدها
وهكذا انتهت رحلة ابن بطوطة إلى المالديف بعد عام ونصف العام من مجيئه إليها، بسبب عداوة الوزير له بعدما بلغ ابن بطوطة القاضي مكانة مرموقة في قلوب الجميع، وصار سلطانه ونفوذه في الجزيرة يشبه نفوذ السلطانة والوزير، حتى إن ابن بطوطة لم يحكم للوزير بما أراد، وأغلظ له القول أمام الجميع، وقرَّر بمنتهى البساطة أن يترك كل شيء ويعود من جديد سائحا جوّالا رحّالا في أرض الله، ليبدأ مرة أخرى قصة جديدة ومغامرة غريبة كما عوّدنا في رحلاته
المصادر : مواقع الكترونية عربية