كيف أصبح المغرب “بنك مركزي” لسوق الأسمدة و”حارس” إمدادات الغذاء عالميًا.. إليك القصة الكاملة

عقب 100 يوم من حرب أوكرانيا في الجناح الشرقي لأوروبا، انفتحت جبهة جديدة بالغة الأهمية في الجناح الجنوبي حول أزمة نقص الغذاء في أفريقيا، واتهمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، موسكو باستخدام نقص الغذاء سلاحًا ضد أفريقيا.

ولمواجهة تقدُّم موسكو في أوكرانيا غربًا، تواجه أوروبا ضغوطًا، الآونة الحالية، لمنع أزمة الهجرة الجماعية من شمال أفريقيا إلى سواحلها الجنوبية المدفوعة بنقص الغذاء.

ولأن أوروبا تحارب على جبهتين مع روسيا في حرب استنزاف جيو-اقتصادية، فإن عزم المغرب زيادة إنتاج الأسمدة بنحو يقارب 70% يُغير المعادلة الإستراتيجية بالتصدي إلى قدرة موسكو على استخدام حلقة الوصل بين الغذاء والطاقة سلاحًا ضد الآخرين.

وبالنظر إلى ذلك، يُظهر المغرب أهميته المتزايدة بصفته شريكًا جيوسياسيًا لأوروبا وأميركا في دول أفريقيا جنوب الصحراء.

تقويض الهجرة

فجّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزوه أوكرانيا ما يكافئ قنبلة بحجم ميغاطن بنظام الاقتصاد العالمي في صورة “تضخم”، وأدى نقص السلع الناجم عن إعاقة الحرب لسلاسل التوريد إلى ارتفاع الأسعار الاستهلاكية بأنحاء العالم.


وكان التأثير الفوري الأكبر لذلك في سلاسل إنتاج الغذاء، لا سيما بالدول الأفريقية التي تواجه حالة من انعدام الأمن الغذائي على الحدود الجنوبية لأوروبا.

وينصبُّ الاهتمام الحالي للاتحاد الأوروبي -المثقًل بأعباء نكفّله بدعم أوكرانيا المحاصرة- على محاولة عدم تحمل أية أعباء إضافية -مثل الهجرة من أفريقيا المدفوعة بالجوع والحاجة إلى الغذاء- التي قد تفوق قدرة الاتحاد.

وفي ظل مخاوف من خوض أعداد كبيرة من المهاجرين محاولات محفوفة بالمخاطر بالعبور من شمال أفريقيا عبر القوارب، حذّر نائب رئيسة المفوضية الأوروبية، مارغاريتس شيناس، من عدم إمكان التحكم في الهجرة الأفريقية المدفوعة بالجوع، مضيفًا أن “هناك مصلحة عالمية في السعي لتجنّب ذلك”.

أزمة الغذاء العالمية

لنكن واضحين: روسيا غير مسؤولة عن أزمة الغذاء العالمية مثلما حذّر إصدار سابق بمعهد الشرق الأوسط في حينها؛ إذ ظلت أزمة الغذاء متفشّية طوال عام 2021.

وفي مطلع يونيو/حزيران عام 2021، سجّل تضخم الغذاء المستويات ذاتها التي بلغها التراكم المباشر الناتج عن انتفاضات الربيع العربي التي هزّت شمال أفريقيا عام 2011، ففي ذلك الحين أدت ارتفاعات أسعار المواد الغذائية إلى استمرار الشعوب بالبقاء في الشوارع، مرددين هتافات “الخبز، الحرية، العدالة الاجتماعية”، إلى أن أسقطت الأنظمة التي طال أمدها في تونس ومصر وليبيا بتواتر متسارع.

وفي غضون الأشهر الـ6 الأخيرة من عام 2021، واصل التضخم الغذائي ارتفاعه لمستويات تتجاوز الربيع العربي، وفي الربع الثالث من العام ذاته وصل سعر القمح اللين المستخدم في تصنيع الخبز إلى 271 دولارًا/طن، مسجلًا زيادة بنحو 22% عن العام السابق.

وارتفع السعر، خلال الربع الأخير من عام 2021، إلى مستويات تفوق ذلك، ومنذ 3 مارس/آذار العام الجاري -عقب أسبوع واحد فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا- قاربت الأسعار 389 دولارًا/طن.

وببساطة، ضغطت روسيا على نقاط ضعف النظام الغذائي العالمي المصاب بالهشاشة، وبدأ الانهيار استنادًا على تلك النقاط.

الأمن الغذائي في أفريقيا

في أفريقيا، كانت حالة الأمن الغذائي صارخة بالفعل؛ إذ يملك سكانها أعلى النسب العالمية بين من يعانون شدة الجوع (21%).

وحذّر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة حول حالة الأمن الغذائي والتغذية بالعالم -الصادر عام 2021- من معاناة ما يُقدَّر بنحو 282 مليون شخص من نقص التغذية في أفريقيا، بما يعادل 85% من العدد الإجمالي لسكان أميركا.

وبينما سكبت روسيا البنزين على لهيب أزمة الغذاء، فإنها لم تبدأ إشعال نيران الأزمة.

الأسمدة الروسية.. وأسعار الغاز

يبدأ صمود الأنظمة الغذائية من أسفل التربة بـ “الأسمدة” التي تعدّ حلقة الوصل بين الغذاء والطاقة، وأحدثت الأسمدة الحديثة زيادات ضخمة بالمحاصيل الزراعية التي قادت طفرة سكانية خلال الأعوام الـ100 الماضية، بالقفز من 1.8 مليار نسمة إلى 7.9 مليار نسمة، الآونة الحالية.

ولأن روسيا تعدّ أكبر مُصدّري الأسمدة بالعالم، فإن الأسمدة تعدّ إحدى أبرز نقاط الضعف لكل من أوروبا وأفريقيا؛ إذ تعتمد دول الاتحاد الأوروبي ذاتها -البالغ عددها 27 دولة- على روسيا للحصول على 30% من إمدادات الأسمدة.

وتبرز مكانة روسيا بصفتها ثاني أكبر منتجي الغاز الطبيعي في العالم، بينما يعدّ الغاز مكونًا رئيسًا بالأسمدة القائمة على النيتروجين.

ويُوَصَّل النيتروجين -الذي يعدّ أحد المغذيات الكبرى التي تحتاجها النباتات للنمو- عبر الأسمدة كالمركبات النيتروجينية-الهيدروجينية والأمونيا واليوريا. ويُنتج الهيدروجين من الغاز الطبيعي الذي يشكّل سعره 80% من تكلفة الأسمدة المتغيرة.

حتى قبل حرب أوكرانيا، كانت أسعار الغاز الطبيعي ترتفع بصورة حادّة، وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2021 ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بمعدل 400% مقارنة بأسعار يناير/كانون الثاني من العام ذاته.

وارتفعت تكلفة الأمونيا إلى 1000 دولار/طن في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021، مقارنة بنحو 110 دولار في وقت سابق من العام. وتبعًا لذلك ارتفع سعر الأسمدة الأكثر انتشارًا إلى أعلى مستوياتها في غضون 10 أعوام.

حرب أوكرانيا والدول الأفريقية

رفعت الحرب الروسية-الأوكرانية الأسعار؛ ما حوّل الأسمدة إلى أزمة وجودية بالنسبة للأمن الغذائي العالمي، وفرضت الدولتان الأكثر تصديرًا للأسمدة بالعالم (روسيا والصين) -اللتان تبلغ صادراتهما 28.4% من صادرات العالم- قيودًا على تصدير الأسمدة.

وعقب أسبوعين من الغزو الروسي لأوكرانيا، قلّص عملاق الأسمدة الأوروبية (يارا) إنتاج الأمونيا بمحطاتها الإيطالية والفرنسية لأكثر من النصف لارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، بينما أوقف منتجون آخرون في أوروبا إنتاجهم كليًا.

وبينما تسجل أزمة إمدادات الأسمدة ارتفاعًا في أسعار الأغذية على أرفف المتاجر الكبرى خلال فصل الخريف لعام 2022، فإن نقصها يؤدي إلى كارثة في أفريقيا.

خلال عام 2006، بلغ متوسط الاستخدام الأفريقي للأسمدة 8 كيلوغرامات/هكتار -فقط-، ما يعادل 10% من الاستهلاك العالمي، الأمر الذي دفع الاتحاد الأفريقي إلى اتّباع هدف زيادة متوسط استخدام الأسمدة إلى 50 كيلوغرامًا/هكتار، ووفق التقديرات المتفائلة، بلغ متوسط الاستخدام الأفريقي للأسمدة 19 كيلوغرامًا/هكتار فقط مؤخرًا.

وبفعل نقص الإمدادات بأسعار مناسبة أو الأسعار المتاحة، اتّجه المزارعون في أفريقيا إلى خفض استخدام الأسمدة في الزراعة العام الجاري إلى مستويات قليلة أو معدومة، وبدءًا من الآن، قد يتسبب ضَعف المحاصيل الزراعية محليًا وارتفاع أسعار الغذاء على الصعيد العالمي في وقوع الملايين من الأفارقة ببراثن الجوع، ومن ثم الهجرة المدفوعة بنقص الغذاء.

يعدّ المغرب رابع أكبر مُصدّري الأسمدة في العالم عقب روسيا والصين وكندا، وفي 17 مايو/أيار الماضي، أعلنت مجموعة الأسمدة المغربية العملاقة مكتب الشريف للفوسفات “أو سي بي” زيادة إنتاج الأسمدة لعام 2022 الجاري بنحو 10%؛ ما يضيف للسوق العالمية 1.2 مليون طن بنهاية العام.


ويعكس المعدل المُعلَن قدرة العملاقة مكتب الشريف للفوسفات “أو سي بي” على تصنيع خط إنتاج بسعة مليون طن في غضون 6 أشهر.

وصرّح المدير المالي لـ”أو سي بي” أن الشركة تُخطط لزيادة طاقتها الإنتاجية بمعدل 7 مليون طن إضافية بين عامي 2023 و2026، أو زيادة 58% عن معدل الإنتاج الحالي.

وهو قرار فطن تجاريًا من قبل الشركة لزيادة حصتها بالسوق العالمية إلى مستويات يمكنها مواجهة القدرات الروسية باستخدام نقص الأسمدة والغذاء سلاحًا.

وبخطوات تقارب دور السعودية في السوق العالمية للنفط، يعدّ المغرب بمثابة البنك المركزي للسوق العالمية للأسمدة، وحارس بوابة إمدادات الغذاء العالمية.

الدور المغربي في أفريقيا جنوب الصحراء

يشير دور المغرب في التصدي لمواجهة استخدام أزمة الغذاء سلاحًا إلى دور المملكة المغربية الإستراتيجي والمتنامي فيما يتعلق بالأمن الغذائي لدول أفريقيا جنوب الصحراء.

ووفق ما أشارت إليه دراسة لمعهد الشرق الأوسط حول الوصول الزراعي للمغرب في أفريقيا، افتتح مكتب الشريف للفوسفات “أو سي بي” -منذ عام 2016- فروعًا له داخل 12 دولة أفريقية، وأنشأت مرافق مزج محلية لفحص الأسمدة بصورة محددة لكل تربة أفريقية، وتمكين المزارعين من ذوي الحيازات الصغيرة من مشاركة أفضل وأكثر ربحية ضمن سلاسل القيمة الزراعية.

وأدى ذلك إلى قفزة محصول الدخن بالسنغال بنحو 63%، ومحصول الذرة في نيجيريا بنحو 48%، إلى جانب نتائج مقاربة في غانا ودول أخرى.

ودفع انخراط الشركة المغربية في إثيوبيا نحو زيادة قدرها 37% بمحاصيل القمح والذرة والتيف (يستخدم في إنتاج الطحين).

ويبني مكتب الشريف للفوسفات “أو سي بي” المغربي محطات أسمدة بأفريقيا جنوب الصحراء، وهي مشروعات مشتركة مع الأطراف المعنية المحلية.

وفي نيجيريا التي تضم أكبر احتياطيات القارّة من الغاز الطبيعي، تبني الشركة المغربية “أو سي بي” والشركاء النيجيريون محطة للأمونيا والأسمدة بتكلفة 1.4 مليار دولار، بغرض زيادة مقدار الأسمدة المُستخدمة من قبل المزارعين النيجيريين إلى 3 أضعاف خلال 5 سنوات.

وتستثمر “أو سي بي” المغربية نحو 1.3 مليار دولار لبناء مجمع صناعي للأسمدة في غانا، بالاستفادة من الغاز الطبيعي الغاني والخدمات المقدّمة في أسواق غرب أفريقيا.

وفيما يتعلق بأسواق شرق أفريقيا، تبني “أو سي بي” في إثيوبيا ثاني أكبر المجمعات الأفريقية لإنتاج الأسمدة، وهو مشروع مشترك يستخدم موارد الغاز المحلية، وتتوقع “أو سي بي” أن تزوّد مرحلة التطوير الأولى (التي تبلغ تكلفتها 2.4 مليار دولار) سوق الأسمدة الأثيوبية بحلول عام 2023.

ما توصّل إليه المقال

باستثمار إجمالي بلغ 6.3 مليار دولار في بناء محطات أسمدة بأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أظهر المغرب استشرافًا إستراتيجيًا ملحوظًا.

وللمساعدة في التصدي للتهديد الروسي واستخدامه الصلة بين الغذاء والطاقة سلاحًا، تبرهن الرباط على أهميتها المتنامية لأوروبا وأميركا بصفتهما شريكًا جيوسياسيًا في دول أفريقيا جنوب الصحراء.

وفي ظل الاقتصاديات الجغرافية للترابط والتقارب التي تجلب المزيد من التركيز للأهمية الجيوسياسية لأفريقيا، يُحتمل أن تزداد كثافة المشاركة الإستراتيجية لأوروبا وأميركا مع المغرب.

المصدر: مواقع إلكترونية

 

Exit mobile version