ما سر المصباح الذي يعمل باستمرار منذ أكثر من 120 عاماً؟
عادةً ما نسمع عن نباتات أو أشجار معمرة لعشرات السنين، لكن من النادر سماع ذلك عن أشياء من صنع الإنسان.
حيث يقف هذا المصباح ليثبت لنا مرة أخرى أن الإنسان لم يعد يصنع الأشياء كما كان يفعل في سابق عهده.
بنفس الجودة والإتقان، بعد أكثر من مليون ساعة من الاستخدام، وأكثر من قرن من الزمن.
في محطة إطفاء غير عادية تماماً، في مدينة (ليفرمور) في (كاليفورنيا) بالولايات المتحدة، يوجد مصباح كهربائي مضاء منذ أن تم تشغيله المرة الأولى في سنة 1901.
يعتبر هذا ”المصباح المئوي“، كما اشتهر لدى كل من سمع بقصته، أكثر مصباح يشتغل لأطول مدة في التاريخ، حيث كان يضيء باستمرار دون توقف منذ سنة 1901، مع فاصل زمني قصير في سنة 1976 عندما تم فصله عن الكهرباء لمدة 22 دقيقة لأن محطة الإطفاء التي كان يتواجد بها تم نقلها إلى مقر آخر.
من أين أتى مصباح مذهل بهذا الشكل؟ وكيف له أن يتمكن من العمل لكل هذه المدة دون توقف؟
صنع هذا المصباح الكهربائي المئوي أول مرة في (شيلبي) بـ(أوهايو) من طرف (شركة شيلبي الكهربائية) Shelby Electric Company في وقت ما في تسعينات القرن التاسع عشر.
وكان قد وصل أول مرة لمدينة (ليفرمور) عندما اشتراه سنة 1901 (دينيس برنال) مالك شركة (ليفرمور للطاقة والمياه) Livermore Power and Water Company.
وعندما قام هذا الأخير ببيع شركته في نفس السنة، تبرع بهذا المصباح الكهربائي إلى محطة إطفاء حرائق محلية.
تم وضع المصباح بعد ذلك ليضيء غرفة تحتوي على عربات الخراطيم في ذات المحطة، قبل أن يتم تغيير موقعه إلى مستودع كان يتم استخدامه من طرف إدارة الحرائق، ثم إلى دار بلدية المدينة.
في الأخير، وجد هذا المصباح الكهربائي طريقه إلى ما سيصبح مقره الأخير والدائم، وهو ما عرف بمحطة الإطفاء رقم 6.
هناك لبث المصباح، حيث أصبح علامة مميزة محلية ومفخرة مدينة (ليفرمور)، على الرغم من أن قوة المصباح على استيعاب الطاقة خفتت من 30 واط كما كان عليه في بداية تشغيله إلى مجرد 4 واط ضئيلة، غير أنه ما زال مضاء، وذلك لمدة تجاوزت 120 سنة، وأكثر من مليون ساعة من الاستخدام.
بتحقيقه لإنجاز من هذا النوع، تم اعتبار المصباح الكهربائي المئوي على أنه ”أكثر المصابيح الكهربائية ديمومة“ من طرف موسوعة (غينيس) للأرقام القياسية في سنة 1972، وهو الآن يحمل الرقم القياسي عن كونه ”المصباح ذو مدة التشغيل الأطول في التاريخ“ من قبل نفس الموسوعة.
ما نعرفه عن تصميم هذا المصباح الكهربائي المئوي:
ما يلفت الانتباه أكثر حول هذا المصباح الكهربائي ويجعله مميزاً هو كونه غير مميز على الإطلاق، فعلى الرغم من أن الباحثين ليسوا متيقنين تماماً من التصميم الدقيق لهذا المصباح المئوي -حيث أن تفقده بدقة بينما يكون مشتغلًا هو مهمة مستحيلة تقريباً- غير أنهم يعتقدون أنه ليس مختلفاً كثيراً عن أي من المصابيح التي صممتها شركة (شيلبي) زمن تصميم هذا المصباح المئوي.
كما أنه على الرغم من أن فترة حياة هذا المصباح الطويلة جداً قد تكون راجعة لتصميه الفريد، غير أن جميع المصابيح من ذلك الزمن من عادتها أن تشتغل لفترات طويلة جداً، هذه الفترات التي قد نعتبرها بمعايير يومنا هذا طويلة وغير عادية.
ذلك أن هذا المصباح المئوي تم تصنيعه قبل أن تقوم شركات صناعة المصابيح بوضع معايير تحد من فترة حياة المصابيح، وذلك في عشرينيات القرن الماضي.
حيث، وفقاً لبعض الباحثين، اجتمعت في عشرينات القرن الماضي أكبر شركات صناعة المصابيح آنذاك وهي (فيليبس) و(أوسرام) و(جينيرال إيليكتريك) في مقر في السويد من أجل تشكيل ما يسمى بـ(فيبوس) وهو تكتل عالمي لها.
ومع تشكيل هذا التكتل أو (الكارتيل)، حدت شركات تصنيع المصابيح هذه من فترة حياة وتشغيل المصابيح الكهربائية وجعلتها لا تتجاوز الـ1000 ساعة، تحت غطاء أن هذا يجعلها أكثر كفاءة وفعالية، كما وضعت قوانين صارمة تعاقب كل أعضاء هذا الكارتيل من الشركات التي تخرق هذا الاتفاق بزيادة عدد ساعات فترة حياة وتشغيل المصابيح الكهربائية.
في الواقع، خلقت شركات الإضاءة وتصنيع المصابيح قانون الألف ساعة هذا لأنها كانت قد اكتشفت أنها من خلال تقليص فترة حياة المصابيح الكهربائية، يصبح بإمكانها جمع قدر أكبر من العائدات من خلال بيع نفس المصابيح لنفس الزبائن مراراً وتكراراً، هؤلاء الزبائن الذين سيجدون أنفسهم بحاجة إلى مصابيح جديدة كل ألف ساعة من التشغيل.
قال في هذا الصدد السيد (ماركوس كراوسكي)، وهو بروفيسور دراسات الإعلام في جامعة (بازل) في سويسرا الذي كان قد أجرى العديد من البحوث حول تكتل (فيبيس): ”كان ذلك الهدف الواضح والجلي الذي أراد هذا الكارتيل تحقيقه من خلال تقليص فترة حياة المصابيج من أجل زيادة حجم المبيعات“.
بينما لم يصمد تكتل (فيبيس) الذي كان قد انحل بعد بضعة سنوات لاحقًا، إلا أن المعايير التي كان قد أنشأها عاشت بعد ذلك إلى يومنا هذا، ومنها معيار ”التقادم المخطط“، الذي وفقاً له يتم تصميم المنتوجات ليكون لها فترة حياة واستعمال قصيرة اصطناعيًا حتى تتمكن الشركات المصنعة من تحقيق مبيعات أكبر.
بلغ نموذج التجارة هذا ذروة شعبيته خلال فترة الكساد الكبير Great Depression، بعد فترة وجيزة من تكوين الكارتيل السابق ذكره، كطريقة لزيادة وظائف العمل في المصانع من خلال جعل المنتجات تباع بوتيرة أكبر، غير أن هذا النموذج كذلك لم يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تنتهجه جميع شركات الإنتاج تقريباً، سواء من مجال تصنيع الإضاءة والمصابيح أو غير ذلك من أجل زيادة أرباحها.
في أيامنا هذه، أصبحت ممارسة معيار ”التقادم المخطط“ أمراً شائعًا، حيث أصبحت العديد من الشركات، خاصة التكنولوجية منها، تعمد إلى صناعة برامج أو منتجات من الصعب جداً إصلاحها.
كما تكون مصصمة للتلف أو تصبح غير مطابقة للمعايير بعد مدة معينة من تشغيلها.
يجبر هذا الأمر الزبائن على استبدال منتجاتهم بوتيرة أكبر مما كان يتحتم عليهم قديماً القيام به، وكل هذا فقط لكي تنجح الشركات في تحقيق أرباح أكثر.
يؤمن (تيم كوبر)، وهو بروفيسور تصميم يترأس مجموعة أبحاث الاستهلاك المستدام في جامعة (نوتينغهام ترنت)، أن الطريقة الوحيدة لحل هذه المعضلة هي من خلال التدخل الحكومي لإجبار الشركات على الحد من هذا التقليد المتبع.
كما يعتقد كذلك أنه يجب وضع أدنى معايير لمتانة وقابلية الإصلاح، وكذلك قابلية تحديث المنتجات، بالإضافة إلى أن خفض نسبة الضرائب على العمل، ورفع الضرائب على استهلاك الطاقة والمواد الخام قد تكون كذلك من الطرق التي ستحد من ممارسات هذه الشركات التعسفية.
كما أنه اعترف أن هذه الإجراءات المقترحة من طرفه ستتسبب في انخفاض في نمو الاقتصاد على المدى القصير، مما قد يجعل السياسيين يتجنبون اتباعها. ذلك أنها لن تظهرهم بمظهر الأبطال الذي يحبون أن يظهروا عليه دائماً.
لكن إلى غاية انتهاج تغييرات جذرية مثل هذه السابقة الذكر، سنستمر في الغالب في اقتناء منتوجات مصممة خصيصاً لتهتلك في فترة وجيزة.
كما سنستمر في تبديل مصابيحنا كل سنة تقريباً على الرغم من كون مصباح واحد صنع في تسعينات القرن التاسع عشر مازال يشتغل باستمرار دون توقف إلى يومنا هذا للأسف الشديد.
ربما ستكون رابحاً أكبر لو كنت تمتلك مؤسسة لصناعة مصابيح مصممة خصيصاً لتهتلك في فترة وجيزة.