مع ظهور أولى صور تلسكوب “جيمس ويب” ظهرت على الواجهة أسئلة ترتبط بمدى قيمة هذه الصور على الحياة اليومية للبشر.. فهل الاستثمار في الفضاء يجدي فعلا؟
مع ظهور أولى صور تلسكوب “جيمس ويب” ظهرت على الواجهة أسئلة ترتبط بمدى قيمة هذه الصور على الحياة اليومية للبشر.. فهل الاستثمار في الفضاء يجدي فعلا؟
منذ الإعلان الأول عن منجزات التلسكوب الفضائي “جيمس ويب” التابع لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، وبالتعاون مع وكالتي الفضاء الأوروبية والكندية؛ سرت موجة مرتفعة من الاهتمام في جميع أنحاء العالم -والعالم العربي بشكل خاص- حيث تحدث الجميع عن عمق هذا الكون واتساعه وقدرات التلسكوب الجديد، لكن إلى جانب ذلك أثير اهتمام البعض للتساؤل عن أهمية كل ذلك.
سيقول أحدهم إن عدد فقراء العالم قد قارب على المليار، وسيقول آخر إن نسب الإصابة بالسرطان ترتفع وما زلنا نكافح لإيجاد العلاج.. فلم لا ننفق 10 مليارات من الدولارات (ميزانية جيمس ويب) في مكافحة الفقر والمرض عوضا عن إهدارها على تصوير بعض المجرات في السماء؟
هذه الأسئلة مشروعة بالفعل، والواقع أن ارتفاع ميزانية جيمس ويب عاما بعد عام منذ بداية العمل به هدّد بنسف المشروع كاملا من قبل الكونغرس الأمريكي، فقد بدأت الميزانية بمليار دولار في عام 2000، ثم أخذت في الارتفاع مع تعقّد الأدوات المستخدمة في هذه المهمة العلمية، والأمر نفسه ينطبق على مشاريع علمية أخرى لناسا تزداد تكاليفها عاما بعد عام، مثل “سيتي” (SETI)، أو برنامج البحث عن ذكاء خارج الأرض، حيث اضطرت ناسا لتقليص ميزانيته عاما بعد عام، لأن نتائج هذا البحث باءت بالفشل إلى الآن.
البحث العلمي.. تراتبية الأهمية بين الأساسي والتطبيقي
هناك نقاط قوة تقف في صف هذا النوع من المهام العلمية، منها أن البحث العلمي في علوم الفلك والفضاء يقع ضمن نطاق “البحث العلمي الأساسي” (Basic Research)، ويعني منهجية البحث العلمي التي لا تحدد هدفا معينا، بل تستمر في اتباع الفضول الإنساني الطبيعي في الاستكشاف عبر طرح أسئلة بسيطة مثل كيف ولماذا.
وعلى الجانب الآخر يقف ما يسمى بـ”البحث العلمي التطبيقي” (Applied Research)، والذي يعني أن تستهدف منهجية البحث العلمي منتجا بعينه، كأن يكون تقنية جديدة أو أداة لعلاج مشكلة بعينها. ففي عالم الطب مثلا يشير نموذج البحث عن علاج بعينه للسرطان أو مضاد حيوي محدد لمرض ما إلى بحث علمي تطبيقي.
للوهلة الأولى قد تظن أن الأبحاث التطبيقية أهم من الأبحاث الأساسية في تطوير كل ما نحتاجه من تقنيات مفيدة، لكن البحث العلمي يشير إلى خطأ تلك الفكرة، فالأبحاث الأساسية كانت دائما سبب عدد أكبر من المنجزات التقنية.
العلوم النظرية.. تطورات ثورية في المجال التقني
على سبيل المثال، كان فريق بحثي أمريكي بقيادة علماء من جامعة هارفرد قد نشر ورقة بحثية بمجلة “ساينس” المرموقة قبل عدة سنوات، ليصل فيها إلى نتيجة تقول إن 80% من المضادات الحيوية الرئيسية المكتشفة بين عامي 1985 و2009 كانت نتاج بحث علمي أساسي، وهو ما يعني أن أحد العلماء في نطاقات المناعة مثلا أو علم وظائف الأعضاء أو النبات كان مستمرا في بحثٍ عام حول طبيعة عمله، ثم وجد بشكل جانبي إضافة لها فائدة مهمة.
من جانب آخر، فإن التطورات الثورية التي أحدثتها ميكانيكا الكم والنظرية النسبية في الفيزياء الحديثة -وهي علوم نظرية- كان لها دور جوهري في منجزات تقنية، مثل الهواتف الذكية، وبطاريات الليثيوم في الهواتف وفي السيارات الكهربائية المعاصرة، وإضاءة “الليد” التي حصلت على جائزة نوبل سنة 2014، هذا ولم نتحدث بعد عن دور النظرية النسبية في ضبط الأقمار الصناعية منظومات التموضع العالمية (GPS).
أضف إلى ذلك أن دراسة الكون بتلسكوبات مثل جيمس ويب تتطلب جمع أكبر قدر ممكن من التفاصيل الدقيقة عبر تقنيات ثورية في نطاقات البصريات ومعالجة الإشارات مثلا. فمنذ بداية عصر المسابير الفلكية شقت كل هذه الاختراعات طريقها إلى مجالات مختلفة تماما، كالإلكترونيات الاستهلاكية والاتصالات مثل “واي فاي” (Wifi)، والتكنولوجيا الطبية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي.
“تعدين الفضاء”.. كيف نحصل على موارد من القمر والكواكب؟
هذا ولم نتحدث بعد عن نطاق بحثي واعد يمتلك اهتماما يوما بعد يوم هو تعدين الفضاء، حيث تساهم التطورات في علوم الفلك والفيزياء الفلكية في إعطاء رجال الاقتصاد والسياسة أدوات لتقييم الفائدة الاقتصادية للأجرام السماوية، ونتحدث هنا بشكل خاص عن الموارد التي يمكن الحصول عليها من القمر، أو كواكب مثل المريخ، أو الكويكبات القريبة من الأرض، وبشكل عام كل جرم يمكن حرث موارده أكان قريبا أم بعيدا.
قد تظن أننا نتحدث في فانتازيا أو أشياء لن تحدث الآن، لكن إذا تأملت خطاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن العودة إلى القمر قبل عدة أعوام، ستجد أنه يقول بوضوح إن الزيارة الأمريكية القادمة للقمر ستهدف إلى “حصاد الموارد القمرية” بجانب المهام الاستكشافية أيضا، والواقع أن دولا مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية تتنافسان على هذا النطاق حاليا.
أضف إلى ذلك أن هناك نشاطا متسارعا لشركات جديدة في هذا النطاق، مثل “ديب سبيس أنداستريز”، أو “بلانيتاري ريسورسز”، وهي ممولة بشكل رئيسي من دولة لوكسمبورغ، أما وكالة ناسا فقد بدأت بالفعل استثمارات ضخمة في نطاق “تعدين الكويكبات”.
هناك كويكبات كثيرة تمر سنويا على مسافة قريبة من الأرض تحتوي على كميات هائلة من معادن مهمة من “مجموعة المعادن البلاتينية” و”العناصر الأرضية النادرة”، وكلاهما مفيد في صناعة كل شيء تقريبا، بداية من البطاريات والإلكترونيات، ووصولا إلى تكرير البترول وإنتاج الطاقة.
يصل الأمر إلى حد أن يقول الفيزيائي الأمريكي الشهير نيل ديغراس تايسون: أول “تريليونير” في العالم لن يكون واحدا من أباطرة وادي السيليكون، بل “مُعدّن كويكبات”.
قطبا العالم.. حرب سياسية تقودها قوة ناعمة
يظهر إذن أن الأمر لا يتوقف فقط على تصوير مجموعة من السُّدم والمجرات، لكن نطاق البحث العلمي الذي يعمل به جيمس ويب وغيره من التقنيات يطور فهمنا بشكل أعمق للطبيعة، وكعرض جانبي نحصل على فوائد تطبيقية جمة.
لكن هذا وحده ليس السبب في إنفاق الدول مليارات الدولارات في تلسكوبات مثل جيمس ويب، بل هناك سبب آخر يتعلق بالصراع السياسي.
أشهر مثال في هذا النطاق هو الصراع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية على إرسال أول إنسان إلى سطح القمر، فقد كلفت هذه المهمة في مجملها ما مقداره نحو 150 إلى 200 مليار دولار، وذلك بعد ضبط معايير التضخم كي تكون مناسبة للكلفة اليوم. فسبب هذه التكلفة الهائلة هو الحرب السياسية بين قوتين تتنافسان على سيادة العالم كله، لأن التقدم العلمي هو قوة ناعمة تستخدمها الدول لفرض سيطرتها دون الحاجة إلى دبابات وجنود أشداء.
سيادة العالم.. في منافسة التنين القادم من الشرق
يظهر ذلك بوضوح حاليا في الجهود المبذولة من الصين لتطوير منظومة البحث العلمي بها لتنافس الولايات المتحدة الأمريكية، فخلال العقود القليلة الماضية اتبعت الصين سياسات تنموية مدفوعة بالبحث العلمي ومنتجاته التقنية، خاصة في علوم الفضاء، ويتضح ذلك مثلا في المسبار الصيني “تشانغ إي 4” الذي هبط عام 2019 على الجانب الآخر من القمر؛ ذلك الذي لا يقابلنا على الأرض، وهي سابقة تعد الأولى من نوعها في التاريخ، لأن كل المركبات هبطت من قبل على وجه القمر المقابل لنا.
في الحقيقة ليست تلك هي المرة الأولى التي يكون فيها للصين السبق في نطاق متعلق بعلوم الفضاء، فهي تمتلك اعتبارا من 2016 التلسكوب الراديوي الأكبر في التاريخ بقُطر 500 متر، ويُسمى “فاست” (FAST)، ويتكون من نحو 4500 لوح معدني مثلث الشكل، وكلما ازداد قُطر التلسكوب الراديوي تمكن الباحثون بسهولة من استراق السمع لأبعد النجوم ونبضاتها.
ومنذ عام 1963 كان التلسكوب الراديوي الأمريكي “أريسيبو” (ARECIBO) هو الأضخم والأدق في العالم، لكن التلسكوب الصيني يأتي بضعف الحجم ليفتح بابا جديدا للسماء، بل ويأمل الصينيون أن يتمكن “فاست” من تحقيق هدف البشرية الأكبر بالتقاط رسائل من حضارات ذكية، وإذا كانت هذه الإشارات أو الحضارات موجودة فلا بد أن يكون الصينيون أول من يلتقطها.
من وجهة النظر هذه فإن جيمس ويب وقدراته والضجة الدعائية العالمية حوله ما هي إلا محاولة من الصين لاستعادة مكانتها في علوم الفضاء، خاصة وأن الصين تُطور من قدراتها بتسارع غير مسبوق، بل ربما بحجم لم يشهد العالم مثله من قبل.
المصدر: مواقع إلكترونية