منوعات

في قبو بأقاصي شمال الكرة الأرضية، تختبئ مئات ألوف الحبوب التي تحمي أنواع النباتات وتحفظ أكبر قدر ممكن من الشيفرات الوراثية للبذور.. فهل حقا يمكن لهذه البذور أن تنقذ البشرية من المجاعات عند وقوع الكوارث؟

في قبو بأقاصي شمال الكرة الأرضية، تختبئ مئات ألوف الحبوب التي تحمي أنواع النباتات وتحفظ أكبر قدر ممكن من الشيفرات الوراثية للبذور.. فهل حقا يمكن لهذه البذور أن تنقذ البشرية من المجاعات عند وقوع الكوارث؟

على اتساع الكون وعظمته لم يعرف الإنسان كوكبا يحتضن الحياة بأشكال عدة مختلفة من حيوانات ونباتات وبكتيريا وغيرها من الكائنات الحيّة التي لا يمكن حصرها مثل كوكب الأرض. إنّ ذلك التنوع البيولوجي الذي تتسم به الأرض هو العُرف الحاكم للكوكب والقانون السائد على المخلوقات، مع تفاوت كثافة هذا التنوع من مكان إلى آخر.

وعلى الرغم من أنّ كوكب الأرض يُعد داعما وركيزة لهذا التنوع الحيوي على سطحه منذ سنوات طويلة، فإنه لم يكن يوما قادرا على حماية شتى أنواع الكائنات الحيّة من مصيرها المحتم في الانقراض بسبب الكوارث الطبيعية التي تحلّ عليه بين الفينة والأخرى كسقوط النيازك وثوران البراكين وحدوث التسونامي وغير ذلك مما يهدد حياة المخلوقات، وفي ذلك سنّة في دورة الحياة.

وعلاوة على ذلك، فإن النشاط البشري الذي رافق النهضة المعاصرة ساهم بشكل كبير في تغيير خارطة سير الحياة وآلية عملها، حتى باتت هناك منعرجات شديدة وعوامل حاسمة تعجّل بهلاك بعض أنماط الحياة على الكوكب.

وعلى ضوء ذلك جاء تأسيس قبو سفالبارد العالمي للبذور بجهود دولية على مستوى حكومي وفردي في بداية القرن الحالي، ويهدف بشكل أساسي إلى حماية أنواع النباتات وحفظ أكبر قدر ممكن من الشيفرات الوراثية للبذور، وخصوصا تلك التي توشك على الانقراض، وذلك قبل أن تموت فتختفي إلى الأبد.

غطاء النبات.. ألوان التنوع في حلة الأرض الخضراء

باستثناء المناطق القطبية والمرتفعات الجبلية الشاهقة، تتميز الأرض بمجملها بتنوعٍ كبير في الأصناف والأنواع النباتية، وتنحصر كثافة التنوع بين مداري السرطان والجدي، في المنطقة التي يُطلق عليها المنطقة المدارية. ويعود الأمر في ذلك إلى اعتدال الأجواء في تلك المناطق وقدرة جلّ الكائنات الحية على التكيّف غلى التغير المناخي الذي طرأ على الأرض مذ ملايين السنين.

وثمّة 58,497 نوعا نباتيا حول العالم معروفا اليوم، وفق منظمة “حماية الحدائق النباتية العالمية” الواقع مقرها في لندن، مع وجود أعداد أخرى غير معروفة بعد، وتوجد في أماكن يتعثر الوصول إليها في أعماق الغابات الاستوائية وغيرها.


وتحظى قارة أمريكا اللاتينية بأكبر قدر من هذا التنوع بنسبة تصل إلى 40%، علمًا بأنّ الغطاء النباتي في أوروبا هو الأكبر مقارنة بغيرها إلا أنه يفتقر للتنوع بنسبة 10% فقط. وبطبيعة الحال، فإن البرازيل بالنظر إلى مساحتها الشاسعة وموقعها في أمريكا اللاتينية تتمتع بأكبر تعدد نباتي على مستوى البلدان، كما تحتضن الأمازون أكبر تجمع غابات على وجه الأرض.

وتغلب على الأشجار صفة التفرد في “الاستيطان”، أي أنها تنمو على نطاق محدود وهي تمثل 58% من كافة الأنواع، على عكس بعض النباتات التي تنتشر في الأرض مثل أشجار “زيمينا أمريكانا” المثمرة الموجودة في 96 دولة حول العالم اليوم.1

مطامع التجارة ومصائب الحروب.. شبح يطارد الأشجار

في أيلول/سبتمبر من العام 2021 أعلنت منظمة “حماية الحدائق النباتية العالمية” عن تقرير صادم يتناول مستقبلا مأساويا للحياة النباتية على سطح الأرض، إذ يشير التقرير إلى أنّ ما لا يقل عن 30% من أصناف الشجر تحت طائلة التهديد المباشر. كما أوضح التقرير أن 142 نوعا من النباتات البريّة قد انقرض بالفعل خلال السنوات القليلة الماضية، و442 نوعًا آخر يواجه ذات المصير اليوم.

وتوضح الدكتورة “مالين ريفرز” المسؤولة العامة للمنظمة مدى خطورة الوضع الحالي، إذ تقول: لدينا ما يقارب 60 ألف نوع من الأشجار على هذا الكوكب، ولأول مرة ندرك اليوم أيّ هذه الأنواع بحاجة إلى إجراءات الحماية الفورية، ونعلم ما هي أكبر التهديدات التي تواجهها وأين توجد.


وبمعنى آخر فإنّ شجرة من كلّ 3 أشجار على سطح الأرض تواجه شبح الموت والانقراض، ويعود الأمر إلى عدة عوامل، أهمها إزالة الغابات من أجل المحاصيل الزراعية، وتؤثر بنسبة 29% على الأنواع النباتية، وقطع الأشجار، ويشكل نسبة 27%، والحرائق بنسبة 13%.2

هذا إذا ما تغاضينا عن عوامل أخرى متوقعة ذات أثر سلبي أكبر مثل الاحتباس الحراري وتبعاته من ارتفاع منسوب المياه وغرق الغابات، وأيضا الحروب المدمرة وآثار استخدام الأسلحة المحرمة دوليا مثل الأسلحة الكيميائية والنووية.

والحرب الدائرة اليوم بين موسكو وكييف واحتمالية استخدام السلاح النووي الواردة، على الرغم من أنه مستبعد في الوقت الآني؛ تبقى نذير شؤمٍ على التنوع الحيوي والبيولوجي على الأرض مستقبلا، كما تشير بعض التقارير إلى أنّ أنواع الأشجار المهددة بالانقراض على مستوى العالم تعادل الضعف مقارنة بالثدييات والطيور والبرمائيات والزواحف المهددة مجتمعة.

وأبرز هذه النباتات شجر مجنحيات الثمر “الديبتيروكاربس”، وتعد المصدر الأول في صناعة الأثاث الخشبي في المنازل، ويصدر بثروة تزيد عن 3.5 مليارات دولار سنويا من جزيرة بورينو الإندونيسية، وكذلك شجر العود الذي يبلغ قيمة الكيلوغرام الواحد منه 100 ألف دولار، ويشكل حصة مالية قدرها 32 مليار دولار في التجارة العالمية، وهناك نباتات أخرى مثل الكرز الأفريقي وشجرة الماهوغاني ونبات الطقسوس الباسيفيكي.3

“قبو سفالبارد العالمي للبذور”.. وديعة الأرض للقطب الشمالي

على حافة جزيرة ثلجية نائية بالقرب من القطب الشمالي المتجمد، أطلّ نصبٌ حديدي شامخ اعتلته لوحة زجاجية فنية مطلية باللون الفيروزي، وفي الأسفل ظهرت بوّابة صغيرة فولاذية تؤدي إلى مدخل أرضي يقود إلى أحشاء الجزيرة حيث يستقر أحد أهم الموردات المستقبلية للإنسان وللأرض، والحديث هنا ليس عن بئر نفط أو منجم ألماس، بل بنك عالمي للبذور.

يُعرف هذا المخزن باسم “قبو سفالبارد العالمي للبذور” ويقع في جزيرة سبيتسبيرجين النرويجية، ويخزن فيه أكثر من 930 ألف بذرة من كافة نباتات العالم المعروفة، وهو أشبه بمبنى للودائع النباتية للمستقبل، ويقول “براين لاينوف” مدير منظمة “الصندوق الائتماني العالمي لتنوع المحاصيل” ومدير القبو: إن بداخل هذا البناء تاريخا زراعيا يمتد إلى 13 ألف سنة.


ويعود سبب اختيار المكان النائي إلى كونه بعيدا كل البعد عن النزاعات البشرية وعن الكوارث الطبيعية المحتملة، ثمّ إنّه يقع في أقصى نقطة يمكن للطائرة المدنية أن تحلق إليها شمالا، وقلما يصل إليه البشر. وعلى الرغم من وجود نحو 17 ألف بنك بذور حول العالم، يبقى “قبو سفالبارد العالمي” أهمها وأكثرها أمانا بتصميمه الداخلي المميز القابع داخل الجبل.

فبعد اجتياز البوابة الرئيسية والوحيدة للقبو، يظهر بهو صغير مليء بالضوضاء والصخب بسبب أنظمة التبريد المطلوبة للحفاظ على درجة الحرارة داخل القبو. ثمّ تظهر بوابة صغيرة تقود إلى نفق خرساني عريض للغاية ومضاء بإنارة شريطية على امتداد الممر الذي يبلغ طوله 130 مترا. وعند نهاية النفق توجد غرفة أخرى لغرض الحماية، وتؤدي إلى ثلاثة أبواب متفرقة.

تلك الأبواب الثلاثة تقود إلى الغرف الأساسية حيث تحفظ البذور، كما يتوشح الأبواب غلافٌ جليدي سميك يوحي بالبرودة القارسة في الداخل، إذ تبلغ 15 درجة مئوية تحت الصفر. ويكمن سبب اختيار هذا العمق السحيق في كون الطبقة الجيولوجية المحيطة بالغرف، وتُعرف بطبقة “التربة الصقيعية” (Permafrost)، تحافظ على درجة حرارتها البالغة 5 تحت الصفر على مدار العام، بحيث لو حصل انقطاع للتيار الكهربائي تحت أي ظرف، فإن البذور ستستمر بالمحافظة على جودتها إلى الأبد.

وتشغل غرفة واحدة فقط بينما تبقى غرفتان غير مستخدمتين، وفي تلك الغرفة توجد عدّة رفوف يصل ارتفاعها إلى السقف، وتضم صناديق بأحجام معيّنة من بلدان عدّة موثقة ومسجلة بكافة التفاصيل، كما يستطيع أيّ متبرع أن يرسل بذوره على شريطة أن تكون حقيقية، وما يحكم بين إدارة القبو والزبائن هي الثقة، كما تتعرض البذور للتفتيش فقط عند دخولها مطار الدولة وعدا عن ذلك فإنها تحتفظ بسريّة تامة، تماما كما يحدث بالبنوك والمستودعات الضخمة.4

وقد ظهرت فكرة إنشاء القبو في ثمانينيات القرن الماضي، ولم يفتتح إلا في عام 2008 تحت اتفاق ثلاثي بين الحكومة النرويجية والصندوق الائتماني العالمي لتنوع المحاصيل (GCDT) ومركز الموارد الوراثية لدول الشمال (NordGen) بكلفة فاقت 9 مليون دولار.

قبو حلب.. نجاة البذور من عبث الحرب السورية

لعلّ من دخل قبو سفالبارد ونظر مليا بين المصفوفات الممتدة إلى نهاية الحجرة، سيلاحظ وجود صناديق سوداء اللون مصطفة في ترتيب معيّن، وتبدو كالأخريات إلا أنها ليست كذلك بسبب الرحلة الطويلة التي خاضتها هذه الصناديق للوصول إلى مستقرها هنا.

فعلى إثر قيام الثورة السورية واندلاع الحراك الشعبي في عام 2011 وما تبعه من مواجهة عنيفة وحرب دامية؛ وقعت أحداث أفضت إلى تحطيم البنى التحتية في جلّ المدن السورية، وطالت رياح التدمير العاتية أحد تلك الأقبية العالمية التي كان يقع مقرّها في مدينة حلب، وقد أجريت عملية إخلائه على ثلاث مراحل، ابتداء من عام 2012 ثمّ 2015 وأخيرا 2017.


ويدير هذا البنك الجيني “المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة” واختصاره “إيكاردا” (ICARDA)، وقد استعانوا بنظرائهم المسؤولين عن قبو سفالبارد العالمي في عملية نقل البذور من سوريا إلى الخارج وحفظها ريثما يجدوا مستقرا آخرا لها.

وفي الوقت الراهن يعمل مركز “إيكاردا” على نقل جميع البذور التي جرى إيداعها في قبو سفالبارد إلى بنك جيني يقع في لبنان، وآخر يقع في المغرب، وذلك في محاولة إعادة تحسين بعص المحاصيل النباتية مثل العدس والشعير والفول.5

استيراد البذور.. سياسات صارمة تنظم البنوك الجينية

لا تعد المنظمات المسؤولة عن البنوك الجينية حول العالم ربحية، وتعتمد في الأساس على العمل الجماعي والفردي على حد سواء. فقبو سفالبارد صُمم بطاقة استيعابية تعادل 2.5 مليار بذرة بمتوسط 500 بذرة احتياطية لكل نوع، لكنه يعتمد على البنوك الأخرى في توريد واستيراد البذور.


وتحظى كلّ دولة بقسم خاص بها على أن تودع البذور بما يتوافق مع القوانين الدولية ذات الصلة، وهي المادة الـ15 من المعاهدة الدولية، وبموجبها سيقبل القبو استلام المواد من أي بنك جيني حول العالم لإيداعها هناك، وتحت أيّ ظرف من الظروف لن يُعبث بالمواد المودعة أو تفتح إلا من طرف الجهة المودعة.

وعلى مستوى الأفراد، فإنّ أي تبرعات قادمة للبذور، تتحتم عليها سياسة قبو سفالبارد بالتعامل مع البنوك الجينية المحلية، وهي التي من المفترض أن تقدم تسهيلات في عملية حفظ البذور وتغليفها ثمّ إرسالها.6

المصادر: مواقع إلكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى