المصادفة هي الطريقة الوحيدة لاكتشاف الآثار في غزة
تفتقر دائرة الآثار لمعدات التنقيب وأجهزة المسح الأثري ولا خبرات متخصصة في المجال
تعد الفسيفساء البيزنطية في غزة أعظم وأهم الاكتشافات التي جرت العام الجاري (اندبندنت عربية)
بعد مضي نحو ستة أشهر على غرس الفلاح الفلسطيني سليمان شجرة زيتون في أرضه لاحظ أن جذورها لا تنمو بطريقة صحيحة، وأثاره الفضول لمعرفة سبب ذلك، وأخذ يحفر حول الجذع بهدوء حتى اكتشف أن ثمة بلاطة كبيرة وغريبة مدفونة في التربة.
وسع سليمان عملية الحفر، وكان كلما أزال التراب أكثر يظهر له امتداد البلاطة المنقوش عليها رسوم لحيوانات ولطيور، ولم يكن يعلم حينها أن كل حفنة تراب ينقلها تعود به سنوات إلى الوراء وبالتحديد إلى الحقبة البيزنطية، يقول “كنت أظن أن كنزاً مدفوناً في الأرض، وبدأت أبحث عنه، بثلاث حفريات في ماكن ومساحات مختلفة، وفي كل مكان أجد البلاطة نفسها، ومع استمرار عملية التنقيب وجدت آثاراً تاريخية قديمة، وبعدها توجهت إلى جهات الاختصاص”.
كانت المصادفة هي الطريقة التي اقتادت سليمان وفرق التنقيب المحلية التي استعان بها لاكتشاف أرضيات فسيفساء ومقتنيات فخارية وقوارير زجاجية، لكن لمعرفة تفاصيل أكثر حول المكان تواصلت وزارة السياحة والآثار مع منظمة الإغاثة الأولية الدولية (مؤسسة دولية تقدم المساعدة في الكوارث الطبيعية والصراعات) ومع المركز الفرنسي لدرس الكتاب المقدس والآثار (مؤسسة غير حكومية تعمل في الأراضي الفلسطينية والإسرائيلية) وأيضاً مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو” لتقويم أهمية الموقع وتحديد منطقة التنقيب.
أعظم اكتشاف
يقول عالم الآثار الفرنسي رينيه إلتر الذي حضر إلى غزة من أجل اكتشاف أرضية الفسيفساء، إن علماء الآثار يعتبرون أن “الموقع الذي يجري فيه التنقيب أحد أعظم وأهم الاكتشافات على الإطلاق في قطاع غزة، حيث لم نشهد من قبل فسيفساء تتباهى بالألوان الغنية التي وجدت على البلاط”. مشيراً إلى أن هذا الاكتشاف يضفي هيبة ووقاراً ويؤرخ الحضارة في الأراضي الفلسطينية.
وبحسب “يونسكو” والمركز الفرنسي للآثار، فإن أرضية الفسيفساء المكتشفة بالصدفة في غزة، تعد من أعظم وأهم الاكتشافات التي جرت هذا العام في العالم، لأنها تبدو وكأنها حديثة الصناعة، ولم يتم التوصل إلى آثار ما زالت تحتفظ بألوانها الزاهية على الرغم من مرور أكثر من 1800 سنة عليها.
وتبلغ مساحة الأرض التي تغطيها اللوحة الفسيفسائية المكتشفة في غزة حوالى 500 متر مربع، ومحفور عليها 17 رسماً لحيوانات وطيور، وتعود إلى عام 200 للميلاد، أي قبل أكثر من 1800 سنة، وبالتحديد إلى فترة العصر البيزنطي. وفقاً للبحوث التي أجرتها فرق التنقيب الفلسطينية والدولية.
معبد يدعو للسلام
يقول محمد خلة وكيل وزارة السياحة والآثار (تسيطر عليها حركة حماس) إن تخمين علماء الآثار أظهر أن المكان كان معبداً يعود للديانة المسيحية في العهد البيزنطي، وملحق به مرافق، ولدراسة المكان جرى نصب مجسات وأجهزة للمسح الأثري في الأماكن القريبة من المكان للتعرف إلى هذا الكشف وخباياه.
ويوضح خلة أن هناك رسومات لمجموعة من الطيور والحيوانات التي ما زالت تتواجد وتعيش في قطاع غزة، ما يعني أنهم كانوا يجسدون طبيعة الحياة آنذاك، لافتاً إلى أن العناصر الهندسية تدل على السلام الذي ينادي به الدين المسيحي، وكأن الفنان يحاول إيصال رسالة عبر الرسومات أنه كما الحيوانات تعيش بسلام في الطبيعة، فلا بد على الإنسان أن يعيش بسلام على هذه الأرض.
20 اكتشافاً جميعها مصادفة
كان اكتشاف الفسيفساء العظيمة محض مصادفة من مزراع، ولم يجر التوصل إليها من طريق عمليات تنقيب، ويبدو أن المصادفة هي الطريقة الوحيدة لاكتشاف الآثار في غزة، في ظل عدم إجراء جهات الاختصاص أي عمليات تنقيب، إذ قادت هذا العام لاكتشاف نحو 20 موقعاً أثرياً في مناطق مختلفة من القطاع، كان من أبرزها رأس الآلهة عنات (إلهة الحب والجمال والحرب، بحسب الميثولوجيا والعقيدة الكنعانية) التي تعود إلى 2500 سنة قبل الميلاد، واكتشاف 100 قبر روماني تعود إلى القرن الأول الميلادي، فضلاً عن اكتشاف قطع نقدية تعود للعهد البرونزي أي إلى 3300 قبل الميلاد.
وفق تقديرات عالم الآثار الفرنسي رينيه إلتر، فإن غزة الحديثة مشيدة فوق مدينة أثرية قديمة، وفي كل بقعة أرض هناك آثار تعود لحقب زمنية مختلفة، وأبرز الأزمنة التي جرى التوصل إليها العهد البرونزي والروماني والبيزنطي، مشيراً إلى أنه لاحظ أن أغلب الآثار تعود للعهد البيزنطي.
لا معدات ولا خبرات
يقول مدير عام الآثار في غزة جمال أبو ريدة “لا يوجد في القطاع أجهزة لتصوير وكشف طبقات الأرض، ولمعرفة أماكن الفراغات أو المعادن التي تقود لاكتشاف المدفون في باطنها، كما نفتقر إلى الحرفيين والخبراء لإجراء عمليات التنقيب، وعادة ما نستعين بفرق دولية لإجراء حفريات”.
ويضيف “نطلب من الفرق الدولية توفير مجسات وأجهزة للمسح الأثري، لكن إسرائيل تعرقل دائماً السماح بإدخال هذه المعدات إلى غزة، وتعتمد إضعاف عمليات التنقيب، لذلك نجد أن أغلب الاكتشافات تكون محض المصادفة”.
ويشير أبو ريدة إلى أن “الحصار المفروض على غزة، يجعل المدينة مغلقة وبعيدة عن العالم، ولهذا لا نستطيع إرسال وفود لتأخذ تدريبات ودورات حول اكتشاف الآثار، وعادة ما نعتمد في تطوير مهارات الخبرات المحلية على التجارب التي نعيشها مع الفرق الدولية التي تزور غزة، إذ نتعلم منهم ونطور قدراتنا”.
وبحسب المسؤول عن الآثار، فإن أعمال الفرق المحلية تقتصر على الترميم وحفظ الآثار وحمايتها، وتوثيق المقتنيات الأثرية، في السجل الوطني وقواعد بيانات “يونسكو”، وللحفاظ عليها جرى إعداد بطاقات إلكترونية، وشهادات ميلاد خاصة بجميع القطع الأثرية.
المصدر: اندبندنت عربية