الزهرة التي قلبت هولندا رأسًا على عقب: ماذا تعرفُ عن جنون التوليب؟
في قصتّنا اليوم، سنأخذكَ في رحلةٍ عبرَ قرنٍ يسبقُ يومنا هذا بأكثرِ من ٤٠٠ عام؛ ولكِن مهما اهتزّت سفينتُنا أو ارتطمت بالأمواجِ تذكّر دائمًا أن القصّة التي ستُروى لكَ بعد قليل مبنيّةٌ بشكلٍ كامل على أحداثٍ حقيقية وليست من نسجِ الخيال، بالرغمِ من أنها قد تبدو كذلك للوهلةِ الأولى. والآن، تمسّك جيدًا لأننا سنُبحر داخل القصّة مُباشرةً.
من أين جاءت زهرة التوليب؟
ظهرت زهرة التوليب لأول مرةٍ تحتَ سماءِ الدولة العثمانيّة؛ وبألوانِها المُتعددة والمُبهجة استطاعت التوليب أن تخطفَ الأنظار سريعًا. وإلى الآن، يؤمن الكثير أن لكلِّ لونٍ من ألوانِ زهرة التوليب معنى مُختلف، بدايةً من الأبيضِ البرّاقِ مرورًا بمُختلفِ ظِلال الأحمرِ ووصولًا للأرجوانيّ الذي يكادُ يصبح بنيًّا. ولكن دعنا الآن من معنى ألوان التوليب ولنصبّ تركيزنا على أصل كلمة ”توليب“ نفسها، لماذا أطلقَ عليها هذا الاسم؟
تتفقُ أغلب المصادر أن أصل هذه الكلمة فارسيّ، ويعود إلى كلمة ”دلبند“ أو ”تولبنت“ بالتركيّة والتي تعني تُربان أو عمامة الرأسِ، وبسبب وجه الشبه الواضح بين شكليهما، استقرّ الاسم على التوليب ليُصاحبَ الزهرة من بعدِها طوال رحلاتِها.
وفي أواخِر القرن السادس عشر، وتحديدًا عام ١٥٩٣ بدأ التُجار الهولنديين بجلبِ زهرةِ التوليب من الدولة العثمانيّة التي كانت تشتهرُ بزراعتِها بكثرةٍ آنذاك، وتُعتبر موطنَها الأول والأصليّ. ولكن أزهار التوليب لم تلبث في موطنِها لوقتٍ طويل، فسُرعان ما انتقلت من الأراضي العثمانيّة لتلقى حفاوةً واهتمامًا بالغين في أراضي هولندا، والتي سُرعان ما رحبّت بها واحتضنتها بين كفوفِها.
واليوم، إذا قادتك قدماك إلى ضواحي أمستردام، فلن تجدَ مشهدًا يُلاصقُ مخيّلتك مثل اصطفافِ أزهار التوليب وهي تتألقُ تحت أشعّة الشمس، ولكنها لا تكتفي بكونِ جمالِها آسرًا بل تمتلكُ تاريخًا أيضًا، تمامًا مثلُنا؛ نحنُ البشر.
زهرة التوليب: بين الجمالِ والجنون
وبعد فترةٍ ليست بالكبيرة، أصابَ الزهرة نوعٌ من الفيروسات غير الضارّة يُطلَق عليه اسم ”Mosaic“ فإذ به يُزيدُها جمالًا وغرابةً، ويُزيدُ القصّة أحداثًا تُتلى. فأصبحت أزهارُ التوليب تمتلكُ خطوطًا مُلونّة تزينها وكأنها ألسنةً من لهبٍ مُشتعل. ولكن على قدرِ جمالِها، على قدرِ ما تسببت في أزمةٍ اقتصاديّة ضخمة لم تكن في الحُسبان.
فبعد أن زُرِعت بُصيلات التوليب، لُوحِظَ أن لونَ أزهارها بدأ بالتغيّر، وهُنا بدأ السباقُ بين الهولنديين لامتلاكِ هذه الزهرة التي كانت بالنسبة إليهم لا تزالُ غريبةً وغامضة. وفي رأي آن جولدجار؛ الباحثة في تاريخ أوروبا الحديث عامةً والأرشيف الهولنديّ خاصةً أنّ الناس أحبوا فكرة أنّ هُناك شيءٌ ما في تغيرٍ مستمر، وأنّ هذه الزهرة كانت الخيار الأمثل لكارِهي الروتين.
وتُكمل آن كلامها قائلةً: ”الناس الذين كانوا يشترون اللوحات بملايين الدولارات هم نفسهم الذين رفعوا من سعرِ هذه الزهرة حتى وصلَ عنانَ السماء“ حتى أنّ الأمراء والأرستقراطيين كانوا يتفاخرون بامتلاكِهم التوليب كما يتفاخرون بامتلاكِهم التحف الفنيّة، ومن هُنا بدأ عامة الناسِ أيضًا في التهافتِ على شراءِ التوليب، فقط لارتباطِ اسمها بعليةِ القومِ.
وأصبح الإقبالُ على أزهار التوليب ضخمًا في الفترة ما بين عامَيْ 1633 و 1637؛ وفي عام 1636 وصل سعر بُصيلة شهيرة باسمِ ”سمبر أوغسطن“ إلى ٦ آلاف فلورين، وهي العُملة المُستخدَمة آنذاك، وقد كان يُعتبر هذا المبلغ كافيًا لإطعامِ وإكساء أسرةٍ هولنديّة على مدارِ عقود أو لشراءِ قصرٍ يطلّ على بُحيرةٍ في وسطِ العاصمة أمستردام.
وبدأ مُصطلح ”جنون التوليب“ أو ”Tulip Mania“ في الانتشار، حيثُ أصاب الهولنديين هوسٌ بهذه الزهرة، فأصبحوا يبيعونها بأضعافِ قيمتِها الحقيقية. وقد ساعدَ ذاك الازدهار الاقتصاديّ لأزهارِ التوليب العديد من الهولنديين حينَها على تحقيق الثروةِ والرخاءِ المرجُوّيْن، ولكن بعد أن وصلت الأسعار ذروتها صُدِمَ الجميع عندما طاحَ سعرُها أرضًا فجأة، لتتركَ من بعدِها الشعب الهولنديّ في حالةِ وجومٍ تام.
ورغم أن المؤرخين ليسوا متأكدين مما إذا كان هُناك أي حالات إفلاسٍ جادّة، إلا أنهم على يقين أن هذا الصعودِ والهبوط في سعر زهرة التوليب قد أدّى إلى ما يُعرَف بـ ”الفقاعة الاقتصادية“ وأنّ جنون التوليب يُعتبر أولها. ولكن ما الذي يعنوه بهذا المُصطلح؟
فُقاعةٌ اقتصاديّة أم أساطيرٌ وهميّة؟
”الفقاعة الاقتصادية“ هو مُصطلحٌ يصفُ ظاهرةً تحدثُ عندما تتسببُ سلعةً ما في توسعٍ كبيرٍ في السوق (سواءً المحلي أو العالميّ) ويليه انكماشٌ حادّ؛ حيثُ يبلُغُ سعر هذه السِلعة أرقامًا خياليّة (يُشبهوه بانتفاخِ البالون) ثم يحدث هبوط حادّ ومُفاجئ في سعرِه؛ وهُنا ينفجرُ هذا البالون. فعندما يُصبح عدد البائعين أكثر من عدد المُشترين، حينَها فقط يهبط سوقَ السلعة تمامًا كما حدث مع زهرةِ التوليب حيث هبط سعرُها من الذروةِ إلى الحضيض فجأةً وبلا أي سابق إنذار؛ ليتركَ من بعدِه التُجار على مشارفِ الإفلاس.
والآن، يُمكننا أن نعودَ أدراجِنا إلى كلماتِ أحلام مستغانمي حين قالت أنّ الأشياءَ عندما تصلُ ذروتها تكون في أقربِ نقطةٍ للزوال ونؤكدّ لها أنها كانت على حقّ. ويعتقد المؤرخون أنّ جنون التوليب كان أول فُقاعة اقتصاديّة على مرّ التاريخ فيمَ يعتقدُ آخرون أن الأمرَ لم يكن بهذا الهولِ وأنّ الخيال قد لعبَ دورُه بحرفيّة.
وكانت الباحثة والأكاديمية آن جولدجار من أوائل الأشخاص الذين تبنوّا هذا الاعتقاد، حيث ألفّت كتابًا بعُنوان ”Tulip Mania“ تقول فيه إن الأمرَ لم يكن بهذه المُبالغة التي تُصورّها لنا الرواياتِ والأفلام وأنه كان أقلّ دراماتيكية.
ولكن مهما اختلفت الأقاويل عن تاريخ أزهارِ التوليب، ستظل تأسرنا بجمالِها الاستثنائي في كل مرةٍ نلمحها من بعيد. وإلى يومِنا هذا؛ يتوافدُ الآلافُ على ميدان ”دام“ في يناير/ كانون الثاني من كل عام ليحتفلوا بـ ”اليوم الوطنيّ للتوليب“ حيثُ توزّع حوالي مئتيْ ألفَ زهرةَ توليب ويستمتع المواطنون بالطبيعة الخلابّة من حولِهم، وهم يتقاسمون الهواءَ مع زهرةِ توليب بيضاء تتخللها بضعة أشرطةٍ حمراء؛ ويبتسمون.
أراجيك