قدّم علماء المسلمين للحضارة الإنسانية علومًا ومعارف عظيمة، إذ برعوا في كافة العلوم وأثروا المناخ العلمي العالمي بأجواء الإبداع والتميُّز، وكانت إسهاماتهم وإنجازاتهم حاضرة وبقوة طيلة الـ 1400 عام المنقضية، فشهد بها القاصي والداني بعدما أحدثت طفرة كبيرة في مسيرة تطور البشرية.
وعكس ما كان يركّز عليه المؤرّخون غير المنصفين، فلم يقتصر المسلمون على العلوم الشرعية دون غيرها، حيث لم يتركوا مجالًا فيه خدمة للإنسانية إلّا واشتغلوا به، فجمعوا بين العلوم شتى، لذا نرى العالم المسلم الفقيه في العلوم الشرعية نابغة في مجالات علمية أخرى، كالطب والهندسة والرياضيات والآداب وغيرها.
وفي مشهد متناقض إلى حد ما، تزخر سجلّات التاريخ بعشرات العلماء المسلمين ممّن سُلطت الأضواء عليهم لما قدموه من خدمات جليلة، لكن في المقابل هناك أضعاف هذا الرقم غابت عنهم تلك الأضواء وظلمهم المؤرّخون، رغم إسهاماتهم الحاضرة حتى اليوم، والتي يشهد بها الغرب تحديدًا، إذ إن مؤلفاتهم لا تزال المرجعية الأولى لكثير من علماء أوروبا، ممّن يُشار إليهم بالبَنَان ويحتلون أمكنة مرموقة في منظومة العلوم على مرّ التاريخ.
وانطلاقًا من تلك الرؤية، وإيمانًا بالدور الذي قدّمه هؤلاء للبشرية من عصارة أفكارهم وخبرات أعمارهم، وردًّا للجميل الذي قدموه للإنسانية، يواصل “نون بوست” تسليط الضوء على بعض تلك الرموز من خلال ملف “أعمدة منسية”، لإنارة الطريق أمام الأجيال القادمة لمعرفة أجدادهم وإسهاماتهم في إثراء الحضارة البشرية، ليكونوا لهم مفخرة أمام دعاة الحضارة الجديدة.
وبطل هذا التقرير، أحد أعلام الرياضيات وعلوم الحساب في العالم، وضلع رئيسي من أضلاع هذا العلم، وأبرز المساهمين في تطوره خلال القرن العاشر الميلادي، ابن خراسان، وفارس بغداد، أبو الوفاء البوزجاني، العالم والمخترع الذي يحمل سجلًّا حافلًا في الفلك والرياضيات والرسم، ولا تزال مؤلفاته تزيّن مكتبات العالم رغم مرور أكثر من ألف عام على تأليفها.. فماذا نعرف عن هذا العالم؟
من خراسان إلى بغداد
أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل، المولود في قرية بوزجان بخراسان في إيران عام 940، شابّ صغير ترعرع في كنف مجتمع محافظ بشدة، إذ كانت نشأته كغيره من أقران عصره، نشأة دينية خالصة، حيث حفظ القرآن ودرس علوم الحديث والفقه، وهي العلوم التي كانت إجبارية على أبناء خراسان في ذلك الوقت.
- أتمَّ الـ 20 حتى قرر الانتقال من مرحلة الهواية إلى الاحتراف والدراسة الممنهَجة، فكانت القبلة إلى بغداد.
لكن الطفل الصغير قد وُهب ما لم يُوهب لغيره، إذ كان عمه أبو عمر المغازلي وخاله أبو عبد الله بن عنبه، من أشهر المهتمين بعلوم الرياضيات والهندسة في إيران بأكملها، فاستغلَّ الفرصة ولم يفوّتها، وبعد أن أنهى دراسته الشرعية توجّه إليهما للنهل من بئر علومهما في المجالات الحسابية والتطبيقية.
وما إن أتمَّ الـ 20 حتى قرر الانتقال من مرحلة الهواية إلى الاحتراف والدراسة الممنهَجة، فكانت القبلة إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، منبر العلوم في ذلك الوقت، ومقصد العلماء، وموطن المهمومين بالعلم والشغوفين بدراسته، وبدأ في النهل على أيدي كبار علمائها وفطاحلها في الرياضيات والفلك والرسم.
الرياضيات وحساب المثلّثات
يُحسب للبوزجاني أنه أول مَن وضع النسبة المثلثية، وأثرى علوم الرياضيات وحساب المثلثات بصورة وثّقها فحول هذا العلم من خلال شهادتهم بحقّ هذا الرجل، فله في هذا المجال كتابان هم الأشهر تاريخيًّا، والأثرى موضوعيًّا، لما يتضمّناه من معلومات وإنجازات واكتشافات لم يتوصل إليها أحد قبله.
الكتاب الأول عنوَنه بـ”ما يحتاج إليه العمال والكتّاب من صناعة الحساب”، ويعدّ أحد كنوز الحساب في التاريخ، إذ تضمّنت منازله السبعة أمّهات هذا العلم، في النسبة، في الضرب والقسمة، في أعمال المساحات، في أعمال الخراج، في أعمال المقاسات، في الصروف، وأخيرًا في معاملات التجار، وظل هذا المؤلف المرتكز الأساسي لمعاملات الماليين في المراحل التاريخية اللاحقة.
الكتاب الثاني كان تحت عنوان “ما يحتاج إليه الصناع من أعمال الهندسة”، وكان ذلك بتكليف من السلطان البويهي بهاء الدولة، من أجل أن تعمَّ الاستفادة لدى أرباب الصناعة في الدولة الإسلامية وقتها، فسهّل لهم المسائل المعقدة، وقدم شروحات وافية لمؤلفات إقليدس وديوفنطس والخوارزمي.
إسهاماته في علوم الهندسة والرسم
لم تقلّ إسهامات البوزجاني في الهندسة عن نظيرتها في حساب المثلثات، ولعلّ كتابه “كتاب في عمل المسطرة والبركار والكونيا” أحد أمّهات الكتب في هذا العلم، إذ تضمّن هذا المؤلف، الذي ترجمه الغرب، العديدَ من الإسهامات الهندسية، أبرزها اختراع العديد من الطُّرق حول كيفية الرسم واستعمال الآلات اللازمة لذلك، ممّا يحتاجه الصانع من أعمال الهندسة، كذلك طُرق حديثة لإنشاء الأجسام المنتظمة كثيرة السطوح حول الكرة، حيث استعملَ طُرقًا مختلفة لحلّ عملية واحدة.
وأجمع كبار العلماء في الغرب أن هذا الكتاب المقسّم إلى 13 بابًا (في عمل المسطرة والبركار، في عمل الأشكال في الدوائر، في عمل الدائرة على الأشكال، في عمل الأشكال بعضها في بعض، في الأصول والكونيا، في عمل الأشكال المتساوية، في قسمة المثلثات، في قسمة المربعات، في عمل مربعات من مربعات وعكسها، في قسمة الأشكال المختلفة الأضلاع، في الدوائر المتماسّة، في قسمة الأشكال على الكرة، وفي عمل الدائرة في الأشكال)، ساهمَ بشكل كبير في الدفع بأصول الرسم خطوات هامة للأمام.
كما وضع العالم الخراساني عصارة فكره وعلمه وخبراته في إرساء قواعد علم الهندسة التحليلية، وذلك بوضعه حلول هندسية للكثير من المعادلات الجبرية العالية التي أرّقَت الكثير من العلماء الذين فشلوا في التوصل إلى حلّها، ما جعله مثلًا أعلى لكثير من الباحثين والمهتمين بعلوم الهندسة وفنون الرسم بشكل عام.
الفلك وحركات الكواكب
ثم يأتي الفلك بمثابة الضلع الثالث من مثلث الإنجازات البوزجانية، حيث وضع أبو الوفاء الأُسُس الأولى لعلم حركة الكواكب، ولعلّ كتابه “الكامل” واحد من الدرر الكامنة في هذا المجال، بشهادة الجميع، ما جعله على رأس الأعلام في علم الفلك على مدار التاريخ.
وشمل هذا الكتاب 3 مقالات رئيسية، الأولى تتطرق إلى الأمور التي ينبغي أن تعلَّم قبل حركات الكواكب، والثانية مختصّة في حركات الكواكب ذاتها، أما المقالة الثالثة فتضمّنت العديد من المسائل الخاصة بحركات الكواكب وما بعدها والمعادلات الناجمة عنها.
- يعدّ البوزجاني أول من أثبت القانون العام للجيوب في المثلثات الكروية، كما يُحسب له وضع معادلات جيب زاويتَين.
إلى جانب هذا المؤلف، هناك العديد من الكتب الأخرى التي أسهمت في تطوير علم الفلك، منها كتاب “الزيج الشامل”، كتاب “فيما ينبغي أن يحفظ”، كتاب “المدخل إلى الأرثماطيقي”، كتاب “معرفة الدائرة من الفلك”، كتاب “استخراج الأوتار”، كتاب “المجسطي” الذي يتواجد منه نسخة واحدة اليوم في مكتبة باريس الوطنية، “تفسير كتاب ديوفنطس في الجبر”، “تفسير كتاب الخوارزمي في الجبر والمقابلة”، كتاب “الهندسة”، كتاب “رسالة في الهيئة”، كتاب “حساب اليد”، كما قدّم مجموعة رسائل أخرى كثيرة، منها رسالة العمل بالجدول الستيني، استخراج الأوتار، استخراج ضلع المربع.
ومن أبرز الإسهامات التي قدمها البوزجاني في تلك العلوم الثلاثية (الرياضيات والهندسة والفلك) بصفة عامة، اكتشافه الخلل في حركة القمر، ما أدّى إلى اتّساع نطاق علمَي الفلك والميكانيكا، والإضافات التي أحدثها على علم الجبر تُعتبر أساسًا لعلاقة الجبر بالهندسة، كما أنه أول من وضع النسبة المثلثية (ظلّ)، وهو أول من استعملها في حلول المسائل الرياضية، وأدخل القاطع وقاطع التمام.
كما يعدّ أول من أثبت القانون العام للجيوب في المثلثات الكروية، ويحسب له وضع معادلات جيب زاويتَين، وكشفَ بعض العلاقات بين الجيب والمماس والقاطع ونظائرها، ومن أوائل العلماء الذين وضعوا الجداول الرياضية للمماس، واكتشفوا صيغة الجيب (جا) للهندسة الكروية، كما ساهم في تطوير جهاز لحساب درجة ميل الأجرام الفلكية.
وتقديرًا للخدمات التي قدّمها البوزجاني لتلك العلوم، أشاد به العديد من العلماء الغربيين، منهم المؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، الذي قال: “إن آلات الرصد التي استعملها أبو الوفاء كانت على جانب عظيم من الدقة والإتقان”، فيما قال عنه المستشرق البارون كرّا دي فو إن “الخدمات التي قدمها أبو الوفاء لعلم المثلثات لا يمكن أن يجادَل فيها، فبفضله أصبح هذا العلم أكثر بساطة ووضوحًا، فقد استعمل القاطع وقاطع التمام، وأوجد طريقة جديدة لحساب الجيب، كما أنه أول من أثبت القانون العام للجيوب في المثلثات الكروية، أما في الهندسة فقد كان أبو الوفاء عالمًا عبقريًّا، حيث عالج عددًا من المسائل بخبرة كبيرة”، أما المؤرخ البلجيكي الشهير جورج ألفرد ليون سارتون، والذي يعتبر مؤسس علم تاريخ العلوم، فقد وصفت البوزجاني بأنه من أعظم الرياضيين في الإسلام.
واستطاع العالم المسلم خلال فترة إقامته في بغداد الممتدة لأكثر من 35 عامًا، أن يقدم أوراق اعتماده لدى سجلّات علوم الحضارة الإنسانية كواحد من العلماء الثقات صاحب المكانة العلمية الرصينة، وظلَّ في عاصمة الدولة العباسية حتى وفاته عام 998، بعدما ترك لطلابه وباحثيه مكتبة ثرية من المؤلفات العظائم والإسهامات الخالدة، التي يفتخر بها الجميع حتى يومنا هذا.
ويعدّ العالم الخراساني البغدادي واحدًا من أبرز من تعرّضوا للظلم في التاريخ الإسلامي، البداية كانت مع تجاهل إنجازاته وغياب الأضواء عنه، ثم عرج بتسطيح جهوده والتقليل منها، إلى أن وصل لتعرض إسهاماته للسرقة من قبل بعض علماء الغرب، في وقت لم يبذل فيه علماء العرب والمسلمين جهد الدفاع عن ابن جلدتهم ودينهم، لتبقى مؤلفاته الشاهد الأبرز والأكثر حضورًا وتخليدًا لمسيرة عالم قدّم للإنسانية الكثير والكثير.
المصدر: نون بوست