تعرف على خدمة توصيل البريد بواسطة الصواريخ، والتي كان بامكانها إيصال الرسائل والطرود لمسافة 1000 كلم في عشرين دقيقة
يرتبط تاريخ النظام البريدي ارتباطاً وثيقاً بتاريخ النقل، حيث لم تسمح التطورات في تكنولوجيا النقل للناس بالسفر واستكشاف المزيد من الأراضي فحسب، بل سمحت أيضاً للنظام البريدي بتوسيع نفوذه إلى مساحاتٍ أكبر.
اختصرت الاختراعات والاكتشافات الجديدة وقت السفر، وبدأت الرسائل تصل إلى أماكن بعيدة في وقت أقل، وأصبح النظام البريدي أكثر كفاءة، وعندما تم تسليم أول بريدٍ جوي عبر المحيط الهادئ كانت الخدمات البريدية قد استخدمت كل وسائل النقل المتاحة للإنسان بما في ذلك الصواريخ.
إن أول نوعٍ من البريد الصاروخي هو غالباً ما قمت بمشاهدته في الأفلام التاريخية، حيث يتم لف المخطوطات حول عصا السهم وإطلاق السهم في الهواء إلى قلعة ما أو إلى أرض العدو.
تم تصنيع نسخةٍ أحدث من هذه الفكرة وقُدمت إلى الجمهور من قبل الشاعر والكاتب المسرحي الألماني (هاينريش فون كلايست) عن طريق مقالٍ صحفي في عام 1810.
كانت الصواريخ في ذلك الوقت لا تزال في بدايتها وزُودت الصواريخ الأولى من ذاك العصر بطاقة البارود، وكانت تستخدم في المقام الأول كمدفعية في ساحات القتال. أما (كلايست) فقد قام بحساب الزمن الذي يستغرقه الصاروخ، فيستغرق صاروخٌ محمّل برسالة من مدينة (برلين) الألمانية إلى مدينة (بريسلاو) البولندية قاطعاً مسافة 290 كيلومترا نصفَ يومٍ، أي عُشر الوقت المطلوب بوساطة الحصان.
وُضعت نظرية (كلايست) موضع التنفيذ في جزيرة (تونجا) الصغيرة في (بولينيزيا) [بولونيزيا هي مجموعة كبيرة لأكثر من 1000 جزيرة مبعثرة في المحيط الهادي] من قبل المخترع البريطاني السير (وليام كونغريف) وباستخدام الصواريخ التي صممها. ولكن كانت الصواريخ غير مضمونة لدرجة كبيرة، حيث أن فكرة استخدامها في تسليم البريد رُفضت تماماً، ولم يتم أخذها على محمل الجد إلا بعد قرن تقريباً، عندما قام الفيزيائي الألماني وأحد الآباء المؤسسين لعلم الصواريخ (هيرمان يوليوس أوبيرث) بإعادة النظر في الموضوع عام 1927.
ألقى البروفيسور (أوبيرث) محاضرة مقنعة بمناسبة الاجتماع السنوي للجمعية العلمية للملاحة الجوية في (دانزيغ) عام 1928، حيث اقترح تطوير صواريخٍ صغيرة بتوجيهٍ تلقائي ويمكنها حمل البريد العاجل على مسافات من 1000 إلى 2000 كيلومتر، وأثارت محاضرته اهتماماً كبيراً في جميع أنحاء العالم لدجة أن السفير الأمريكي في ألمانيا علم بها، ولكن أول من أحدث تطويراً في هذا المجال هو المهندس النمساوي الشاب (فريدريش شميدل).
عاش (شميدل) في جبال الألب النمساوية، مما جعله مدركاً تماماً لصعوبة توصيل البريد بين القرى الجبلية، فثماني ساعاتٍ من المشي بين قريتين، يعادل ثلاثة كيلومترات بوساطة الصاروخ.
جرب (شميدل) صواريخ الوقود الصلب، وفي عام 1928، أجرى تجارباً على مناطيد الستراتوسفير، وبعد عدة محاولات فاشلة؛ أطلق (شميدل) أول بريد صاروخي في عام 1930 وسلم 102 رسالة إلى مكان يبعد خمسة كيلومترات. تم التحكم في الصاروخ عن بعد وهبط باستخدام مظلة، بينما قام صاروخه الثاني بتسليم 333 رسالة.
ألهمت فكرة البريد الصاروخي التي أوجدها (شميدل) العديد من البلدان الأخرى، مثل ألمانيا وإنجلترا وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية والهند وأستراليا، لإجراء تجارب مماثلة ولكن بدرجاتٍ متفاوتة من النجاح.
في عام 1934، وفي محاولة من قبل رجل الأعمال الألماني (غيرارد زوكر) لإظهار مدى فاعلية نظامه البريدي الصاروخي للبريطانيين، قام (زوكر) بتزويد صاروخ بـ4800 رسالة وأطلقها من جزيرة في اسكتلندا، وشاهد المسؤولون الحكوميون الصاروخ يرتفع في السماء وينفجر مبعثراً البريد ومحرقاً قسماً كبيراً منه.
بعد فكرته الفاشلة، تم ترحيل (زوكر) إلى ألمانيا حيث تم اعتقاله على الفور للاشتباه في قيامه بالتجسس أو التعاون مع بريطانيا.
كانت التجارب على البريد الصاروخي ناجحة إلى حد كبيرٍ في الهند، حيث قام المهندس الرائد في مجال الطيران (ستيفن سميث) بتحسين تقنيات توصيل البريد بواسطة الصواريخ بين عامي 1934 و1944، وأجرى المهندس 270 عملية إطلاق حيث احتوت 80 منها على رسائل البريد على أقل تقدير.
دخل (سميث) التاريخ عندما استعان بالصواريخ لإطلاق أول حزمة طعامٍ تحتوي على الأرز والحبوب والتوابل والسجائر محلية الصنع عبر النهر إلى منطقة زلزال مدمرة في (كويتا) باكستان الحالية. وبعدها قام (سميث) بربط ديك ودجاجة معاً بأحد صواريخه وأطلقه عبر نهر آخرٍ، نجا كل منهما من تلك الرحلة وتم التبرع بهما لحديقة حيوان خاصة في (كلكتا) بعد محنتهما التي مرا بها. أما تجربته التالية فاحتوى الصاروخ فيها على تفاحة وثعبان!
على الرغم من طبيعة (ستيفن سميث) الغريبة وخياراته المشكوك فيها، إلا أنه كان مدعوماً بشكل تامٍّ من قبل ملك (سيكيم)، [إقليم (سيكيم) هو محمية بريطانية في جبال الهيمالايا الشرقية، وكانت آخر الولايات التي تخلت عن النظام الملكي واندمجت بشكل كامل في الهند في عام 1975] حيث قام بمعظم تجاربه الصاروخية هناك.
لم تدخل الولايات المتحدة سباق البريد الصاروخي حتى عام 1959، عندما أطلق قسم البريد صاروخ (كروز) من طراز (ريجولوس)، حيث تمت إزالة رأسه النووي وتحويله إلى حاويتين للبريد، وتم إطلاق هذا الصاروخ باتجاه محطة بحرية في (مايبورت) في ولاية فلوريدا.
قام هذا الصاروخ والذي بلغ وزنه قرابة الـ6 أطنان بحمل 3000 رسالة، وبعد مرور 22 دقيقة وصل إلى هدفه في (مايبورت) على بعد 1200 كيلومتر، وتم استلام الرسائل وختمها وتعميمها كالمعتاد، وكانت جميع الرسائل عبارة عن نسخ من الأصلية، والتي كتبها مدير مكتب البريد بنفسه.
تلقى كل فردٍ من أفراد طاقم الغواصة التي أطلقت الصاروخ، والرئيس الأميركي (أيزنهاور) وغيره من القادة الامريكيين ومدراء مكاتب البريد من جميع أنحاء العالم، نسخةً من رسالة جاء فيها: ”ستتم الاستفادة من التقدم الكبير الذي يتم إحرازه في مجال الصواريخ الموجهة بكل طريقةٍ ممكنة للقيام بعملية تسليم البريد في الولايات المتحدة. ويمكنك التأكد من مواصلة إدارة البريد لتعاونها مع وزارة الدفاع لتحقيق هذا الهدف“.
دفعت عملية تسليم الرسائل الناجحة شركة Post Master Summerfield إلى تقديم الإعلان عن التالي: ”قبل وصول الإنسان إلى القمر، سيتم تسليم البريد في غضون ساعات من نيويورك إلى كاليفورنيا، إلى بريطانيا أو الهند أو أستراليا بواسطة الصواريخ الموجهة“.
لسوء الحظ أن هذا الأمر لم يحدث ذلك مطلقاً بسبب التكلفة المرتفعة جداً للبريد الصاروخي، حيث كلفت تجربة الولايات المتحدة الصغيرة على الصاروخ الموجه ما يقارب مليون دولار، لكنها لم تربح سوى 240 دولار من الإيرادات عن طريق بيع الطوابع البريدية.
ولا يمكن لمكتب البريد ولا وزارة الدفاع أن يبررا تكلفة استخدام البريد الصاروخي، خاصة عندما تقوم الطائرات بالفعل بتسليم البريد عبر العالم في ليلة واحدة وبثمنٍ بخس.
كانت تلك نهاية البرنامج الصاروخي، ولم يتم القيام بمزيد من المحاولات لتسليم البريد الصاروخي منذ ذلك الحين.
المصدر: موقع amusingplanet