سبتة.. ملتقى القارتين وفاتنة البحر الأبيض التي تجذب أساطيل الغزاة
ســـلامٌ علـــى سبتـــة الـمَغــربِ
أُخَــيّــــةِ مكـــةَ أو يَـــثــرِبِ
هكذا تحدث الأديب أبو الحكم مالك بن المرحل في مطلع قصيدة مشهورة عن مدينة سبتة[1] أو “سوتا” (Ceuta) بالإسبانية، والتي انطلق منها الزحف الإسلامي أواخر القرن الأول للهجرة نحو شبه الجزيرة الإيبيرية، وإليها هاجر جزء من مطرودي حرب الاسترداد المسيحية من الضفة الأوروبية منتصف القرن الـ13 للميلاد، وأقاموا قواعد القرصنة البحرية المعروفة بـ”الجهاد البحري”، فكانت شكلا من أشكال المقاومة ضد سياسة الإبادة والاستحواذ والطرد التي نهجها المسيحيون ضد مسلمي ويهود الأندلس.
احتُلت هذه المدينة قبل أكثر من خمسة قرون من طرف البرتغاليين، ثم “باعوها” للإسبان عبر صفقة ثنائية، وهو ما حال دون استرجاعها من طرف المغرب بعد خروج الاحتلال الفرنسي-الإسباني، لكونها بحسب الأوروبيين من “الممتلكات” الإسبانية التي سبقت فرض الحماية الفرنسية-الإسبانية على المغرب.
يعتبر المؤرخ المغربي محمد بن عزوز حكيم، أن “قضية سبتة ومليلية هي من مخلفات المواجهة بين العالم الإسلامي وأوروبا الصليبية، فهما أقدم المستعمرات في العالم. وقد كانت أوروبا تريد احتلال المغرب برمته بروح صليبية مندفعة، في سياق رد الفعل على الوجود الإسلامي الطويل في الأندلس، ذلك أنه قبل سقوط مدينة غرناطة، آخر الممالك الإسلامية، قام البرتغاليون باحتلال مدينة سبتة”.[2]
جارة سبتة التي كادت تشعل فتيل الحرب
تنص “معاهدة شينغن” -الخاصة بالإدارة المشتركة للحدود بين الدول الأوروبية- صراحة على أن مدينة سبتة جزء من “الحدود الجنوبية لأوروبا”، كما أن منظمة الأمم المتحدة لا تدرج المدينة ضمن المناطق التي لم تقرر مصيرها بعد، كما كان الحال مع جل المستعمرات الأوروبية.[3]
وتعتبر مدينة سبتة المغربية المحتلة جزءا من المجال الترابي المشمول بحماية الاتحاد الأوروبي لأعضائه، كما أكدت ذلك أزمة جزيرة ليلى القريبة من سبتة صيف العام 2002، حين كادت الحرب تنشب بين المغرب وإسبانيا، ووقف الاتحاد الأوروبي رسميا ضد المغرب.
ورغم أن حلف شمال الأطلسي اعتبر خلال تلك الأزمة أن الجزيرة المجاورة لسبتة لا تدخل ضمن مجال اختصاصه، فقد عاد حينها بعد تصاعد التوتر ليندد بالتحركات المغربية، ويقف في صف الاحتلال الإسباني.[4]
ورغم مقولة الحيازة -السابقة لفترة الاستعمار الأوروبي للمغرب- التي يبرر بها الأوروبيون استمرار الاحتلال الإسباني لمدينتي سبتة ومليلية والجزر القريبة منهما، فإن هذه الحجة سقطت في 20 ديسمبر/كانون الأول 1999، عندما انسحبت البرتغال من جزيرة ماكاو بعد قرابة أربعة قرون ونصف قرن من الاحتلال، فعادت المستعمرة الآسيوية إلى السيادة الصينية.[5]
يواصل المغرب رفع مطالبه العلنية باسترجاع مدينة سبتة من يد الاحتلال الإسباني، إلى جانب مدينة مليلية وبعض الجزر المتوسطية، لكن مدريد تتجاهل هذه المطالب، وتصرّ على استثناء المدينتين من مسار تصفية الاستعمار.
فرغم مطالبات المغرب المتكررة في عهد الملك الحسن الثاني باسترجاع سبتة ومليلية في إطار تفاوضي، فقد واصلت إسبانيا فرض الأمر الواقع الذي توج عام 1995 بمنح المدينة حكما ذاتيا بوصفها إقليما مستقلا تحت السيادة الإسبانية.[6]
وكان إقدام المغرب على إرسال بضعة عناصر عسكرية إلى جزيرة غير مأهولة قرب مدينة سبتة المحتلة صيف العام 2002، أمرا مفاجئا دفع مدريد إلى القيام باستعراض مثير للقوة، فقامت بإنزال قواتها في الجزيرة واقتياد العناصر العسكرية المغربية مقيّدة تحت الأسر، مما فجّر أزمة إقليمية غير مسبوقة كادت تتحول إلى حرب بين ضفتي المتوسط.[7]
“عروس المجلى وثنية الصباح الأجلى”.. حضارات الأمم الغابرة
تبلغ مساحة سبتة حوالي 19 كيلومترا مربعا، وتبعد عن أقرب نقطة في الساحل الجنوبي لإسبانيا 26 كيلومترا. ويبلغ عدد سكان سبتة حوالي 83 ألف نسمة وفقا لإحصائيات التعداد السكاني الذي أجري عام 2011، ويتألف سكانها من مسلمين ومسيحيين، مع وجود أقلية يهودية وهندوسية.[8]
تقول مصادر تاريخية إنها بنيت مكان مستعمرة فينيقية عرفت قديما باسم إبيلا، وكان ينظر إليها أسطوريا على أنها أحد أعمدة هرقل، وقد وقعت المدينة تحت سيطرة القرطاجيين في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم ضمتها الإمبراطورية الرومانية في عهد كاليغولا سنة 40 قبل الميلاد.
وفي عام 429 ميلادية، سقطت المدينة تحت هيمنة قبائل الوندال. وبعد قرن ونيف عادت إلى نفوذ الإمبراطورية الرومانية الشرقية، قبل أن تسقط مرة أخرى فريسة لهجوم القوط.[9]
وقد تعرض العلامة والفيلسوف الأندلسي لسان الدين بن الخطيب لعوامل قوة مدينة سبتة في «مقامة وصف البلدان» فقال[10]: تلك عروس المجلى وثنية الصباح الأجلى، تبرجت تبرج العقلية ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقلية، واختص ميزان حسناتها بالأعمال الثقيلة، وهي خزانة كتب العلوم والآثار المنبئة عن أصالة الحلوم. ثم يعود ابن الخطيب ليشير إلى نقاط ضعف المدينة قائلا إنها: فاغرة الأفواه الجنوب للغيث المصبوب، عرضة للرياح ذات الهبوب، عديمة الحرث فقيرة من الحبوب، ثغر تنبو فيه المضاجع بالجنوب.
أما عن نمط عيش أهل مدينة سبتة في العصر الأندلسي، فيصفه ابن الخطيب بالقول: أحوال أهلها رقيقة، وتكلفهم ظاهر مهما ظهرت وليمة أو عقيقة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة، وأنساب نفقاتهم في تقدير الرزاق عريقة، ولا يفضلون على مدينتهم مدينة، الشك عندي في مكة والمدينة.
اختلفت الروايات حول أصل اسم سبتة، فمنها من يقول إنها مشتقة من الكلمة اللاتينية “سبتم” (Septem)، التي تعني سبعة وتشير إلى الجبال السبعة المحيطة بالمدينة، ومنها من يذهب إلى أن اسم المدينة يعود إلى ما يسمونه سبت بن سام بن نوح عليه السلام، بينما يسود الاعتقاد في الأوساط العلمية أن اسم المدينة يرتبط بفترة الوجود الروماني بها، ولا يمكن الحسم بصحة أي من هذه الروايات.[11]
يوليان.. حلف الحاكم الغاضب مع الجيش الإسلامي
حافظت المدينة دائما على شكل من الاستقلال الذاتي، ورغم الروايات التي تتحدث عن إسلام حاكم المدينة يوليان، لحظةَ عبور جيش طارق بن زياد نحو الأندلس، فإن عصرها الإسلامي الرسمي بدأ مع تأسيس الدولة الأموية في الأندلس، حين دانت لحكم عبد الرحمن الناصر سنة 931 ميلادية.
فبعدما تمكن موسى بن نصير نهاية القرن الهجري الأول (بداية القرن الميلادي الثامن) من إخضاع جميع القبائل والمناطق التي كان إلحاقها بالدولة الإسلامية متذبذبا بعد الفتح الإسلامي الأول الذي قاده عقبة بن نافع؛ بقيت إحدى مدن المغرب عصية على الفتح الإسلامي، وهي مدينة سبتة، وكان حاكمها يسمى يوليان، ويتمتع بحلف قوي مع ملك الأندلس غيطشة، وكان يزوده بالمدد عبر البحر.
حين مات غيطشة وخلفه في ملك الأندلس الملك لذريق، تقول بعض الروايات إنه قام باغتصاب ابنة يوليان التي كان قد أرسلها إلى القصر لتتعلم وتتأدب بأدب الملوك، فأقسم يوليان على أن يزيل ملك لذريق، فلم يجد غير التحالف مع المسلمين سبيلا.[12]
في هذا السياق، كان يوليان حاكم مدينة سبتة يحث موسى بن نصير على عبور البحر لغزو الأندلس، مقدما له إغراءات كبيرة بما سيجده من غنائم، ومقدما خدماته بوصفه دليلا يعرف شبه الجزيرة الإيبيرية جيدا.
وبحسّه العسكري (وبتوجيه من الخليفة الوليد بن عبد الملك في بعض الروايات)، احتاط موسى بن نصير في الأمر، وطلب اختبار أرض المعركة الموعودة من خلال شن غارات عبر مجموعات صغيرة من المقاتلين، حتى يستكشف المنطقة، ومن أجل ذلك جهز حملة صغيرة، ووجهها لعبور البحر المتوسط من أقرب نقطة إليها، أي من مدينة سبتة، وجعل على رأسهم قائدا أمازيغيا يدعى طريف بن مالك.
خطبة طارق بن زياد.. سفن مُحرّقة ومصير مرهون بالسيوف
قدم يوليان أربع سفن لنقل الجنود المسلمين، فعبروا البحر ونزلوا بجزيرة تحمل اسم طريف إلى اليوم، نسبة إلى القائد الأمازيغي، وكان ذلك في شهر رمضان 91 ه، الموافق لشهر يوليو 710 م. وقد عبر هذا الجيش من سبتة ونزل في جزيرة بالوما، وهي التي سُميت فيما بعد باسم جزيرة طريف، وكانت الغاية من هذه الحملة هي استطلاع وتتبع أخبار العدو ومعرفة طبيعة البلاد والتعرُّف على مواقعها، فعادت هذه الحملة وهي تحمل أخبار مفرحة ومشجعة لعملية فتح الأندلس.[13]
يسمح عنصر يوليان بتفسير قصة إحراق السفن التي تمثل ذروة سنام القصص التاريخية لعملية فتح الأندلس، فبعد تسهيله الحملة الإسلامية الأولى على الأندلس، بعث يوليان إلى طارق بن زياد يعده بتسهيل نقل جيشه، وتقول بعض الروايات إنه قدم إحدى بناته على سبيل الضمان، فاستبقاها طارق رهينة، فراح يوليان يبعث سفنه إلى ضفة سبتة، لتحمل جنود طارق بن زياد على دفعات نحو الضفة الشمالية، حتى كان طارق بن زياد في الدفعة الأخيرة.
كانت حركة السفن تبدو عادية باعتبارها معتادة على أنشطة التجارة في هذا المضيق البحري، وهنا يتضح لماذا أحرق طارق بن زياد السفن بعد عبور جيشه نحو الأندلس، وذلك لدفع جنوده إلى الاستماتة في القتال وعدم التراجع لاستحالة العودة.[14]
تطلّب حجم المعركة من المسلمين تعبئة قرابة 7 آلاف مقاتل جلُّهم من الأمازيغ، يتقدمهم طارق بن زياد بدعم من يوليان حاكم سبتة. هذه المعركة هي التي شهدت إلقاء طارق بن زياد للخطبة الشهيرة المنسوبة إليه، بعدما أحرق السفن كدليل على أن جيش المسلمين ليس أمامه أي خيار للتراجع.
منارة سبتة بين إرث المرابطين وسيوف الموحدين
لم تكن سبتة مجرد حصن عسكري منيع، بل كانت ميناءا تجاريا كبيرا ومعبرا لكثير من السلع والبضائع والعلوم والثقافات، بسبب موقعها الاستراتيجي المطل على مضيق جبل طارق.
ورغم كثرة الشخصيات العلمية والسياسية التي أنجبتها مدينة سبتة، فإن أكثرها أهمية وتجسيدا للبعد الحضاري للمدينة هو القاضي عياض الذي يتجاوز المدينة ليختزل المغرب بمختلف أبعاده، في عقيدته السنية المالكية والمخلصة لعمل أهل المدينة واختياراته المعتدلة، ومدرسته الأشعرية القائمة على اتباع أهل السنة، وعدم مخالفة أئمة المذاهب السنية الأربعة، وعدم تكفير كل من ولى وجهه نحو القبلة، وتقديم العقل على ظاهر النصوص، وفي انتمائه الجغرافي بوصفه سليل قبيلة عربية يمنية وأحد مواليد مدينة سبتة، قبل أن يقضي نهاية عمره في ضواحي مدينة مراكش ويدفن في تربتها، ليصبح واحدا من رموزها جنوبا.
كثير من جوانب شخصية القاضي عياض تجد تفسيرها في بيئته الأولى، حيث مدينة سبتة الساحلية، فقد كانت الدولة المرابطية التي نشأ القاضي عياض في عهدها من أعظم الدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب. وفي الشطر الثاني من حياته، شاهد القاضي عياض هذه الدولة، وهي تندحر شيئا فشيئا، وتجسد ذلك في انتشار الفساد والترف، وفي الهزائم المتتالية أمام جيوش ابن تومرت الملقبة بـ”الموحدين”.[15]
أدرك القاضي عياض مقدار القسوة والوحشية التي تعامل بها الموحدون مع خصومهم، فخاف على أهل سبتة من أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل مدينة سلا المغربية الذين ذبحهم الموحدون عن بكرة أبيهم عندما حاولوا مقاومتهم، ورأى أن من المصلحة أن يدخل هو وأهل سبتة في طاعة الموحدين، حتى تستقر الأمور، ويرى ما يمكن عمله بعد ذلك، وبالفعل دخل القاضي عياض وأهل سبتة في طاعةفي سنة 540 هـ، وأقره الموحدون على منصب القضاء.[16]
باشر القاضي عياض تسيير شؤون سبتة وهو يفكر في نفس الوقت بخطة للتصرف مع هؤلاء الزاحفين على السلطة في المغرب، خاصة عندما قام الموحدون باقتحام مدينة مراكش عاصمة المرابطين وآخر حصونهم، مخلفين مذبحة كبيرة.[17]
في لحظة أمل في استرجاع زمام المبادرة، قرر القاضي عياض الاتصال بآخر القادة المرابطين الكبار يحيى بن غانية، وكان يسيطر على جزر الأندلس الشرقية، فنسّق معه القاضي عياض من أجل القدوم إلى مدينة سبتة وتسلميها إليه، على أن يعمل يحيى بن غانية على محاربة الموحدين وتحرير مدن المغرب منهم، وبالفعل وافق يحيى بن غانية على ذلك، فأعلن أهل سبتة خلع طاعة الموحدين، وذلك سنة 543 هـ.[18]
بعكس ما اتُّفق عليه، تخاذل يحيى بن غانية عن القدوم إلى سبتة، في حين أسرع الموحدون إلى حصار المدينة بجيوش كثيفة، فخاف القاضي عياض على أهل المدينة من القتل والسبي، فخرج إلى الموحدين بنفسه، فحملوه إلى أمير الموحدين عبد المؤمن بن علي، وكان وقتها في مراكش.
يعتبر هذا الخروج الأخير بالنسبة للقاضي عياض من مدينة سبتة، فلم يعد إليها قط. فرغم أن المصادر تقول إن عبد المؤمن عفا عن القاضي عياض وصفح عن ما جرى، إلا أنه طلب منه أن يمكث معه في مراكش.
سقوط سبتة.. لحظة فارقة في التاريخ الإسلامي
كانت سبتة على مر التاريخ مصدر كثير من الإزعاج والتهديد بالنسبة للبرتغاليين، قبل تمكنهم من احتلالها، كما كانت لحظة احتلال سبتة فارقة واستثنائية على جميع المستويات، فهي لحظة ميلاد البرتغال بوصفها قوة بحرية دولية، وإيذان بنهاية الوجود الإسلامي في الأندلس.[19]
وجاء سقوط سبتة في يد البرتغاليين يوم 22 آب/ أغسطس 1415، في سياق متسم بأزمة خانقة كانت دولة المرينيين تجتازها، من صراع داخلي حوّل الأراضي المغربية إلى هدف سهل للقوات الإيبيرية المنخرطة وقتها في حرب الاسترداد المنطبعة بشحنة دينية واضحة.[20]
سبق سقوط مدينة سبتة توالي أحداث أبانت ضعف الدولة المرينية القائمة على شؤون المغرب وقتها، أولها معركة طريفة سنة 1340 م، فقد كان المرينيون يسعون حينها إلى استعادة الأمجاد المغربية في المنطقة، خاصة في الأندلس، مستندين في ذلك إلى قوات بحرية تنطلق من قاعدتي سبتة وباديس شمالا، وعدد من القواعد البحرية في الواجهة الأطلسية.
ورغم عدم انتصار تحالف القوات المسيحية على القوات المغربية، فإن هذه المعركة استنزفت القوات المغربية وقضت على أسطولها البحري تقريبا، مما جعلها تسقط بعد أقل من عامين تحت حصار مسيحي خانق للجزيرة الخضراء (في الضفة الشمالية للمتوسط)، وذلك ما أدى إلى انهزام القوات المغربية وملاحقتها داخل الأراضي المغربية (الضفة الجنوبية للمتوسط)، مع ما يصاحب مثل هذا الغزو من تقتيل ونهب، خاصة في مدينة تطوان المجاورة لسبتة.[21]
أدى هذا التقهقر العسكري للقوات المرينية إلى بروز الأطماع البرتغالية الصريحة تجاه سبتة، فأصبحت هدفا لحملات عسكرية ضخمة، عبأت أكثر من 200 سفينة وعشرات الآلاف من الجنود، وهو ما انتهى باقتحام أسوار المدينة وفرار حاكمها المسلم صلاح بن صلاح.
أسطول الملك جواو.. ضربة مباغتة ترعب الممالك الإيبيرية
أحاط الملك البرتغالي مشروع حملته على سبتة بسرية تامة، مثيرا بذلك مخاوف الممالك الإيبيرية المجاورة، وعاشت تلك الدول قلقا كبيرا، بما فيها إمارة غرناطة الإسلامية الصامدة وقتها.
كان أكثر ما أثار مخاوف الدول الإيبيرية، هو حجم الأسطول البحري البرتغالي الذي تطور بشكل كبير خلال سنة 1414 م، لدرجة أن مملكة قشتالة بعثت سفارة إلى لشبونة تتأكد من استمرار العمل بمعاهدة السلام بين الجانبين، وبادرت إمارة إشبيلية إلى تعزيز أسوارها، وبعث ملك الأراغون سفراءه للاستفسار حول نيات الملك جواو الأول، بعد أنباء تحدثت عن استهداف البرتغال لجزيرة صقلية، وكان الجواب الوحيد الذي يصدر عن البرتغال، هو زعم استعدادها للهجوم على هولندا، تبديدا لشكوك جيرانها الإيبيريين، وتجنبا لاستنفار المغاربة.[22]
قاد الملك البرتغالي جواو الأول حملة غزو سبتة بنفسه، رفقة ثلاثة من أبنائه، وجاء على رأس جيش جرار قوامه زهاء 40 ألف مقاتل، حطوا رحالهم ذات صباح من صيف 1415 في وقت لم تكن فيه تحصينات المدينة ولا قدراتها مهيأة لمواجهة مثل هذا الغزو.[23]
ظن المغرب وقتها أن احتلال مدينة سبتة لن يطول، ودام هذا الاعتقاد سنوات طويلة، إذ لم يكن أحد يعتقد أن سقوط هذا المدينة سيخرجها من سيادة المغرب على مدى قرون عدة، ولم تنته حرب الغزاة على مدينة سبتة وسكانها باقتحام أسوارها، بل كان ذلك الحدث إيذانا بحرب إبادة طويلة الأمد، لم تقتصر على سكان سبتة، بل كانت تطال المناطق المجاورة لها أيضا.
لم تمض إلا شهور قليلة حتى تحولت سبتة إلى قلعة عسكرية برتغالية، بعدما فر منها جل المسلمين واليهود الذين كانوا مصدر ثراء المدينة بفضل تجارتهم بعيدة المدى، وهذا التفقير الذي طال المدينة لم يجردها من أهميتها الاستراتيجية، إذ كان البرتغاليون يعتزمون تحويلها إلى قاعدة انطلاق لاحتلال شمال المغرب بالكامل، وإنهاء الوجود الإسلامي في الضفة الشمالية للمتوسط (إمارة غرناطة الأندلسية كانت ما تزال صامدة).
غزو طنجة.. فشل ذريع يؤجل الاجتياح إلى حين
شن البرتغاليون سنة 1437م هجوما بريا لاحتلال مدينة طنجة انطلاقا من سبتة، لكن الهجوم فشل، وتحول الغزاة الذين حاولوا محاصرة طنجة إلى محاصرين، فاستسلموا للقوات المغربية، وبينهم فرناندو ابن الملك البرتغالي دوارتي الأول.
كان العرض المغربي المقدم للبرتغال وقتها، هو الانسحاب من مدينة سبتة مقابل إخلاء سبيل الأسرى ومن بينهم الأمير فرناندو، لكن الملك البرتغالي رفض الخضوع للمطلب المغربي حتى فارق ابنه الحياة في الأسر بمدينة فاس، لاعتلال أصاب صحته.
لكن وفاة السلطان المغربي أبو محمد عبد الحق بن عثمان، قلب موازين القوى بعد انهيار حكم المرينيين، لتدشن البرتغال عصر تغلغلها الأكبر في الأراضي المغربية، فزحفت في الشمال على مدن طنجة والقصر الصغير وأصيلة والعرائش، إلى جانب ثغور ساحلية أطلسية مثل أزمور وآسفي، وكان ذلك في سياق العصر الذهبي للغزو الاستعماري البرتغالي الذي بلغ آفاقا بعيدة في الهند والبرازيل والعمق الأفريقي.[24]
حصار الـ33 سنة.. سلطان مغربي قوي يخنق السيادة الإسبانية
بعد أزمة الحكم الطويلة التي عاشتها البرتغال إثر وفاة الملك سيباستيان الأول في معركة الملوك الثلاثة التي انكسرت فيها دولة البرتغال أمام الجيش المغربي غير بعيد عن مدينة العرائش؛ أصبحت سبتة جزءا من المجال الترابي الخاضع لسيطرة الحلف الإيبيري الذي تشكل بين البرتغال وإسبانيا نهاية القرن 16م، وانتهى في 1640 بعد ثورة البرجوازية البرتغالية التي أعلنت الانفصال، لتقدم الطبقة الحاكمة في مدينة سبتة على تغيير ولائها ورفضها الالتحاق بالبرتغال المستقلة، وأصبحت بالتالي تابعة لإسبانيا، خاصة أن بعض المصادر التاريخية تقول إن عدد الإسبان المقيمين في المدينة كان يفوق عدد البرتغاليين.[25]
ورغم التحاقها بالسيادة الإسبانية عام 1640، فإن البرتغال لم تعترف بهذا الوضع إلا سنة 1668، من خلال معاهدة لشبونة التي وقعها البلَدان بشكل ثنائي، ولا يعترف بها المغرب.
بعد محاولات متقطعة لاستعادة مدينة سبتة من الاحتلال الإسباني، كانت أول محاولة جادة في عهد السلطان العلوي مولاي إسماعيل الذي أخضع المدينة لحصار دام 33 سنة، فبمجرد تسلمه الحكم خلفا لأخيه المولى الرشيد عام 1672، حاول استرجاع سبتة عبر هجوم عسكري آل إلى الفشل، ثم أعاد الكرة في 1680، ثم في 1682، فقد كان هذا السلطان العلوي القوي عازما على تحرير جميع المناطق المحتلة على طول السواحل المغربية.[26]
وفي العام 1694، أطلق مولاي إسماعيل حملة عسكرية كبرى لاستعادة مدينة سبتة من يد الإسبان، وقد استمرت الحملة إلى غاية 1727، وهو ما يعرف في المصادر الإسبانية بحصار الـ33 سنة. وخصّصت إسبانيا خلال هذه الفترة دعما استثنائيا لقواتها في المدينة المحاصرة، فبذلت كل ما تستطيع لمنع سقوطها في يد الجيش المغربي. وبعد كر وفر طويل، انتهى الأمر بالقوات المغربية بالانسحاب من المعركة، قبل وفاة السلطان مولاي إسماعيل بأيام قليلة.[27]
حرب تطوان.. اتفاقية إذعان تنتزع الحقوق المغربية
بعد خمس سنوات من وفاة السلطان مولاي إسماعيل، أعاد ابنه مولاي عبد الله محاولة استرجاع مدينة سبتة، لكن 3 آلاف من بين الخمسة آلاف جندي الذين بعثهم فارقوا الحياة على أعتابها، ولم تخرج محاولة السلطان مولاي اليزيد أواخر القرن الثامن عشر عن هذه القاعدة، لتبقى سبتة سليبة في قبضة الإسبان.
بل إن الاحتلال الإسباني استغل فرصة ضعف الدولة المغربية ووقوعها بين فكي كماشة التوغلات الفرنسية من جهة الجزائر والتحرشات الإسبانية من جهة الشمال خلال القرن التاسع عشر، لتحكم قبضتها على مدينة سبتة وتوسّع مجال سيطرتها الترابية فيها.
فبعد الهزيمة التي مني بها الجيش المغربي في مواجهة الإسبان عام 1860 فيما يعرف بحرب تطوان، كان في طليعة هذه الشروط التي فرضها الإسبان على المغرب أداء تعويضات باهظة، وتوسيع قطاع سبتة، وتخويل إسبانيا قطعة أرض على المحيط لإقامة مركز للصيد بها.
فقد نص الشرط الثاني من معاهدة الصلح المبرمة في تطوان يوم رابع شوال 1276 الموافق ليوم 26 أبريل/ نيسان 1860 على أن “أرض سبتة المذكورة والمحدودة في الشرط الثالث يعطيها سلطان مراكش لسلطانه، لكون الصلح دائما وأبدا، وتثبت الصحبة بين الدولتين، ويصفو الغبار بينهما”[28]، وهو ما تعتبره إسبانيا اعترافا مغربيا بسيادتها على سبتة، رغم أن الأمر يتعلق باتفاقية بين منتصر ومنهزم، أي اتفاقية إذعان لا اختيار.
بوابة أوروبا.. صراع الغزاة على معبر الضفة الشمالية
هناك عاملان أساسيان حددا وضع مدينة سبتة ومصيرها الاستراتيجي، وهما قربها من السواحل الأوروبية، ثم مظاهرها الطبيعية التي تمنحها مزايا الجزيرة دون مساوئها. وهناك تصور سائد حول المدينة في بعض المصادر الأوروبية، يجعلها بمثابة بوابة نحو أفريقيا، لكن بعكس ذلك فأهمية المدينة تكمن في الحقيقة في كونها بوابة نحو أوروبا.
فعندما برز الفاطميون في الضفة الغربية للمتوسط في القرن العاشر للميلاد، سارع الخليفة الأندلسي الأموي عبد الرحمن الثالث (الناصر لدين الله) إلى بسط سيطرته على سبتة، كي لا يستعملها الفاطميون للعبور نحو الضفة الأوروبية.[29]
إن السيطرة على سبتة ظلت بالنسبة للدول القائمة في الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق -بما فيهم دولة الأمويين الإسلامية- قفلا يمنع فتح أبواب أوروبا أمام القوى القادمة من المغرب، وهو ما يفسر استهداف البرتغال المبكر لها، أي في بدايات التمدد الاستعماري لهذه الدولة الأوروبية الصغيرة، لأن سبتة كانت مصدر إزعاج وتهديد كبيرين لحركة “الاسترداد” الصليبية المسيحية في شبه الجزيرة الإيبيرية.
المصدر: الجزيرة الوثائقية