في المدينة القديمة، حيث يعرّش الماضي بكل حكاياته وذكرياته على جدران الأزقة والشوارع العتيقة، يقبع فرن “عمورة” المتكي على الجدار الشرقي لمدينة طرطوس القديمة، والذي يحاكيها بقدمه وأصالته باعتباره نقطة علامة تراثية ومركز استقطاب للكثير من المواطنين الذين يقصدونه من مدن المحافظة وأريافها.
فرن عتيق يعود تاريخه إلى عام 1842، يحكي حكاية تراثية ترفض التحديث وتتمسك بالطريقة التقليدية لصناعة الخبز المشروح على الحطب.. من على بعد أمتار تعبق في المكان رائحة الخبز والحطب فتزكم الأنوف برائحتها الطيبة لتشد المارة إلى الفرن الذي يتجمهر الناس أمامه وهم ينتظرون دورهم، وكلهم إعجاب مقترن بالدهشة لقدم هذا الفرن.
خبز عمورة، بات علامة مسجلة تتناقلها ألسن من جرّب طعم ذلك الخبز، إذ يقول لـ”أثر” أحد الأشخاص ممن كانوا ينتظرون الخبز: “آتي إلى هذا الفرن منذ كنت صغيراً، كان والدي يرسلني لشراء الخبز، كبرت وتزوجت ولا زلت أواظب على شراء الخبز من فرن عمورة لأن شكل الرغيف ومذاقه طيب جداً، خاصة أيام العطل عندما يكون الفطور فول وحمص”.
وقال آخر: فرن عمورة علامة في مدينة طرطوس، الجميع يقصده لشراء الخبز الطيب والذي لا مثيل لطعمه، ولا يقصر زبائنه على المدينة، وإنما هناك أشخاص يقصدونه من الأرياف حتى يشتروا الخبز منه.
“فرن قديم حافظ على الأصالة والتراث”، بهذه العبارة قال رجل ثمانيني كان يجلس على كرسي أمام الفرن: “عمر هذا الفرن أكثر من 220 عاماً، وعيت ع الدنيا وأنا بعرف هالفرن يلي علمنا شو هي طعمة الخبز المظبوط”، ويضيف: “مافي أطيب من الخبز على الحطب، وشغل أيام زمان الي كلو أصالة ومعلمية”.
بدوره، قال أحد مالكي الفرن، محمد عمورة لـ”أثر”: تعاقبت على هذا الفرن أجيال وأجيال من أسرة واحدة، فقد ورثناه عن آبائنا وأجداد أجدادنا، وحافظنا عليه بكل ما فيه من أصالة وتراث، ويضيف: كان لعائلتي أسبقية تسجيل أول رخصة مزاولة لهذا النوع من الأفران في طرطوس، حيث كانت أقدم رخصة في سوريا، وتعود إلى عام 1947.
وتابع عمورة: يقصدنا الناس من أغلبية قرى المحافظة، لأن الفرن بات نقطة علامة في المدينة القديمة، مشيراً إلى أن شخصيات سياسية مهمة كانت تقصد هذا الفرن كالشيخ صالح العلي وغيره، مبيناً أن فرن عمورة من أقدم الأفران في سوريا وليس في طرطوس فحسب.
“كل شيء في الفرن تراثي، حتى طريقة بنائه بمحاذاة السور الأثري لمدينة طرطوس القديمة”، ويضيف عمورة: الفرن مبني من الحجارة البركانية السوداء، التي تتحمل درجات حرارة عالية، حيث تم حفر تجويف حجرة الفرن الحرارية ضمن جدار السور الأثري للمدينة القديمة بجانب جامع البلدية بطول حوالي المترين وعرض متر ونصف وارتفاع متفاوت لأن سقفه على شكل قبة مسطحة، ويتقدمه في الأمام مكان وقوف الخباز أو ما يسمى الجورة، وأمامه العصي الخشبية أو ما يسمى السهام الخاصة بإدخال الخبز وإخراجه من الفرن، وعلى يمينه البلاطة مكان رق العجين يدوياً، أما أرضية حجرة الفرن فهي مرصوفة بالزجاج المكسر وقطع الحديد الصغيرة والملح الصخري، وجميعها تساعد على حفظ الحرارة لفترات زمنية طويلة.
ويرفض عمورة الرجل السبعيني تحويل فرنه إلى العمل بالكهرباء أو الغاز، حفاظاً على خصوصية العمل التراثي للفرن الذي بات معلماً أثرياً في مدينة طرطوس القديمة لا يخضع للتحديث حتى لا يفقد قيمته التاريخية وهويته الأثرية.
المصدر: أثر