زحفت جموح المغول بأقصى جاهزيتها وبأكبر عتاد لها بتاريخها في الحروب تجتاح كل يابس وماء، فلا تبقي إنسانا سالما ولا عمرانا كاملا، وبقيادة هولاكو خان حفيد مؤسس الإمبراطورية المغولية جنكيز خان، اتجهت الجيوش نحو غرب آسيا إلى ما بين النهرين حيث بلاد الرافدين وعاصمة الخلافة العباسية بغداد.
يمم هولاكو خان بغداد بعد أن قضى على سيطرة الخوارزميين في شمالي فارس وأجزاء من آسيا الوسطى، وقد كانوا درعا حصينا للعباسين في العراق في صد هجمات المغول، لكن بزوال حكم الدولة الخوارزمية تحت حكم الشاه جلال الدين منكبرتي بات الطريق نحو عاصمة الخلافة مكشوفا، فلا يحجب بين الجيشين سوى نهري دجلة والفرات.
لقد كانت فرصة ذهبية بالنسبة للدولة المغولية أن تعزز حضورها وتبسط نفوذها على مناطق وسط آسيا وغربيها في ظل تواجد مئتي ألف مقاتل من المغول والتتار بالإضافة إلى تعزيزات قادمة من مملكة قيليقية الأرمنية ومملكة الكرج الجورجية في هدف الإطاحة بالدولة العباسية التي تفككت في نهاية حقبتها بحكم المسافات الشاسعة التي كانت تغطيها، فأصبح حالها أقرب للإمارات ذات حكم ذاتي، فلا يكون لخليفة المسلمين المقيم في بغداد حولٌ له فيها سوى الدعاء له بالمنابر، فضلا عن ذلك فالحكم كان يعود للولاة والرعاة في تلك المناطق.
وفي مستهل سنة 1258 ميلادية، أرسل “هولاكو” كتابا إلى الخليفة العباسي “المستعصم بالله” يحثه على أن يسلّم دولته وأن ترضخ لحكم المغول، وإلا فالحرب هي الفيصل. وعلى الرغم من وهن جيش الدولة العباسية الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل وفق تقدير ابن كثير، فإن الخليفة أبى أن يستلسم، وحاول أن يثنيه عن الحرب ببعض الهدايا والأموال، إلا أن “هولاكو” استحقرها وعزم على القتال.
وفي الثامن عشر يناير/كانون الثاني، حاصر “هولاكو” مدينة السلام، بغداد، وطوقها بجيش لم يشهده التاريخ لا يُعرف آخره من أوله، وامتد من الغرب حتى الشرق، وجهك الغزو المدمر أن انطفأت منارة العالم القديم إلى الأبد في ليلة سقوط بغداد.
لقد كانت فرصة ذهبية بالنسبة للدولة المغولية لكي تعزز حضورها وتبسط نفوذها على مناطق وسط آسيا وغربها في ظل وجود مئتي ألف مقاتل من المغول والتتار بالإضافة إلى تعزيزات قادمة من مملكة قيليقية الأرمنية ومملكة الكرج الجورجية في هدف الإطاحة بالدولة العباسية التي تفككت في نهاية حقبتها بحكم المسافات الشاسعة التي كانت تغطيها، فأصبح حالها أقرب للإمارات ذات الحكم الذاتي، فلا يكون لخليفة المسلمين المقيم في بغداد حولٌ له فيها سوى الدعاء له بالمنابر، وفيما عدا ذلك كان الحكم يعود للولاة والرعاة في تلك المناطق.
مجانيق هولاكو.. شهب السماء المتساقطة على بغداد
في مستهل سنة 1258 ميلادية، أرسل هولاكو كتابا إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله يحثه على أن يسلّم دولته وأن ترضخ لحكم المغول، وإلا فالحرب هي الفيصل، وعلى الرغم من وهن جيش الدولة العباسية الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل وفق تقدير ابن كثير، فإن الخليفة أبى أن يستسلم، وحاول أن يثنيه عن الحرب ببعض الهدايا والأموال، إلا أن هولاكو استحقرها وعزم على القتال.
وفي الثامن عشر يناير/كانون الثاني، حاصر هولاكو مدينة السلام بغداد، وطوقها بجيش لم يشهده التاريخ لا يُعرف آخره من أوله، وامتد من الغرب حتى الشرق، وجهزت المجانيق تمطر المدينة بوابل من النيران الملتهبة كأنها نجوم السماء تتهاوى على الأرض ولشدتها غطى المدينة دخان كثيف، فلا الليل بات مظلما ولا الشمس بانت بعد ظلمة.
وفي المقابل كان الجيش العباسي يحمي أسوار المدينة مستعينا بالعرّادات (العرادة: آلة حربية قديمة تشبه المنجنيق الصغير) إلا أنها لم تصمد طويلا، فبعد مرور 12 يوما استطاع المغول اقتحام المدينة فحدثت إحدى أعظم الكوارث في تاريخ الحضارة الإسلامية وأكبر المجازر البشرية في التاريخ.
لقد استباح المغول شوارع بغداد، فلم يصادفوا نفسا إلا وأزهقوها، ولم يتركوا بنيانا قائما إلا وهدموه، وقد قيل إن مليون شهيد أريقت دماؤهم في غضون 40 يوما، فكانت تجري الدماء في شوارع المدينة كجريان ماء دجلة، حتى أنّ هولاكو وجيشه أقاموا عسكرهم بعيدا عن مركز المدينة بسبب رائحة القتلى.
ولأن بغداد كانت نموذجا حضاريا بهيا يضرب بها المثل، فقد نشطت الحركة العلمية التي تمثلت بأرقى الأبنية وأجملها، وكانت تعج بالمدارس -التي تعد بمثابة الجامعات اليوم- وملحقاتها من المكتبات ودور النشر ومراصد الفلك، وكان أبرز معالمها وألمعها صيتا هو بيت الحكمة الذي لم يسلم من بطش المغول، فكان مما نتج عن ذلك الغزو المدمر أن انطفأت منارة العالم القديم إلى الأبد في ليلة سقوط بغداد.
مدينة المنصور المدورة.. بناء عاصمة الخلافة العباسية
حينما تقلد بنو العباس سُدّة الحكم في عام 750م/ 132هـ نقلوا عاصمة الخلافة من دمشق إلى بلاد الرافدين، وقد اختار ثاني الخلفاء العباسيين أبو جعفر المنصور الموقع الجغرافي لعاصمته بعد شورى وعناية شديدة، فوقع اختيار موقع بغداد على ضفاف نهر دجلة غربا وبالقرب من نهر الفرات.
وقد فرض الخليفة على بناء المدينة رقابة صارمة حتى أنه هو من وضع الحجر الأساس بها بنفسه، وأمر البنائين بوضع كرات قطنية منقوعة في سائل نفطي وإضرامها بالنار ووضعها على حدود المدينة الخارجية حيث ستشيد الأسوار العالية الحامية والمبنية من القرميد الأحمر، وكان شكل المدينة على هيئة دائرة متقنة قد عكست أعمال عالم الرياضيات اليوناني إقليدس التي درسها الخليفة وأحبها، وإلى شكلها الهندسي يعزى تسميتها بالمدينة المدورة.
وأحيطت المدينة بأربعة أبواب يتقابل كل بابين منهما، فيفصل بين الأبواب مسافة متساوية، ويمرّ من كل باب طريق يقود إلى مركز المدينة حيث يقع بلاط الخليفة، وكل باب سمّي وفق الوجهة التي يشير إليها، فهناك بوابة الكوفة وبوابة البصرة وبوابة الشام وبوابة خراسان.
وجاء في ذكر بغداد على لسان مؤرخها الخطيب البغدادي (1002-1071م) أنه: لم يكن لبغداد في الدنيا نظيرٌ في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميّز دورها ومنازلها، ودروبها وشوارعها، ومحالّها وأسواقها، وسِكَكها وأزقتها ومساجدها، وحمّامتها وطُرَرِها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحّة ربيعها وخريفها، وزيادة ما حُصر من عدة سكانها. وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، إذ الدنيا قارّة المضاجع، دارّة المراضع، خصيبة المراتع، موردة المشارع”.
فكانت بغداد صورة مثلى للرفاه الاقتصادي والاجتماعي ومصدر إلهام لكل تاجر وشاعر وعالم وباحث وكاتب وفيلسوف وعالم فلك وغيرهم ممن كانت تمنيه نفسه بأن يرتقي برقي أهلها وظُرفهم، حتى أنّه شاع في قولهم أن فلانا “تبغدَدَ”، أي تلطف وترفق أو أنه رأى نفسه أعلى مكانة. ويقول الأديب ياقوت الحموي (1179-1229م) واصفا إقبال الناس على مدينة السلام أنه: ما مررتُ بطريق من طرق هذه المدينة إلا وظننت أن الناس قد نودي فيهم.
سوق الوراقين.. غنائم الصين التي أثرت الحضارة العربية
لمّا اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في أقصى شرقها في عهد الخلافة العباسية متجاوزة حدود قرغيزستان اليوم ومتوغلة إلى عمق آسيا الوسطى، دار اشتباك بين الجيش العباسي بقيادة أبي مسلم الخرساني والجيش الصيني بقيادة عائلة “تانج” الحاكمة، في الواقعة الشهيرة معركة نهر طلاس، فكانت بها الغلبة لصالح المسلمين.
وكان أعظم ثمار ذلك الانتصار، هو أسر بعض الورّاقين الصينيين الذين كانوا يعملون في صناعة الورق، فقد كانت تعد تقنية محصورة فقط على الشعوب الصينية وقتئذ، وما لبثت أن انتقلت هذه الحرفة إلى بلاد المسلمين وازدهرت حينها في مدن رئيسة كسمرقند ودمشق وشاطبة في الأندلس.
وأما في بغداد فقد انتقلت صناعة الورق إلى مستوى آخر، فقد كان الورق يحظى بسمعة كبيرة في المنطقة بسبب جودته العالية، حتى أن بعض المصادر اليونانية البيزنطية كانت ترمز إلى الورق بلفظ ” باغداتيكسون” (bagdatixon) بنسبته إلى بغداد.
كثر الورّاقون في بغداد وباتت أسواق الورق سمة جلية في الحياة الحضرية، ولطالما اقترن صناعة الورق بالكتابة، فسهل التدوين بشتى مجالاته. يقول الدكتور خير الله سعيد الباحث في أصل الوراقة في العالم الإسلامي: إن تاريخ الكلمة هو تاريخ ثقافي يحدد مسؤولية كل شعب من الشعوب، وهو في الوقت نفسه الأمانة التاريخية في وعي الباحث، لتتبع مسار الكلمة الصحيحة عبر كل المطبات والمنعطفات في كل مرحلة، على أساس من هذه الأمانة التاريخية، إذ أن ظاهرة الوراقة والوراقين في الحضارة العربية الإسلامية، هي واحدة من أبرز المعالم في المدنية والتحضر التي أفرزها العصر العباسي، وبدورها هي أفرزت تلك الفنون المتعددة، وانبجست عن خواص ثقافية أخرى دلت علیھا بالشاھدة والمكان والأثر والعين، منها المكتبات وفن الزخرفة والترجمة وغير ذلك.
ترجمة الفنون القادمة من أقاصي الأرض.. مكتبة الخليفة
لقد أسفرت الفتوحات الإسلامية عن احتواء أجزاء كبيرة من العالم القديم، وجمعت أمصارا وشعوبا فقدت الروابط بينها لقرون طويلة، وذلك منذ إمبراطورية إسكندر المقدوني، وقد نتجت عن ذلك سهولة التنقل بين البلدان، وبالتالي تلاقح الأفكار والعلوم وتطورها.
وفي الدولة العباسية كثر اختلاط العرب مع غيرهم من الأمم التي انطوت تحت حكمهم، وكان لاندماج تلك الحضارات وتنوعها العرقي تأثيرها الخاص على الخلفاء العباسيين الأوائل، فبداية النهضة العلمية الحقيقية بدأت على يد الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور (714-775م) الذي أمر بترجمة الأعمال الهندية والفارسية واليونانية إلى العربية من شتى أنواع العلوم من طب وهندسة وفلسفة ونحوه، ثم أمر بهذه الكتب أن توضع في مكتبة خاصة في قصر الخليفة.
وقد كان المنصور أول من راسل ملك الروم طالبا منه كتبا في الحكمة، فأرسل له كتاب العالم الرياضيات اليوناني إقليدس الإسكندري الذي أُغرم الخليفة به وبقوانينه الهندسية، وعليه كان تأسيس مدينة بغداد ذات الطابع الهندسي الدقيق والمدهش.
يقول المؤرخ والجغرافي أبو الحسن المسعودي (896-956م) في كتابه “مروج الذهب” في ذكره للمنصور: وكان أول خليفة قرّب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وكان معه نوبخت المجوسي المنجم، وأسلم على يديه وهو أبو هؤلاء النوبختية، وإبراهيم الفزاري المنجم صاحب القصيدة في النجوم، وغير ذلك من علوم النجوم وهيئة الفلك، وعلي بن عيسى الأسطرلابي المنجم، وهو أول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات العجمية إلى العربية، منها: كتاب كليلة ودمنة وكتاب السندهند، وترجمت له كتب أرسطاطاليس من المنطقيات وغيرها، وترجم له كتاب المجسطي لبطليموس وكتاب الأرتماطيقي وكتاب إقليدس وسائر الكتب القديمة اليونانية والرومية والفهلوية والفارسية والسريانية، وأخرجت إلى الناس فنظروا فيها وتعلقوا إلى علمها”.
وفي عهده تُرجمت أشهر الأعمال الأدبية الهندية كلَيلَة ودِمنة على يد المترجم عبد الله بن المقفع نقلا من اللغة الفهلوية، بعد أن تُرجمت من السنكسريتية.
هارون الرشيد.. عصر الترجمة والعلوم الذهبي
أعقب المنصور حفيده الخليفة هارون الرشيد خامس الخلفاء العباسيين في الاهتمام بالعلوم الطبيعية والحكمة والفلسفة، ولما بدا له أن المكتبة التي داخل قصر الخلافة قد امتلأت كتبا ومجلدات، أمر بإنشاء مكتبة خاصة خارج أسوار القصر، وأن تفتح بابها لكل طالب وعالم وقارئ، وقد حملت تلك البؤرة العلمية اسم “بيت الحكمة” تيمنا بما تحمله كتبها.
وسريعا ما ازدهر بيت الحكمة ليضم عدة أقسام بداخله، فكان منها مكتب للترجمة ومكتبة للكتب ومستودع وأكاديمية من العلماء والمفكرين من جميع أنحاء الإمبراطورية، ليصبح بيت الحكمة غاية ينشدها أي باحث من كل أقطاب الأرض.
وعندما استولى هارون الرشيد على مدينتي عمورية وأنقرة وانتزعهما من الروم، أمر بأن تصان مكتباتها وكل كتبها، واختير أثمنها لكي يُرسل إلى بغداد، وتكفل بترجمتها أعظم الأطباء في عصره يوحنا بن ماسويه ذو الأصول السريانية.
وذاعت في ذلك الحين حركة الترجمة وانتعشت، حتى أنها باتت أرقى مهن المجتمع، فجاور المترجمون الخلفاء ونالوا ما نالوه من مكافآت وهدايا، ولطالما كان ذلك من أسباب بلوغ الحقبة الذهبية الإسلامية في عهد الرشيد.
بنو موسى.. غرس المأمون الذي ازدهر في الرياضيات
لما أفضت الخلافة لعبد الله المأمون (786-833) سابع الخلفاء العباسيين، كثف الخليفة جهوده في الترجمات حتى أنه صرف على ذلك 300 ألف دينار ذهبي في عهده.
وقد عيّن المأمون المترجم وعالم اللغات حنين بن إسحاق آمر بيت الحكمة، ويعود الفضل له في ترجمة أثمن الكتب الإغريقية للرياضي اليوناني بطليموس كتاب المجسطي (لفظها في اليونانية: ماثماتيكا سينتاكسيس)، وتعني الأطروحة في الرياضيات.
ثم أمر المأمون ببناء مرصدين فلكيين، أحدهما على سفح جبال قاسيون في الشام، والآخر مرصد الشماسية في بغداد الذي ألحقه ببيت الحكمة، فكان التوجه الفلكي في عهده جليا، حتى أنه وكّل بني موسى بقياس قطر الأرض ومحيطها.
وبنو موسى بن شاكر هم ثلاثة إخوة برعوا في الرياضيات والفلك واشتغلوا في الحيل، وقد استطاعوا تبني نموذج علمي صحيح لحساب قطر الأرض (بطريقة المأمون) بدقة متناهية، سابقين بذلك الإنجاز أقرانهم من الفلكيين بقرون طويلة، وكانت رحلتهم أول بعثة علمية تتبناها الدولة إذ أرسلوا إلى صحراء سنجار شمال العراق بعلمائهم وجمالهم وحبالهم.
وقد ذكر المؤرخ ابن خلكان (1211-1282م) ما أنجزه بنو موسى بإسهاب في كتابه “وفيات الأعيان”، ونكتفي بقوله إنهم هم كانوا أول من تحقق من حساب قطر الأرض ليتطابق مع ما ترجم من الكتب الإغريقية، إذ يقول: ومما اختصوا به في ملة الإسلام، فأخرجوه من القوة للفعل وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه، ولكنه لم ينقل أن أحدا من أهل هذه الملة تصدّى له وفعله إلا هم.
بيوت الحكمة.. إرث المأمون المتفرق في الأصقاع
بعد خلافة المأمون بدأ بيت الحكمة يفقد أولويته عند الخلفاء بسبب الثورات والغزوات وانشغالهم بها، لكنه لم يفقد بريقه في العالم الإسلامي وفي العالم كله، إذ تأسست على إثره صروح علمية مشابهة أبرزها بيت الحكمة في القيروان في عصر دولة الأغالبة، ودار الحكمة في القاهرة في عهد الفاطميين، ودار الحكمة في طرابلس في بلاد الشام، ودار الحكمة في مراغة، وبُنيت على غرارها كذلك خزائن الحكمة التي انتشرت في العالم الإسلامي كخزانة الحكمة لآل المنجم وصوّان الحكمة في بخارى.
ومما يمكن أن نلاحظه أن بيت الحكمة في بغداد كان مجلسا مفتوحا للمناظرات والمناقشات العلمية، إذ أنه ضم أعراقا وأديانا ومللا ونحلا شتى تحت سقيفة واحدة، حتى أن كثيرا من المترجمين لم يكونوا مسلمين، فكانوا من اليهود أو المسيحيين النسطوريين.
وكان من المترجمين والعلماء غير المسلمين من لهم مناظراتهم وسجالاتهم مع المسلمين في المسائل الدينية بحضرة الخليفة، فكان بيت الحكمة حاضنا للحراك العلمي البشري في ذلك الحين، حتى أن بعض المؤرخين ينظرون إلى بيت الحكمة على أنه أول جامعة تأسست في التاريخ.
وعلى الرغم من الهيبة التي كان يحظى بها بيت الحكمة في نفوس الأمم، فإن ذلك لم يمنع المغول من أي ينالوا من حرمته ويعبثوا به، ومن عظيم ما اقترفته أيدي الغزو التتري في ليلة سقوط بغداد بجانب استباحة المدينة، أن أحرقت كتب بيت الحكمة وكثير منها أغرق في نهر دجلة، حتى أن مصادرا تقول إن الخيول كانت تعبر على الكتب بعد أن صنعت جسرا بين ضفتي النهر، وأن النهر تلطخ بلون الحبر وتحول لونه، وكان ذلك ديدن جنكيز خان وحفيده هولاكو في التخريب والتدمير.
“لا يقدر بثمن”.. إثراء المحتوى الذي مهد لنهضة الأمم
هناك وجه آخر من الحكاية هو أن ثمة جزءا من الكتب أنقذ بشفاعة الفلكي الفارسي نصير الدين الطوسي، إذ كان على علاقة قوية مع هولاكو الذي استعان به في تأويل بعض الظواهر الفلكية، فنهب 400 ألف كتاب وأودعها مكتبة مرصد مراغة الواقعة شمال غربي بلاد فارس.
وختاما وليس خاتمة لتاريخ النهضة الإسلامية، يقول البروفيسور الأمريكي “ديمتري غوتاس” صاحب كتاب “الفكر اليوناني والثقافة العربية” (Greek Thought Arabic Culture): فضل الحضارة الإسلامية -لا سيما الحقبة العباسية والأندلسية- في حفظ الإرث الإغريقي الذي ساهم بنهضة العصور الوسطى؛ لا يقدر بثمن.
ولم يكتفِ العرب بترجمة أنفس الأعمال العلمية والفلسفية القديمة، بل إن التفسير والفهم والتحليل والتعليق والتحرير وإثراء المحتوى العلمي مهد طريقا للأمم في نهضتها، ولا عجب في كون أول كتاب يُطبع باللغة الإنجليزية عام 1477 هو ترجمة لأحد أعمال الفيلسوف الدمشقي المبشر بن فاتك، كتاب “مختار الحكم ومحاسن الكلم” وترجمته بالإنجليزية (Dictes and Sayings of the Philosophers)، وقد أُهدي حينها لملك بريطانيا إدوارد الرابع في حفل ملكي.
المصادر: مواقع إلكترونية – الجزيرة الوثائقية