عينها على ثروة الذهب.. روسيا تتوسع بطريقة “جديدة” في السودان
في منطقة غنية بالذهب، على بعد 320 كيلو مترا شمال العاصمة السودانية، تسمى “العبيدية، تنبع الثروات من الصخور في أعماق الصحراء.
تضم تلك المنطقة، بحسب ما يكشف تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز”، مصنعا يخضع لحراسة مشددة محاط بأبراج لامعة، يسميه السكان المحليون بـ”الشركة الروسية”، وهو في الحقيقة واجهة للمنظمة شبه العسكرية، فاغنر، وطيدة العلاقة بالكرملين،
يعالج المصنع أكوام الخام من سبائك الذهب، حيث حصلت “فاغنر” على امتيازات تعدين مربحة تنتج سيلا متدفقا من الذهب كما تظهر السجلات، ويعزز مخزون الكرملين من الذهب، البالغ 130 مليار دولار، والذي يخشى المسؤولون الأميركيون أن يتم استخدامه لتخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو بعد غزو أوكرانيا، من خلال دعم العملة الروسية المحلية “الروبل”.
وحسب الصحيفة باتت فاغنر، المعروفة بأنشطتها العسكرية، ومساعدتها الأنظمة الديكتاتورية للبقاء في الحكم، من خلال شبكتها الغامضة من المرتزقة، أكثر من مجرد آلة حرب في أفريقيا، تتمدد وتتعزز قوتها من خلال سيطرة اقتصادية وعمليات التأثير السياسي.
وفي عام 2017، توسعت فاغنر في أفريقيا، بتوجيه واضح من يفغيني بريغوزين، رجل الأعمال الروسي المعروف باسم “طاه بوتين”، حيث أصبح المرتزقة التابعون لها عاملا مهما، بل محوريا في بعض الأحيان في سلسلة من البلدان المتضررة من الصراعات مثل ليبيا، وموزمبيق، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومؤخرا في مالي، خاصة مع انسحاب القوات الفرنسية، حيث اتهمت فاغنر بارتكاب فظائع ضد المدنيين في هذه البلاد وغيرها.
وتقول الصحيفة إن إلقاء نظرة فاحصة على أنشطتها في السودان، ثالث أكبر منتج للذهب في القارة السمراء، يكشف إلى أي مدى استطاعت هذه المنظمة التمدد والتوسع.
ففي شرق السودان، تدعم فاغنر مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية.
وفي غرب السودان، وجدت المجموعة في هذه المنطقة مصدرا محتملا لليورانيوم، ومنصة لمرتزقتها للانطلاق في عمليات عسكرية في البلدان المجاورة.
ومنذ استيلاء الجيش السوداني على السلطة في أكتوبر، كثفت “فاغنر” شراكتها مع قائد قوات الدعم السريع والرجل الثاني بالمجلس العسكري الذي نفذ الانقلاب، محمد حمدان دقلو، والذي تصفه الصحيفة بأنه “متعطش للسلطة”.
وزار دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، موسكو في 24 فبراير الماضي، وهو اليوم الذي غزت فيه روسيا أوكرانيا.
وقال مسؤولان غربيان كبيران للصحيفة، إن فاغنر هي التي نظمت زيارة دقلو إلى موسكو، وإنه “على الرغم من أن الرحلة كانت ظاهريا لمناقشة حزمة مساعدات اقتصادية، وصل قائد قوات الدعم السريع مع سبائك الذهب على طائرته، وطلب من المسؤولين الروس المساعدة في الحصول على طائرات بدون طيار مسلحة”.
والتقى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قائد القوات شبه العسكرية السوداني، دقلو، خلال زيارة الأخير لموسكو، في فبراير.
وبعد عودته إلى السودان بأسبوع ، أعلن دقلو أنه “ليس لديه مشكلة” مع افتتاح روسيا لقاعدة على البحر الأحمر.
“مفتاح أفريقيا”
ظهرت فاغنر في عام 2014 كفرقة من المرتزقة المدعومين من الكرملين الذين دعموا حرب بوتين الأولى في شرق أوكرانيا، ثم انتشر مرتزقتها لاحقا في سوريا.
وتقول المخابرات البريطانية إن ما لا يقل عن ألف من مقاتليها عادوا للظهور في أوكرانيا في الأشهر الأخيرة.
بدأت عمليات فاغنر في السودان في عام 2017 بعد اجتماع في منتجع سوتشي الساحلي الروسي، حيث كان الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، حينها بدأ يفقد قبضته على السلطة بعد ثلاثة عقود من الحكم.
وخلا اجتماعه في سوتشي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اقترح البشير أن يكون السودان “مفتاح روسيا لأفريقيا”، مقابل مساعدات.
ووقع البشير وبوتين، حينها اتفاقات للتنقيب عن الذهب، وتفاوضا في شأن بناء قاعدة بحرية في البحر الأحمر، بحسب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
وفي غضون أسابيع، بدأ الجيولوجيون وعلماء المعادن الروس الذين عينتهم شركة “ميروي غولد” Meroe Gold، وهي شركة سودانية جديدة، في الوصول إلى السودان، وفقا لسجلات الرحلات التجارية التي حصل عليها مركز “دوسير”، وهي منظمة استقصائية مقرها لندن، تم التحقق منها بواسطة باحثين في مركز الدراسات المتقدمة. دراسات الدفاع.
ولم يقف الأمر عند وصول الجيولوجيين، للسودان، بل تبعهم مسؤولون في وزارة الدفاع الروسية، الذين أطلقوا مفاوضات بشأن قاعدة بحرية روسية محتملة على البحر الأحمر، قد تكون بوابة استراتيجية لموسكو على أفريقيا.
على مدار الثمانية عشر شهرا التالية، استوردت الشركة 131 شحنة إلى السودان، وفقا لسجلات الجمارك الروسية، شملت معدات التعدين والبناء، وكذلك الشاحنات العسكرية والمركبات البرمائية وطائرتي هليكوبتر للنقل. تم رصد واحدة من الطائرتين بعد عام في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث كانت فاغنر تحمي رئيس البلاد، بعد أن حصلت على امتيازات تعدين الماس المربحة في هذه البلاد.
لكن الروس سرعان ما وجدوا أنفسهم ينصحون البشير بشأن كيفية إنقاذ حكمه، مع اندلاع ثورة شعبية في أواخر عام 2018، حيث حثت الحكومة على إدارة حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة المتظاهرين، واقترحت إعدام بعض المتظاهرين علانية كتحذير للآخرين.
وعندما أطاح الجنرالات بالبشير ووضعوه رهن الإقامة الجبرية في أبريل 2019، غير الروس مسارهم بسرعة.
وبعد أسبوع، وصلت طائرة فاغنر، إلى الخرطوم تحمل وفدا من كبار المسؤولين العسكريين الروس، وعادت إلى موسكو مع مسؤولين عسكريين سودانيين بارزين، من بينهم شقيق دقلو، وفقا لبيانات الرحلة التي حصلت عليها صحيفة نوفايا غازيتا الروسية المستقلة.
وبعد ستة أسابيع، وبالتحديد في الثالث من يونيو 2019، شنت قوات الدعم السريع التابعة لدقلو، عملية دموية لتفريق المعتصمين المؤيدين للديمقراطية أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وسط الخرطوم، قُتل فيها ما لا يقل عن 120 شخصا خلال أسبوعين.
“في الخامس من يونيو استوردت شركة “ميروي للذهب” التابعة لفاغنر، 13 طنا من دروع مكافحة الشغب، فضلاً عن الخوذات والهراوات لشركة تسيطر عليها عائلة حمدان دقلو”، كما تظهر الجمارك ووثائق الشركة، بحسب ما تنقل الصحيفة.
في ذلك الوقت تقريبا، سعت حملة تضليل روسية باستخدام حسابات وسائط اجتماعية مزيفة إلى مفاقمة الانقسامات السياسية في السودان،.
وأغلق موقع فيسبوك 172 من هذه الحسابات بين أكتوبر 2019 ومايو 2021.
وفرضت وزارة الخزانة الأميركية، عقوبات على الشركة في عام 2020 كجزء من مجموعة من الإجراءات التي تستهدف أنشطة فاغنر في السودان.
وقالت وزارة الخزانة إن مدير “ميروي غولد” في السودان، ميخائيل بوتبكين، كان يعمل سابقا في وكالة أبحاث الإنترنت، الممولة من بريغوزين، والمتهمة بالتدخل في انتخابات الولايات المتحدة لعام 2016.
لكن هذه الإجراءات والعقوبات الأميركية، لم تتمكن من كبح جماح طموح مجموعة فاغنر عن هدفها الرئيسي، وهو الاستيلاء على حصة كبيرة من الذهب في السودان.
“منجم ذهب”
وارتفع إنتاج الذهب في السودان بعد عام 2011، عندما انفصل جنوب السودان الذي يضم معظم الثروة النفطية.
ويمر معظم إنتاج السودان من الذهب، وتهريبه عبر دولة الإمارات، بحسب الصحيفة، واصفة إياها بأنها “المركز الرئيسي للذهب الأفريقي غير المصرح به”.
وفي الفترة من فبراير إلى يونيو 2021، قام مسؤولو مكافحة الفساد السودانيون، بلجنة تفكيك نظام البشير، بتتبع 16 رحلة شحن روسية هبطت في بورتسودان من اللاذقية في سوريا. بعض هذه الرحلات الجوية تمت عبر وحدة الطيران رقم 223 التابعة للجيش الروسي، بحسب الصحيفة.
وللاشتباه في أن الطائرات كانت تستخدم لتهريب الذهب، أغار المسؤولون على رحلة واحدة قبل إقلاعها في 23 يونيو، ولكن عندما كانوا على وشك فتح شحنتها، تدخل مسؤول عسكري سوداني كبير، بحسب مسؤول كبير سابق في “لجنة تفكيك النظام السابق”، شريطة عدم الكشف عن هويته، خوفا من الانتقام منه، مؤكدا أن الطائرة نقلت إلى القسم العسكري بالمطار وغادرت إلى سوريا بعد ساعتين دون تفتيش.
وحل الجيش “لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو” التي أنشئت لتفكيك شبكة البشير داخل السودان ومكافحة الفساد، بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي.
وتقول الصحيفة إن رئيس المجلس العسكري، عبد الفتاح البرهان، رفض إجراء مقابلة للرد على ما ورد في هذا التحقيق، وقلل عضو مجلس السيادة الحاكم، ابراهيم جابر، وهو قائد في الجيش أيضا، من شأن روايات عن عمليات تهريب روسية.
وأصبح وقف تدفق الذهب الروسي أولوية بالنسبة للحكومات الغربية، وهددت وزارة الخزانة الأميركية في مارس، بفرض عقوبات على أي شخص يساعد بوتين في غسيل مبلغ 130 مليار دولار من مخزون البنك المركزي الروسي.
منذ عام 2016، فرضت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 7 حزم من العقوبات على بريغوزين وشبكته، وعرض مكتب التحقيقات الفيدرالي مكافأة قدرها ربع مليون دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله.
ولم تنجح هذه الإجراءات في وقف توسع “فاغنر”، في أفريقيا.
“من روسيا مع الحب”
ففي محاولة تبدو رائعو للحصول على الدعم السوداني، تبرع بريغوزين بـ 198 طنا من المواد الغذائية للفقراء في السودان خلال شهر رمضان العام الماضي، حيث كتب على علب الأرز والسكر والعدس “هدية من يفغيني بريغوزين”، مضافة عليها أيضا شعار يذكر بأعماق الحرب الباردة “من روسيا مع الحب”.
تضمن التبرع، 28 طنا من البسكويت، تم استيرادها خصيصا من روسيا، وتم تحويل عشر أطنان من الطعام إلى بورتسودان، حيث كانت روسيا تضغط من أجل استمالة الناس هناك لإنشاء القاعدة البحرية التي تأمل في أن تكون منصته للانطلاق والتوسع في أفريقيا عبر البحر الأحمر.
ورغم أن المساعدات تم تقديمها من خلال شركة تابعة لـ”ميروي غولد”، نفى بريغوزين في رده على أسئلة “نيويورك تايمز” علاقته بشركة “ميروي غولد”، لكنه أضاف أنه علم أن الشركة “قيد التصفية حاليا”.
وأقر بريغوزين، بالتبرع الخيري، الذي قال إنه جاء بأمر من سيدة سودانية كان لديه معها “علاقات ودية، وعملية وجنسية”، وهو تفسير ساخر من المرجح أن يتسبب في إهانة خاصة في مجتمع إسلامي محافظ.
منطقة غنية باليورانيوم ومنصة انطلاق لأفريقيا
وتتطلع مجموعة “فاغنر” لاستغلال منطقة “دافور” التي يمزقها الصراع والغنية باليورانيوم، للتوسع وتعزيز التمدد عبر الحدود إلى جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وأجزاء من تشاد، من خلال استخدام القواعد التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي.
وقال مسؤول غربي للصحيفة، إن فريقا من الجيولوجيين الروس زار هذا العام دارفور لتقييم إمكانات اليورانيوم فيها.
لكن تحركات فاغنر، بدأت تثير الشكوك والامتعاض من جانب السودانيين.
واندلعت احتجاجات عدة ضد عمليات شركة “ميروي غولد” في مناطق التنقيب ومعالجة الذهب.
واجتذبت شخصية سودانية على “يوتيوب” تُعرف باسم “البعشوم” جماهير كبيرة بمقاطع فيديو تدعي أنها ترفع الغطاء عن أنشطة فاغنر.
ويفترض المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية أن موسكو كانت وراء الانقلاب العسكري على الحكومة السودانية في أكتوبر الماضي، “حتى تتمكن من سرقة ذهبنا”، بحسب منشور على مواقع التواصل الاجتماعي انتشر مؤخرا.
الحرة