أثمن من الذهب.. تعرف على تاريخ الملح والتوابل التي لا يخلو منها منزل
أثمن من الذهب.. تعرف على تاريخ الملح والتوابل التي لا يخلو منها منزل
عندما تشعر في أثناء تناولك وجبة ما أن طعامك بحاجة إلى قليل من الملح، أو التوابل لضبط مذاقه؛ تمد يدك تلقائيًّا لمسافة قصيرة، وتضيف ما تريد إلى طعامك، ببساطة تجعل من تلك العملية غير ذات أهمية، وذلك لأن وفرة الأشياء يجعلها عادية، وجزءًا ثابتًا في مشهد يومي، ولكن بالتدقيق في تاريخ الأشياء قد تتضح لنا أمور أخرى تجعلها أكثر إثارة للاهتمام.
ويظن كثيرون أن أهم استخدامات الملح أو أن استخدامه الوحيد، هو ضبط مذاق الأطعمة؛ ولكن في الحقيقة له استخدامات صناعية عديدة ومتشعبة، مثل صناعة الورق والمطاط والأدوية وغيرها، وأن له تاريخًا مذهلًا؛ جعل منه عنصرًا مهمًا وأساسيًا في الحياة البشرية.
وبنظرة إلى الماضي؛ وتحديدًا قبل خمسة قرون، سوف تجد تاريخ الشعوب حافلًا بأطماع ونزاعات ومبادلات تجارية، تمحورت فقط حول التوابل التي كانت بمثابة كنوز غالية، تعطي قيمة أعلى ونفوذًا أكبر لمن يملكها، قبل أن تتوفر اليوم توفرًا واسعًا.
بدايات الملح في التاريخ قديمة قِدم الحضارات السابقة، وربما تسبق التاريخ المدوّن، لكن أول ظهور للملح في التاريخ؛ كان بواسطة المؤرخين الصينيين قبل 6 آلاف سنة، في أحد بحيرات الصين المسماة «يونشينج»، والتي اعتاد الصينيون حصد الملح منها بعد تبخر المياه منها في فصل الصيف.
المصريون القدماء أيضًا عرفوا الملح واستخرجوه من عدة مواقع في دلتا نهر النيل، مثل: بحيرة المنزلة وبحيرة البرلس ووادي النطرون، واستخدموه في عدة أنشطة كان أهمها حفظ الأسماك بالتمليح -كانت أول حضارة تفعل ذلك- وفي تحنيط الموتى، وحتى ضمن القرابين المقدمة للآلهة وأسموه «الملح الإلهي».
أما الرومان فكان الملح يمثل لهم ثروة كبيرة، إذ كان امتلاك الملح آنذاك للأثرياء فقط، لدرجة أن أباطرة الرومان كانوا يدفعون مرتبات الجنود في كثير من الأحيان ملحًا، حتى إن الجذر اللغوي لكلمة Salary؛ أي الراتب مشتقة من معنى الملح باللاتينية.
وجاء ذكر الملح في القصص التوراتية والإنجيلية أيضًا، وكان ذا أهمية خاصة، حتى إن اليهود إلى يومنا هذا، لا يفعلون شيئًا يوم السبت سوى الـ«ساباث»؛ الطقس الذي يلزمهم بعدم الخروج للعمل أو فعل أي شيء سوى الأكل، وغَمس الخبز في الملح، ليُذكرهم بتقديم الملح على مذبح القربان في المعبد، وفي التوراة وبحسب الرواية اليهودية؛ تحولت زوجة النبي لوط التوراتي، إلى «عمود من الملح» عقابًا من الرب على عصيان زوجها.
أما في الديانة المسيحية؛ فهناك عدة مواضع لذكر الملح في الكتاب المقدس بوصفه عنصرًا طاهرًا، وحتى وقت قريب كانت الفاتيكان تستخدم القليل من الملح على شفاه المولود أثناء طقوس تعميده، فيما أطلق المسيح على تلاميذه في الكتاب المقدس؛ «ملح الأرض»، في إشارة إلى صلاحهم، وأن الملح عنصر «أساسي وطيب» للحياة، فيما اعتاد المسيحيون التشاؤم من سكب الملح على المائدة لأن الملح أمام «يهوذا» الذي خان المسيح كان منسكبًا في لوحة دافنشي الشهيرة «العشاء الأخير» بحسب المصادر المسيحية.
منذ أن استخدم الإنسان الملح في العصور التي سبقت استخدام التبريد في حفظ اللحوم والأطعمة سريعة التلف؛ صار الملح واحدًا من العناصر الثمينة التي عرفت الحضارات والدول قيمتها؛ ويذكر التاريخ أن أول حالات فرض ضرائب على الملح، كانت في الصين بواسطة الإمبراطور الأسطوري «هاونجدي» قبل 2700 عام قبل الميلاد، ولم تكن الصين هي الدولة الوحيدة التي فعلت ذلك؛ فقد فرضت كُل من مراكز العالم القديم مثل أثينا وروما ومن بعدها فرنسا، الضرائب على الملح.
فيما سجل التاريخ الصيني احتكار المسحوق الأبيض، منذ القرن السابع قبل الميلاد، عندما أراد أباطرة الصين حماية السلعة الثمينة من الكساد التجاري، وكان الملح يمثل نسبة تتراوح بين 80 إلى 90 % من الدخل القومي للإمبراطورية الصينية في القرن الخامس قبل الميلاد، الأمر الذي مكّن الدولة، من فرض ضرائب على الملح، والتحكم في تجارته مع الدول الأخرى.
في إمبراطورية «غانا القديمة» -موريتانيا ومالي والسنغال حاليًا- والتي ازدهرت من القرن التاسع إلى الحادي عشر، واشتهرت بثرائها وامتلاكها مخزونًا كبيرًا من الذهب؛ ازدهرت أيضًا تجارة الملح الذي كان يأتي به التجار العرب، من الصين والشرق الأدنى عبر صحراء أفريقيا، ويبادلونه بالإضافة إلى الكتب والأسلحة والأقمشة، بالذهب الوفير في الإمبراطورية آنذاك.
التوابل .. كنوز الشرق
يذكر العهد الجديد -الكتاب المسيحي المقدس- أن ملكة سبأ زارت الملك سليمان «التوراتي» -النبي سليمان في القرآن- وعرضت عليه 120 حمولة ذهب مقابل بضع أنواع من التوابل والأحجار الكريمة، مما يوضح أهمية الأعشاب والتوابل بالنسبة للأزمان القديمة.
فيما استخدم القدماء المصريون، قبل الميلاد بحوالي 3500 عام، عدة أنواع من مساحيق الأعشاب لحفظ الأطعمة، وعلاج الأمراض، وفي عملية التحنيط، بالإضافة إلى اكتشاف بردية مصرية تعود إلى عام 1555 قبل الميلاد؛ تحتوي على عدة أصناف من التوابل والأعشاب المستخدمة في تحسين الصحة مثل الكّمون، والكُزبرة والشَمَر.
كما ذكرت المصادر التاريخية في الصين القديمة -عام 2700 قبل الميلاد تقريبًا- أن الصينيين القدماء استخدموا ما يزيد عن 100 نوع من الأعشاب والتوابل في الاستشفاء والتداوي، من أهمها: تابِل القِرفة الصينية Cassia الذي تشتهر به الصين.
واشتهرت حضارة سومر في بلاد ما بين النهرين- دجلة والفرات- بوفرة أنواع عديدة من التوابل، ودللت بعض الكتابات المسمارية القديمة على وجود العديد من أنواع التوابل في فترة حكم الملك «آشور بانيبال» مثل الزعتر، والكركم والزعفران والينسون. ليتجلى لنا أن أماكن وجود التوابل ووفرتها، نبعت وانتشرت في العالم من الشرق، ولأن العالم الغربي – الأوروبي تحديدًا- كان بعيدًا عن تلك المساحيق والأعشاب السحرية متعددة الاستخدامات، صارت التوابل في فترات ما بعينها سلعة حيوية، ومهمة يتوجب الحصول عليها بأي أثمان.
قبل حوالي 2500 عام، كانت عادة ما تحصل الإمبراطورية الرومانية على أنواع مختلفة من التوابل من المنطقة العربية عن طريق التجّار العرب الذين كانوا يبيعون للإمبراطورية أنواعًا مختلفة من التوابل النادرة آنذاك، مثل القرفة الصينية والقرفة العادية والقرنفل والزعفران وجوزة الطيب؛ وقد حرص العرب على إبقاء مصادر بضائعهم الثمينة سرًا، لفترات طويلة، من أجل ضمان إحكام السيطرة على تجارة التوابل.
وكان التجار العرب يقصون على الرومان واليونانيين قصصًا أسطورية، عن مصدر توابل القرفة «عِصي القرفة» تحديدًا؛ والتي بحسب روايتهم؛ كانت تأتي من أعشاش طير جارح أسطوري ضخم –الرخ- يعيش على قمم جبال شاهقة لا يستطيع بشر الوصول إليها، وتقول الأسطورة العربية التي دأبوا على حكيها، بأنهم يذبحون حمارًا ضخمًا ويتركون قطعًا كبيرة منه بجوار سفح الجبل، وعندما يخطفه الطائر الضخم ويضعه في عُشه؛ تتساقط من العش تلك الأعواد المسحورة طيبة المذاق، والتي كانوا في الحقيقة يحصلون عليها عن طريق التبادل التجاري مع الصين.
استمرت تلك الأساطير حتى القرن الأول الميلادي، عندما بدأت بعثات المستشرقين إلى بلاد العرب، وتحديدًا المستشرق والمؤرخ بليني الأكبر Pliny the Elder، الذي دحض كثيرًا من قصص التجار العرب عن ندرة تلك الأعشاب التوابل.
بعد احتكار عربي للتوابل، دام أكثر من خمسة قرون، بدأ الأوروبيون في استشعار أهمية تلك البضائع الثمينة الشحيحة التي كانت توازي قيمتها، قيمة الذهب؛ والتي اكتشفوا لاحقًا مصادر أخرى لها غير التجارة العربية مثل آسيا والشرق الأدني، وصار من المحتم أن يجد العرب آنذاك بدائل غير الصور الأولية لتلك التوابل والأعشاب؛ فبرعوا لقرون طويلة في صناعة العطور واستخراج العقاقير من الأعشاب، وكانت أحد أهم الأسباب في ازدهار الحضارة الإسلامية في المنطقة العربية والشام.
في آواخر القرن الـ 14 ميلادي، نشطت حركة الاستكشافات الأوروبية على يد مستكشفين مشاهير، مثل البرتغالي «كريستوفر كولومبس» الذي ارتحل في الأساس إلى المحيط محاولًا إيجاد طريق غير بري للوصول إلى الهند، من أجل تجارة الحرير والتوابل، ولكنه اتخذ طريق المحيط عام 1492 ليصل في النهاية إلى شواطئ جزر الكاريبي وليس أمريكا الشمالية كما هو شائع.
وهناك، وجد الكثيرين من السكان الأصليين لتلك الجزر، يحصدون الملح من ماء البحر المتبخّر، الأمر الذي كان بمثابة أهم مكاسب الرحلة التي جعلت من البرتغال فيما بعد قوة تجارية كبيرة، مما انعكس فيما بعد على الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعد ثاني أكبر مصنّع للملح عالميًا بعد الصين حتى عام 2016.
على الجانب الآخر وصل المستكشف البرتغالي «فاسكو دي جاما» عام 1498 إلى الشاطئ الجنوبي الغربي للهند مرورًا بالساحل الجنوبي الأفريقي، وعاد «دي جاما» بعدها إلى البرتغال محملًا بأثمن البضائع والتي كانت من بينها جوزة الطيب، والقرنفل، والقرفة، والزنجبيل، والأهم منهم جميعًا: الفلفل الأسود، الذي صار فيما بعد من أثمن التوابل في أوروبا خلال العصور الوسطى.
اليوم وبعدما صار الملح والتوابل، من أكثر السلع توفرًا، يصعب على الكثير منا أن يتذكر تاريخهم الحافل، ولكننا الآن نستطيع على الأقل أن ننظر إليهم نظرة تختلف عما كانت عليه من قبل؛ نظرة تشتمل العديد من التفاصيل والاستخدامات لتلك المساحيق التي شكلت جزءًا كبيرًا من تاريخ الإنسان، وصارت اليوم قرب أطراف أناملنا وقتما نريد.
مواقع عربية