منوعات

الشيخ الرئيس.. ابن سينا حكيم الشرق وأبو الطب الحديث في الغرب

في ظل امتداد السلالة السامانية الفارسية التي حكمت رقعة كبيرة من العالم الإسلامي من خراسان الكبرى حتى بلاد ما وراء النهر، وُلِد أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا في عام 970م في قرية أفشنة (في أوزباكستان اليوم) حيث تنُسب إليها والدته، أما أبوه فكان رجلا من مدينة بلخ (في أفغانستان اليوم) ترك بلاده بغية التكسب والعمل.1

عمل والد ابن سينا بعد وصوله إلى موطنه الجديد في القطاع الإداري بقرية من ضياع بخارى، قبل أن ينتقلوا جميعا إلى بخارى نفسها ليمكثوا بها، حيث كانت عاصمة السامانيين آنذاك، وقد جعلوها مركزا ثقافيا لقبائل الترك والأوزبك بالتحديد، فنالت شهرة واسعة، كما ساهم في ازدهارها تمركزها على أحد الطرق الرئيسية لطريق الحرير الذي يبدأ من الصين ويمّر بمدينتي سمرقند ومَرْو وغيرهما.

وقد بلغت بخارى أوج عطائها وتفردها في ذلك العهد حينما وُضِعت جنبا إلى جنب بمقارنتها بعاصمة العباسيين بغداد في التحضر والرُقي والعلوم، فنال ابن سينا من علمها وانتفع، واستزاد بخير زادها، فأتقن علم القرآن الكريم وحفظ من أصول الدين وتعلّم الجبر وحساب الهندسة وهو ذو 10 أعوام.

“لم ينم ليلة واحدة بكمالها”.. بداية نهِمة في بخارى

بدأ ابن سينا يتردد على الحكيم أبي عبد الله الناتلي يتعلم منه، فقرأ عليه من كتاب “إيساغوجي” (Isagoge)، وهو مدخل في علم المنطق الإغريقي، ثمّ قرأ لإقليدس وبطليموس في الرياضيات، فسبق معلمه علما وفاقه، حتى أنّه كان يشرح رموزا وإشكالات لم يكن معلمه يدركها من قبل، كما يوضح ابن سينا في سيرته الذاتية.

وبعدها قرأ في علم الطب، وبحث في أنفَس الكتب، ثمّ بدأ يعمل بما تعلمه حبا لا تكسبا. وقد وصف قاضي القضاة والمؤرخ شمس الدين بن خلكان (1211-1282م) ابن سينا قائلا: وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح عديم القرين فقيد المِثل، وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلّى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مُغلقها له.2

لم يتم ابن سينا العشرين من عمره حينما تدارس في علوم مختلفة، إلا أنه تعلّق بمجالين وكرّس وقته لهما دون غيرهما بعدما أخذ يطوف البلدان ويتصل بالأمراء والحكام في غرض الاستشارة الطبية والعلاج، فكان ينتهز الفرصة ويتردد على مكتباتهم الخاصة النفيسة، فيلقى نفسه أمام كمٍ هائل من العلوم، وكان لعلمي الطب والفلسفة الأولوية القصوى لديه.

ثورة الترجمة.. ثروة السلاطين المخبأة بين ثنايا الكتب

لعّل الثورة العلمية التي طرأت في العصر العباسي وحركة الترجمة في بغداد ساهمت وأحدثت تأثيرا مباشرا على بقية مدن العالم الإسلامي، فكانت الترجمة من جميع لغات الأمم المجاورة إلى اللغة العربية، وكذلك من شتى أفرع العلوم من رياضيات وعلم فلك وفلسفة وغيره، فكما كانت تزخر مكتبات بغداد متمثلة ببيت الحكمة بالمؤلفات والمجلدات، فقد كانت تزخر دور وقصور السلاطين والأمراء بذات التراجم والكتب في مختلف بقاع العالم الإسلامي.

وكانت مكتبة الأمير نوح بن نصر الساماني (964-997م) إحدى تلك المكتبات الملكية التي احتوت على علوم فريدة تفرّد بها ابن سينا لنفسه، فجمع منها ثمرتها، ثمّ ما لبثت أن اضطرمت بها النار واحترقت بما فيها من كنوز علمية، فاتهمه أناس بحرقها لكي لا يطلع أحد على علومها سواه.

وكما يقول أبو علي بن سينا على لسانه بأنّه عندما بلغ الثماني عشرة سنة فرغ من هذه العلوم كلها التي أوَتها المكتبة الملكية، ثمّ إنه بدأ بالكتابة والتأليف، فكتب كتاب المجموع الذي مرّ به على سائر العلوم سوى العلم الرياضي، ثمّ ألف كتاب الحاصل والمحصول قرابة عشرين مجلدا، فأبهر كل من سمع به بوفرة معرفته وغزارة كتابته، وقيل إنه كتب حوالي 450 كتابا، لكن 240 كتابا منها فقط نجت ووصلت إلينا.3

“لمّا غلا ثَمني عَدِمتُ المشتري”.. الكاتب الرحالة

ذاع صيت ابن سينا وعرفه الناس بكنيته أكثر من اسمه، كما يذكر المؤرخ والطبيب جمال الدين القفطي (1172-1248) في كتابه “إخبار العلماء بأخبار الحكماء”، فكانت كنيته أبو علي، وأما لقبه فكان ابن سينا، وقد حظي بعدة ألقاب لعل أشهرها على الإطلاق “الشيخ الرئيس”، وأما في أوروبا فلُقِب بـ”أبو الطب الحديث”.

ولم تكن الفترة التاريخية التي ظهر بها الشيخ الرئيس تنعم بالسلام، فالصراع بين السامانيين والغزنويين في عهده بلغ ذروته، مما دفعه إلى التنقل بين المدن المضطربة كثيرا، كما أن الظروف الشخصية غير المواتية والحالة المرَضية كانت تعقب عليه من حين إلى آخر، ففي إحدى رحلاته نحو دهستان (في إيران اليوم) مرض مرضا شديدا وعاد على إثره إلى جرجان (في إيران اليوم)، ثمّ أرسل إليه أبو عبيد الجوزجانيّ، وهو أحد تلاميذه وأكثرهم قربا منه، فأنشده في حاله قصيدة، وفيها البيت القائل:4

لمّا عَظُمتُ فَليسَ مِصرٌ واسِعي
لمّا غلا ثَمني عَدِمتُ المُشتري

لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون كاتبا نهما مقتدرا، وأكثر العلماء إنتاجية على مر العصور، فتشير بعض المصادر إلى أنّ الشيخ الرئيس كتب جزءا كبيرا من أعظم أعماله كتاب الشفاء دون الاستعانة بأي مصادر في ليلة واحدة، ما يقارب مئة صفحة.

كما أنه كان يستغل أوقات رحلاته في الكتابة على صهوة جواده، وفي أثناء استراحات السفر، كما حدث معه عندما رافق علاء الدولة، حاكم الكاكويد محمد بن رستم دوشمانزيار، في إحدى حملاته العسكرية.5

“الشفاء”.. وصفة علاج الروح على نهج أرسطوطاليس

تعددت أعمال ابن سينا وانتشر منها الكثير وتُرجم، لكن كتابين نالا شهرة ساحقة دون غيرهما، الأول كتاب “الشفاء” الذي حاول به ابن سينا أن يضع مفهوما شاملا للفلسفة على غرار ما كان، على الرغم من أن عنوان الكتاب يوحي إلى المجال الطبي أكثر، لكنه ليس كذلك.

لقد أطلق الشيخ الرئيس عليه اسم الشفاء قاصدا معالجة جهل الروح، وحاكى به منهج أرسطوطاليس الذي كان يُعد بمثابة المعلم الأول له -كما يقول- في صياغة فلسفته، مضيفا على ذلك الصبغة الإسلامية فيما يتعلق بمسائل الوجود ووحدانية الخالق، وشمل عمله هذا 22 مجلدا، توزعت على أربعة علوم هي: المنطق، والعلوم الطبيعية، والرياضيات، والميتافيزيقيا.6

وقد اعتمد بشكل رئيسي على إعادة الإنتاج والمراجعة والتعديل والتقديم والتعليق على أعمال أرسطو، وكذلك بطليموس وعلماء مسلمين كالفارابي والكندي والبيروني، واستغرق إتمام الكتاب قرابة 8 سنوات، من عام 1020 إلى عام 1027 كما يذكر تلميذه الجوجزاني الذي تكفل بأمر الكتابة، وقد دامت علاقته مع الشيخ الرئيس 25 سنة.

“القانون في الطب”.. ثالث أبقراط وغالينوس في الفن الروماني

أما العمل الثاني فكان كتاب “القانون في الطب” الذي كان أشمل الكتب الطبية على الإطلاق في ذلك العصر، فلقي رواجا على نحو واسع بعد حركة الترجمة إلى اللاتينية في بداية القرن الثاني عشر، فشكّل الأساس الذي استندت عليه صياغة المواد الأكاديمية الطبية في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر.

ولم تكن بداية الترجمة معنية بوصول العلوم إلى بلاد الغرب في بادئ الأمر، فالعلماء الناطقون بالعربية من المسيحيين واليهود اهتموا بترجمة العلوم لمجتمعاتهم القاطنة داخل البلاد المسلمة، وأشهر المترجمين على سبيل المثال المترجم اليهودي موسى بن ميمون، وكذلك بار هيبراوس رئيس أساقفة بلاد فارس.

ثمّ انتقلت العلوم بعد الحرب الصليبية الرابعة إلى أوروبا، وقد كان المجتمع اليهودي في أوروبا أكثر تقبلا للفيسلوف المسلم ابن رشد على حساب الشيخ الرئيس، على نقيض نظيره المجتمع الروماني الكاثوليكي الذي أجلّ ابن سينا، حتى أنهم وضعوه ضمن خانة العظماء الأطباء الثلاثة كما تصوره إحدى اللوحات الفنية الأثرية، ويظهر بها الطبيب اليوناني أبقراط الكوسي (Hippokrátēs) والطبيب الإغريقي جالينوس (Galenus)، ويتوسطهما الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا.7

“الرجل العائم في الفضاء”.. نظرية انفصال الروح عن الجسد

لا يخفى على ابن سينا أنه قد تبنى كثيرا من نظريات أرسطو الفلسفية، ولم يكتف بذلك، بل قام بتنقيح وتصحيح بعضها، وقد عُرِف بمحاولة إثباته مفهوم انفصال الروح عن الجسد، فدفعه ذلك إلى القيام بأبدع استنباطاته الفلسفية بتجربة فكرية تُعرف بـ”الرجل العائم في الفضاء”.

يفترض ابن سينا وجود إنسان بالغ عاقل منفصل تماما عن المحيط، ولا تربطه به أي صلة حسية، فيكون معلقا طليقا في الفضاء أو الفراغ إن صح التعبير، لا يرى ولا يسمع ولا يشم ولا يلمس شيئا، ثمّ إن جميع أطرافه تكون متباعدة عن بعضها، فلا تحس اليد بالأخرى. وفي ظل هذه الظروف يتساءل الشيخ الرئيس هل بمقدور هذا الإنسان أن يدرك ذاته بغياب المحسوسات أو الإدراكات الخارجية، فيجيب بـ”لا شك”، فالإنسان قادر على إثبات وجود ذاته مع غياب قدرته على إثبات ماهية جسده وشكل يده وطول قدمه ووزنه.

يقول ابن سينا من كتابه “الإشارات والتنبيهات”: يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا، ولكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى في هواء أو خلاء هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته فلا يشك في إثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا. ولو أنه أمكنه في تلك الحال أن يتخيل يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته ولا شرطا في ذاته؛ وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت، والمقر به غير الذي لم يقر به، فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم يثبت.8

وتلتقي رؤوى هذه الفلسفة مع فيلسوف عصر التنوير الأوروبي الفرنسي “رينيه ديكارت” القائل: “أنا أفكر.. إذا أنا موجود”. بإشارة إلى فصل النفس وتمييزها عن الجسد.

“واجب الوجود”.. تنقيح الفلسفة الأرسطية حول وحدانية الخالق

عودة مجددا إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو ومذهبه الفلسفي في إثبات وجود خالق للكون، إذ يخالف رؤية الفيلسوف الإغريقي هرقليطس -من فلاسفة عصر ما قبل سقراط- في أنّ الكون وكل ما فيه في حركة دائمة متناغمة، فبدلا من ذلك يشير أرسطو إلى أنّ ليس كل الأجسام في الكون في حركة مستمرة، وأن ثمة دوافع للحركة دائما، وأشار إلى وجود الحركة بالسببية والحتمية، فالكون عبارة عن سلسلة طويلة من الحركات ينشأ بعضها عن بعض.

ثمّ يذكر في كتابه الفيزياء أنّه “لكل حركة مُحرّك لها”، وأنه لا بد من وجود مُحرّك لا يتحرك في نهاية المطاف، أو في بدايته إن صح التعبير، وكما أطلق عليه اصطلاحا العّلة الأولى أو المسبب الأول (Unmoved mover) كناية عن الخالق.

ولكن الشيخ الرئيس أراد تنقيح هذا الاستدلال للاستشهاد على وجوب وحدانية خالق مضيفا على ذلك رؤية فلسفية وكذلك منطقية، وأطلق على نظريته “واجب الوجود”. فيقول ابن سينا نقلا من أطروحاته في كتاب الشفاء: لا شك أن هنا وجودا، وكل وجود إما واجب وإما ممكن؛ فإن كان واجبًا فقد صحَّ وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكنا فإنا نوضِّح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود.

فيرى بذلك أن إدراكنا بالوجود النسبي هو سبيل في إدراك الوجود المطلق، أو بتعبير آخر معرفتنا للوجود الممكن يقودنا إلى معرفة واجب الوجود بشكل تلقائي.

ثم يقول: أما الذي هو واجب الوجود بذاته فهو الذي لذاته، لا لشىء آخر، أي شيء كان، ويلزم محال من فرض عدمه.10

“البراهين الخمسة”.. بصمات ابن سينا على علم اللاهوت

لقد كان لابن سينا أثر بالغ على أشهر المفكرين في عصره وعلى من لحقه، ولقيت فلسفته انتشارا كبيرا لدى فلاسفة الغرب مثل اللاهوتي “توماس أكيناس” (Thomas Aquinas) أحد أشهر المفكرين الإيطاليين في القرن الثالث عشر، وهو الذي قدم مبرهنته المنطقية الشهيرة “البراهين الخمسة” (Quinque viae) للاستدلال على وجود إله، وفيها استعان بنظرية “واجب الوجود”، وأطلق عليها حجة الوجود نسبة إلى الشيخ الرئيس.11

وقد استطاع ابن سينا في مسيرته البحثية أن يوفق بين عدة فلسفات مرّ عليها في نظام علمي متماسك، معتمدا على ذاته في التحليل والتبيين، ومستعينا بفلاسفة مسلمين سبقوه كالكندي والفارابي، مع استناده على الفيزياء والميتافيزيقا الأرسطية، مرورا بالفكر الأفلاطوني، وكذلك مستعينا بالخارطة الكونية التي وضعها بطليموس، مع تفنيد ما رآه مغالطا والتأكيد على ما توافق مع رؤيته.

وكما كان حاله دائما، فقد أنهكته ظروفه الصحية لفترات متقطعة، وقد كانت سبب وفاته بعد تعرضه لوعكة في الأمعاء بشكل مباغت في أثناء مرافقته لحملة عسكرية في عام 1037. وقد أكمل بعده طالبه المخلص الجوزجاني كتابة ما بدأ به معلمه.

المصدر: الجزيرة

Nasser Khatip

محرر مقالات_سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى