قهر التتار وطعنه الرفاق.. ماذا تعرف عن قائد معركة “عين جالوت” الذي أطلق عليه لقب “الملك المظفر”؟
هو الملك المظفَّر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي سلطان مصر المملوكي، يُعتبر أبرز ملوك دولة المماليك على الرغم أن فترة حكمة لم تدم سوى عام واحد، لأنه استطاع أن يُوقف زحف المغول الذي كاد أن يقضي على الدولة الإسلامية، وهزمهم هزيمة منكرة في معركة عين جالوت، ولاحق فلولهم حتى حرَّر الشام
وُلد قطز أميرًا مسلمًا في ظلِّ الدولة الخوارزمية، فهو محمود بن ممدود ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وُلِدَ في بلاد خوارزم شاه لأب اسمه ممدود، وأُمُّه التي كانت أخت الملك جلال الدين بن خوارزم شاه
وكان جدُّه من أعظم ملوك خوارزم شاه، وقد دخل جدُّه في حروب طويلة مع جنكيزخان ملك التتار، إلَّا أنه هُزم وتولَّى نجم الدين الحُكْمَ، وكانت بداية حكمه رائعة، وانتصر على التتار في كثير من المعارك، إلَّا أنه بعد ذلك قام بعدَّة سقطات إلى أن وصل التتار إلى عاصمة حُكْمِه
وقد وُصف قطز بأنه كان شابًّا أشقر، كثَّ اللحية، بطلًا شجاعًا عفًّا عن المحارم، مترفِّعًا عن الصغائر، مواظبًا على الصلاة والصيام وتلاوة الأذكار، تزوَّج من بني قومه، ولم يخلِّف ولدًا ذكرًا؛ بل ترك ابنتين لم يسمع عنهما الناس شيئًا بعده
قام الملك عز الدين أيبك بتعيين قطز نائبًا للسلطنة، وبعد أن قُتل الملك المعز عز الدين أيبك على يد زوجته شجر الدر، وقُتلت من بعده زوجته شجر الدر على يد جواري الزوجة الأولى لأيبك، تولَّى الحكم السلطان نور الدين علي بن أيبك، وتولَّى سيف الدين قطز الوصاية على السلطان الصغير، الذي كان يبلغ من العمر 15 سنة فقط
وأحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم اضطرابات كثيرة في مصر والعالم الإسلامي، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قِبَل بعض المماليك البحرية؛ الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع مَنْ هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وتزعَّم أحد هؤلاء المماليك البحرية واسمه سنجر الحلبي الثورة
وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك، فاضطر قطز إلى القبض عليه وحبسه، كذلك قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ وذلك ليلحقوا بزعمائهم الذين فرُّوا قبل ذلك إلى هناك أيام الملك المعز
ولمَّا وصل المماليك البحرية إلى الشام شجَّعُوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، واستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء، ومنهم مغيث الدين عمر أمير الكرك، الذي تقدَّم بجيشه لغزو مصر، وخرج له قطز فصدَّه عن دخول مصر
كان قطز محمود بن ممدود بن خوارزم شاه يُدير الأمور فعليًّا في مصر، ولكن الذي كان يجلس على كرسي الحكم سلطان طفل، فرأى قطز أن هذا يُضعف من هيبة الحُكْمِ في مصر، ويُزَعْزع من ثقة الناس بملكهم، ويُقَوِّي من عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلًا
اتَّخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، وتولَّى عرش مصر، حدث هذا الأمر في 24 من ذي القعدة 1259، أي قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام، ومنذ أن صَعِد قطز إلى كرسي الحكم وهو يُعِدُّ العُدَّة للقاء التتار
عندما تولَّى قطز الحكم كان الوضع السياسي الداخلي متأزِّمًا للغاية، فقد جلس على كرسي الحُكْم في مصر خلال عشرة أعوام تقريبًا ستة حُكَّام، وهم الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولده توران شاه، شجر الدر، الملك المعز عز الدين أيبك، السلطان نور الدين علي بن أيبك، وسيف الدين قطز. كما كان هناك الكثير من المماليك الطامعين في الحُكْم، ويقومون بالتنازُع عليه
كما كانت هناك أزمة اقتصادية طاحنة تمرُّ بالبلاد من جرَّاء الحملات الصليبية المتكرِّرة، ومن جرَّاء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جرَّاء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي. فعمل قطز على إصلاح الوضع في مصر خلال إعداده للقاء التتار
قطع قطز أطماع المماليك في الحُكْم عن طريق توحيدهم خلف هدف واحد، وهو وقف زحف التتار ومواجهتهم، فقام بجمع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وقال لهم في وضوح، إني ما قصدت إلَّا أنْ نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير مَلِكٍ، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدوَّ، فالأمرُ لكم أقيموا في السلطة مَنْ شئتم
فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك، كما قَبِلَ قطز الصلح مع بيبرس الذي أرسل الرُّسُل لقطز كي يَتَّحدا للتصدَّي لجيوش المغول التي كانت قد دخلت دمشق آسرةً الناصر يوسف مَلِكَها، وعظَّم قطز من شأن بيبرس كثيرًا، وأنزله دار الوزارة، وأقطعه قليوب وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المُقَدَّمين، بل وجعله على مُقَدِّمَة الجيوش في معركة عين جالوت.
واستعدادًا للمع..ركة الفاصلة مع الت…تار فقد راسل قطز أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر، أمَّا المغيث عمر صاحب الكرك وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقد فضَّلَا التحالف مع المغول والخيانة، وأمَّا الملك السعيد حسن بن عبد العزيز صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضًا قاطعًا، بل انضمَّ بجيشه إلى قوَّات التتار ليُساعدهم في محاربة المسلمين
اقترح قطز أن تُفرض على الناس ضرائب لدعم الجي..ش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون سوى الزكاة، ولا يدفعها إلَّا القادر عليها، وبشروط الزكاة المعروفة، أمَّا فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلَّا في ظروف خاصة جدًّا
فقطز يقترح الأمر، وينتظر رأي العلماء في هذه القضية، ومع أن الغاية نبيلة، والمال المطلوب سوف يجهّز به جيش للقتال في سبيل الله، فإن الشيخ العزّ بن عبد السلام كان عنده تحفظ كبير على هذا القرار، فلم يوافق عليه إلا بشرطين، والشرطان عسيران جداً
ولا بُدَّ من وجود سند شرعي يُبيح ذلك؛ فاستفتى قطز الشيخ العز بن عبد السلام فأفتى قائلاً، إذا طرق العد..و البلاد وجب على العالم كلهم قتال..هم، وجاز أن يُؤخذ من الرعية ما يُستعان به على جهازهم؛ بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كلٌّ منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامَّة، وأمَّا أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا
هكذا أعلنها العز بن عبد السلام: إنه لا يجوز فرض ضرائب إلا بعد أن يتساوى الوزراء والأمراء مع العامة في الممتلكات، ويجهز الجيش بأموال الأمراء والوزراء، فإن لم تكفِ هذه الأموال جاز هنا فرض الضرائب على الشعب بالقدر الذي يكفي لتجهيز الجيش، وليس أكثر من ذلك
قَبِلَ قطز كلام الشيخ العز بن عبد السلام، وبدأ بنفسه، فباع كلَّ ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع، وتمَّ تجهيز الجيش كله
اكتشف المسلمون في مصر اكتشافًا عجيبًا، لقد اكتشفوا أن مصر غنية جدًّا، وأن البلد به أموال ضخمة على الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد امتلأت جيوب كثير من الوزراء والأمراء بأموال البلد الهائلة
وأصبحت ثروات بعضهم تساوي ميزانيات بعض الدول، لقد كانت ثروات بعضهم تكفي لسداد الديون المتراكمة على البلد.. وكانت ثروات بعضهم تكفي لسد حاجة الفقراء والمساكين.. وتكفي لإصلاح الوضع الاقتصاد
وللأسف الشديد فإن كثيرًا من هذه الأموال قد دخلت جيوب الأمراء والوزراء بطرق غير مشروعة، وبغير وجه حق؛ فهذا يختلس، وهذا يرتشي، وهذا يظلم، وهذا يأخذ نسبة، وهذا ينفق في سفه، وهذا يعطي من لا يستحق… وهكذا بُددت أموال الدولة العظيمة مصر
وأصبحت مصر دولة فقيرة نامية بينما إمكانياتها تسمح لها بأن تكون من دول الصدارة، ثم جاء قطز وبدأ في عملية تنظيف منظمة للبلد! تنظيف لليد والقلب
أخيرًا اصطلح القائد مع شعبه بعد سنوات من القطيعة بين الحكام والشعوب، فكانت النتيجة تجهيز جي..ش عظيم مهيب غايته نبيلة وأمواله حلال ودعاء الناس له مستفيض وإعداده جيد
التقى الفريقان في المكان المعروف باسم عين جالوت في فلسطين في 25 من رمضان 658هـ= 3 سبتمبر 1260م، وكانت الحرب ضاريةً؛ أخرج التتار فيها كلَّ إمكانياتهم، وظهر تفوُّق الميمنة التترية التي كانت تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية
وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفُّون حول الجيش الإسلامي
كان قطز يقف في مكان عالٍ خلف الصفوف يُراقب الموقف بكامله، ويُوَجِّه فِرَق الجيش إلى سدِّ الثغرات، ويُخَطِّط لكلِّ كبيرة وصغيرة، وشاهد قطز المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بآخر الفرق النظامية من خلف التلال، ولكنَّ الضغط التتري استمر
فما كان من قطز إلَّا أن نزل ساحة القتال بنفسه؛ وذلك لتثبيت الجنود ورفع روحهم المعنوية، ألقى بخوذته على الأرض تعبيرًا عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة وا إسلاماه
وقات..ل قطز مع الجيش قتالًا شديدًا، حتى صَوَّب أحدُ التتر سهمه نحو قطز فأخطأه، ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز، فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجَّل قطز على الأرض، وقاتل ماشيًا لا خيل له، ورآه أحد الأمراء وهو يُقاتل ماشيًا، فجاء إليه مسرعًا، وتنازل له عن فرسه، إلَّا أنَّه امتنع، وقال، ما كنت لأحرم المسلمين نفعك
وظلَّ يُقات..ل ماشيًا إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية، وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له، لمَ لمْ تركب فرس فلان، فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك
فقال قطز، أمَّا أنا كنت أروح إلى الجنة، وأمَّا الإسلام فله ربٌّ لا يُضيعه، وقد قُتل فلان وفلان وفلان حتى عدَّ خلقًا من الملوك (مثل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) فأقام الله للإسلام مَنْ يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام».
وانتصر المسلمون في عين جالوت ولاحق قطز فلولهم وطَهَّر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون بضعة أسابيع، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، وفُتحت دمشق
وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفُرقة؛ وذلك منذ وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخُطب لقطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والفلسطينية والشامية، حتى خُطب له في أعالي بلاد الشام والمدن حول نهر الفرات
وبدأ قطز يُوَزِّع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين، وكان من حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضًا من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث الفتنة في بلاد الشام، ولم يخشَ قطز من خيانتهم، وخاصة بعد أن تبيَّن لهم أنه لا طاقة لهم بقطز وبجنوده الأبرار
قَتَ..ل ركن الدين بيبرس السلطان المظفر قطز في أكتوبر 1260م أثناء عودة الجيش إلى مصر، والسبب أن السلطان قطز قد وعد بيبرس بمنحه حُكْم حلب بعد انتهاء الحرب، وبعد ذلك فَكَّر السلطان قطز بالتخلِّي عن السلطنة وإكمال حياته في طريق الزهد وطلب العلم وتَرْكِ قيادة البلاد لقائد جيوشه ركن الدين بيبرس، وبالتالي تراجع عن منح بيبرس ولاية حلب؛ بما أنه سيُصبح ملكًا للبلاد كلها، فاعتقد بيبرس أن السلطان قطز قد خدعه
وبدأ رفاقُ بيبرس يُصَوِّرُون له ذلك ويُحَرِّضُونه على الخروج على السلطان وقتله، فلمَّا قفل قطز من استعادة دمشق من يد التتار أجمع المماليك البحرية ومنهم بيبرس أن يغتالوه في طريقهم لمصر؛ فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيَّد، وسارت الرواحل على الطريق فاتَّبَعُوه، وتقدَّم إليه أنز الأصبهاني شفيعًا في بعض أصحابه، فشفَّعه فهَوَى يُقَبِّل يده فأمسكها، وعلاه بيبرس بالسيف فخرَّ صريعًا لليدين والفم، ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه، ثم حُمل قطز بعد ذلك إلى القاهرة فدُفن بها