قد يلحق أضراراً جسيمة.. الحطام المداري الناجم عن الانفجارات يمثل خطورة كبيرة ويبقى في الفضاء لفترات طويلة
أثارت روسيا ضجة كبيرة على الساحة الدولية في نوفمبر 2021 بعد إجرائها لإحدى التجارب التي قامت فيها بإطلاق صاروخ اعتراضي مضاد للأقمار الصناعية استهدف قمرًا صناعيًّا عسكريًّا معطلًا، وقد أسفر الارتطام المتعمد عن تحطُّم القمر الصناعي وتناثُره إلى أكثر من 1500 قطعة يمكن تتبُّعها.
يمثّل هذا الحطام الفضائي خطورةً كبيرة، إذ من الممكن أن يصطدم بمحطة فضائية في أثناء دورتها حول الأرض ويُلحق بها أضرارًا جسيمة، على غرار المشاهد الافتتاحية من فيلم «جرافيتي» Gravity، كما قد يتسبب الحطام الناتج عن هذه التجربة في إسقاط واحد من عشرات الأقمار الصناعية التي تعمل على رصد الطقس والمناخ، ناهيك بالأقمار الصناعية التي تنقل بيانات حيوية وخطيرة تتعلق بالأمن القومي، وتلك التي تؤدي خدماتٍ محوريةً أخرى للبشر على كوكب الأرض، كذلك يمكن أن يهدد الحطام عشرات الآلاف من الأقمار الصناعية الجديدة المزمَع إطلاقها خلال السنوات القادمة، والتي تهدف إلى تعزيز مجالات الاقتصاد الفضائي الذي شهد صعودًا واضحًا مؤخرًا، مثل تشغيل الإنترنت السريع وأنشطة فضائية أخرى على مستوى العالم، كذلك فإن بعض أجزاء ذلك الحطام المداري يستمر وجودها في الفضاء لفترات طويلة، ما يعني أنها قد تمثل خطرًا على أي جسم يتم إطلاقه على الارتفاع نفسه لسنوات قادمة.
إذًا فقد حان للمجتمع الدولي أن يضع حدًّا لتجارب الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، ولكن ذلك لن يكون مهمةً سهلة.
كانت الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية -ولا تزال- إحدى ساحات التنافس بين القوى العظمى منذ بداية عصر الفضاء، وعلى سبيل الإنصاف، لا بد من القول بأن روسيا ليست الدولة الوحيدة التي أجرت تجارب خلّفت كمياتٍ هائلةً من الحطام المداري.
فقد أجرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أكثر من خمسين تجربة لأسلحة مضادة للأقمار الصناعية (ASAT) في الفضاء بين عامي 1959 و1995، اصطدمت فيها عشرات الأسلحة بالأقمار الصناعية، ما خلّف أكثر من 1200 قطعة من الحطام المداري يمكن تتبُّعها، والآن وبعد مضي عشرات السنين، لا يزال هناك ما يقرب من 400 قطعة من هذا الحطام يمكن تتبُّعها في الفضاء، ناهيك بكميات هائلة من القطع متناهية الصغر التي لا تزال تمثل خطورةً كبيرة؛ إذ لا يمكن تتبُّعها باستخدام الأنظمة الحالية نظرًا لصغر حجمها، كما أجرت الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند 26 تجربةً أخرى لأسلحة مضادة للأقمار الصناعية في الفضاء منذ عام 2005، أسفرت خمس منها عن تدمير أقمار صناعية وخلَّفت وراءها أكثر من 5300 قطعة من الحطام المداري يمكن تتبُّعها، كما أنها ستبقى موجودة في الفضاء لعشرات السنين.
وقد جاءت التجربة التي أجرتها روسيا مؤخرًا نتاجًا لسبعة أعوام من الاختبارات التي أُجريت على أحد الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية؛ إذ أطلقت صاروخًا اعتراضيًّا أرض-فضاء يسمى «نودول» Nudol أو «إيه-235» A-235، استهدف قمرًا صناعيًّا حقيقيًّا، حيث وقع الاصطدام على ارتفاع حوالي 480 كيلومترًا، وجدير بالذكر أن كلًّا من المحطة الفضائية الدولية ومحطة «تيانجونج» Tiangong الفضائية الصينية تدوران على ارتفاع حوالي أربعمئة كيلومتر.
وهكذا، لا يمكن إغفال احتمالات وقوع كوارث مروعة من جرَّاء هذه التجارب، ولكن للأسف لم يحرز صانعو السياسات نجاحًا كبيرًا في منع مثل هذه التجارب، ناهيك بالتصدي للقضية الأوسع الخاصة بتسليح الفضاء بصفة عامة، ولا يزال المجتمع الدولي يسعى منذ عقود إلى الحد من تطوير أو استخدام الأسلحة الفضائية، مثل الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، من خلال المحادثات التي تُجريها الجمعية العامة للأمم المتحدة (UNGA) في إطار ما يسمى باتفاقية «منع سباق التسلح في الفضاء» (PAROS)، وقد ظلت قضية تسليح الفضاء بندًا سنويًّا ضمن جدول أعمال «الجمعية العامة للأمم المتحدة» منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أنها صارت مع الوقت مجرد موضوع للتصويت الشكلي لا تتبعه إجراءات فعلية واضحة.
أما المنظمة الأممية الكبرى الأخرى التي يمكن أن تعقد نقاشًا مثمرًا حول الحد من تسليح الفضاء فهي منظمة «مؤتمر نزع السلاح» في مدينة جنيف السويسرية، والتي نراها الآن غارقةً في الخلاف حول ماهية التهديد الحقيقي للفضاء، ترى روسيا والصين وحلفاؤهما ضرورة التركيز على حظر نشر أي أسلحة فضاء- أرض في الفضاء، بينما تقول الولايات المتحدة وحلفاؤها إن الخطر الحقيقي يتمثل في إجراء نشاطات تهديدية في الفضاء، مثل الاقتراب الشديد من نطاق قمر صناعي لدولة أخرى دون تنسيق مسبق، أو تعمُّد تخليف كميات كبيرة من الحطام، علاوةً على ذلك، فقد انقسم الجانبان حول طبيعة ما ينبغي الاتفاق عليه، وهل من الأجدى أن يأتي على هيئة معاهدة ملزمة قانونًا أم في صورة مجموعة من المبادئ التوجيهية والأعراف السياسية الاختيارية.
وعلى الرغم من هذه الخلافات التي حالت دون فرض الحظر على تجارب الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية حتى الآن، فربما يكون هناك بصيص من الأمل؛ ففي ديسمبر 2020، أصدرت «الجمعية العامة للأمم المتحدة» القرار رقم 75/36، الذي دعت فيه الدول لتقديم تقارير حول أكثر التهديدات إلحاحًا لأمن الفضاء من وجهة نظرها، مصحوبًا بتوصيات بشأن الخطوات الواجب اتخاذها لمواجهة تلك التهديدات، وقد استجابت أكثر من ثلاثين دولة لهذه الدعوة، جاء كثيرٌ منها مؤيدًا لفكرة الحد من استخدام تقنيات معينة في الفضاء بدلاً من فرض حظر بعينه، والعمل على تحديد طبيعة النشاطات الموثوق بها في الفضاء وتشجيعها، وفي أكتوبر 2021، صوتت «لجنة نزع السلاح والأمن الدولي (اللجنة الأولى)» التابعة للأمم المتحدة على تشكيل «الفريق العامل مفتوح العضوية» (OEWG) المعني بالأخطار التي تتهدد الفضاء (وأضفت عليه الطابع الرسمي في أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال عملية تصويت أجريت في ديسمبر 2021)، ستكون عضوية هذا الفريق العامل مفتوحةً أمام جميع البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة، وسوف يعقد اجتماعاته خلال عامي 2022 و2023 بهدف وضع مقترحات محددة للتصدي للأخطار المحدقة بالفضاء.
وعلى الرغم من تراجُع الفرص أمام إبرام معاهدة جديدة متعددة الأطراف تنص على حظر نشر الأسلحة في الفضاء، ثَمة خطوات أخرى يمكن اتخاذها للحد من العواقب الوخيمة لاستخدام تلك الأسلحة؛ ففي المقام الأول يمكن أن تعلن الدول التي تطور مثل هذه الأسلحة وتُجري اختبارات عليها في الفضاء –وهي تحديدًا الصين والهند وروسيا والولايات المتحدة- بشكل فردي تعليق إجراء أي تجارب ينجم عنها حطام مداري، لا شك في أن مثل هذا الإجراء سيرسل إشارةً بالغة الأثر إلى المجتمع الدولي تفيد أن هذه الدول ملتزمة بالحفاظ على استدامة الفضاء على المدى الطويل، كما سوف تساعد في الجهود الرامية إلى تجريم عمليات تجريب هذه الأسلحة على الأقمار الصناعية.
ثانيًا، يجب على جميع البلدان المشارَكة في «الفريق العامل مفتوح العضوية» المعني بالتهديدات الفضائية، والمساهَمة في النقاشات الدائرة فيه حول إمكانيات فرض حظر عالمي على تجارب الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية التي تخلِّف نتائجَ مدمرة، كذلك ينبغي أن تقدم دول العالم أفكارًا واقتراحاتٍ للتصدي للأشكال الأخرى من الأخطار والتهديدات التي تمس أمن الفضاء، والتي تتضمن الاقتراب اللصيق من الأقمار الصناعية التابعة لدولة أخرى دون الحصول على موافقات مسبقة، ومحاولات تعطيل عمل الأقمار الصناعية من خلال استهدافها بأجهزة الليزر الأرضية، وعلى الرغم من أن هذه التهديدات أقل خطورةً من هجمات الأسلحة الحركية، التي تسفر عن تدمير فعلي للقمر الصناعي، فإن وتيرتها آخذةٌ في التزايُد، ويمكنها أن تؤجج التوترات بين الدول، ما قد ينجم عنه بعض الالتباس في العلاقات الدولية أو أخطاء تؤدي إلى نشوب صراع مسلح عنيف في الفضاء.
لا شك في أن مثل هذا السيناريو ستكون له عواقب وخيمة على كوكب الأرض بكامله.
ولكن لا يزال هناك الكثير الذي يجب عمله لوضع الأسس الحاكمة لأي اتفاقات جديدة للحد من تسليح الفضاء، فمن القضايا التي لم تُحسم بعد قضية غياب قائمة متفق عليها تضم المصطلحات المستخدمة في تناول موضوع الحد من تسليح الفضاء، إذ إن إعداد هذه القائمة يُعد أمرًا ضروريًّا لتجاوُز الاختلافات الثقافية واللغوية والجيوسياسية القائمة بين الدول العظمى العاملة في مجال الفضاء، وهناك قضية أخرى هي ضرورة التوصل إلى فهم أفضل للدوافع التي تجعل الدول تُجري تجارب على الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، وكيف يمكن تغيير هذه الدوافع، وأخيرًا، لا بد من تطوير نظام للتوثيق يتيح لجميع الدول مراقبة التزام الجميع بأي اتفاق تتوصل إليه الأطراف، وهو الأمر الذي سوف يتطلب في المقام الأول تطوير عملية جمع البيانات عن الأوضاع في الفضاء وإتاحتها وتبادلها بين جميع الأطراف المعنية.
وجدير بالذكر أن تجربة الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية التي أجرتها روسيا مؤخرًا، شأنها في ذلك شأن التجارب التي أجرتها في السابق، وكذلك تلك التي أجرتها الولايات المتحدة والصين والهند، قد تسببت في تصاعُد المخاطر المحيطة بعمل الأقمار الصناعية في المدار القريب من الأرض لعدة سنوات قادمة؛ فسوف يحتاج مشغلو كلٍّ من الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية ذات الطواقم البشرية إلى تسخير الوقت والجهد والوقود لتفادي الاصطدام ببقايا الحطام الناجمة عن تلك التجارب بعد عودتها التدريجية إلى الغلاف الجوي للأرض، ولكن المجتمع الدولي قد يستطيع الاستفادة من هذه الحادثة، إذا استخدمها بمنزلة جرس الإنذار الذي يحث الدول على تعليق تجارب الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية اختياريًّا، والدخول في مناقشات يكتنفها حسن النية ترمي إلى الحد من تسليح الفضاء، وهكذا، فمن خلال إرساء أعراف متفق عليها للنشاطات التي تجرى في الفضاء، ووضع قيود ملزمة على تجارب الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، سوف يضمن المجتمع الدولي بقاء الفضاء مستقرًّا وآمنًا ومستدامًا لكافة الأجيال القادمة.
المصدر: scientificamerican