“في بلاد القياصرة” أمم تعبد الله منذ مئات السنين.. مسلمو روسيا.. جذور راسخة في أعماق التاريخ والجغرافيا
يحظى مسلمو العالم بقدر معين من الاهتمام، إما لكونهم يعيشون داخل “أرض الإسلام” والبلاد الإسلامية، أو لأنهم جاليات شكّلها مغتربون تحوّلوا إلى أقليات في بلدان غير إسلامية. إلا أن فئة من مسلمي العالم لا تنتمي إلى أي من الفئتين، فلا هي تقيم في “بلاد الإسلام” ولا هي مجموعة من المغتربين والمهاجرين، بل هم ملايين ممن كان أجدادهم سباقين إلى اعتناق الإسلام، ولم تحملهم رياح الهجرة والاغتراب، وهم مسلمو روسيا الاتحادية.
وقد عادوا إلى الواجهة بقوة في سياق الأزمة العالمية التي فجّرها الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا متم فبراير/شباط 2022، حيث توجّهت الأنظار إلى كل مسلمي هذه المنطقة، خاصة بعد محاولة الطرفين توظيف ورقة الإسلام في مواجهتهما الإعلامية، حيث حرصت موسكو على إبراز المشاركة الشيشانية في الحرب ضمن الجيش الروسي، بينما حاولت أوكرانيا استمالة المسلمين وإصدار “فتوى” باسم مسلميها تحرم مشاركة مقاتلين مسلمين إلى جانب روسيا.
هم أول أقلية غير مسيحية داخل روسيا الاتحادية، ويشكلون الأغلبية داخل عدد من جمهوريات الاتحاد الروسي، وبفضل تعدادهم تتمتع روسيا بدور العضو المراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهم بذلك يشكلون ورقة أساسية في السياستين الداخلية والخارجية لروسيا الطامحة إلى استعادة موقع القطب الثاني في المنتظم الدولي في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
مسلمو روسيا.. جذور راسخة في أعماق التاريخ والجغرافيا
يعتبر أكبر تجمّع للمسلمين في أوروبا هو الذي تحتضنه روسيا، وعلى خلاف قسم كبير من الوجود الإسلامي في أوروبا الذي يتسم بكونه يعود إلى مهاجرين، فإن الوجود الإسلامي في روسيا يتميز بكونه يهم ساكنة محلية أصلية تحافظ على إسلامها منذ أكثر من ألف عام.
يقدّر مجموع المسلمين الذين يعيشون في روسيا بنحو 25 مليونا (الإحصاءات الرسمية تشير إلى أنهم في حدود 20 مليونا)، ويتركزون أساسا في مناطق شمال القوقاز وتتارستان وباشكورتوستان.
ويتميز مسلمو روسيا بتزايدهم المستمر نتيجة ارتفاع نسبة الخصوبة في صفوفهم، وهجرة المزيد من مسلمي آسيا الوسطى نحوها.
وتوضح بعض المصادر أن حوالي خمسة ملايين من مسلمي روسيا هم من المهاجرين حديثا من آسيا الوسطى نحو الأراضي الروسية، لكن يُتوقع أن يتواصل نمو الساكنة المسلمة لروسيا لتمثل 30% من مجموع السكان خلال السنوات العشر المقبلة.
أكل حلال.. منتجات موجهة لربع سكان العاصمة الروسية
لا يعتبر الحضور الإسلامي في روسيا مسألة ثانوية، بل يمكن ملامسته في قلب العاصمة الروسية موسكو، حيث تقدم محلات التسوق الروسية المنتجات الحلال الموجهة للمسلمين، وأنواعا من الأقمشة الخاصة بالحجاب.
كما تتوفر العاصمة الروسية موسكو على مجازر خاصة بذبح المواشي بالطريقة الإسلامية، إلى جانب مطاعم إسلامية تقدم أطباقا معدة من مواد حلال بالنسبة للمسلمين.
وعكس الاعتقاد السائد بكون المسلمين يتركزون في مناطق هامشية من “القارة” الروسية المترامية الأطراف، يشكل المسلمون قرابة ربع سكان العاصمة الروسية موسكو، أي مليونين ونصف مليون نسمة من أصل حوالي عشرة ملايين ونصف مليون نسمة.
فتح فارس.. بداية التوغل الإسلامي في بلاد القوقاز
خلافا لكثير من بقاع العالم التي يوجد بها حضور إسلامي ناتج عن تلاقح ثقافي وتجاري لاحق عن حقبة الإسلام الأولى، يعتبر المجال الروسي واحدا من أولى المناطق التي وصلتها الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى، وذلك مباشرة بعد انتصار الجيوش الإسلامية على الدولة الساسانية التي كانت قائمة في بلاد فارس.
فقد شمل الفتح الإسلامي أذربيجان عام 18 للهجرة، ثم توغل المسلمون في داغستان عامي 22 و23 للهجرة، وفتحوا دربند (باب الأبواب) عام 32 للهجرة ثم تراجعوا عنها، وأعادوا فتحها عام 38 للهجرة، وبهذا فتحت جميع بلاد القوقاز.
وتعود أولى الاتصالات بين العالم الإسلامي والشعوب التي ستلتحق في وقت لاحق بالدولة الروسية، إلى القرنين السابع والثامن للميلاد، حيث كانت الفتوحات الإسلامية قد بلغت منطقة شمال القوقاز وآسيا الوسطى مع منتصف القرن السابع، قبل أن يتمكن المسلمون من توحيد هذا المجال الجغرافي تحت سلطتهم مع مطلع القرن الثامن، أي جنوب القوقاز وما وراء النهر.
شعب البولغار.. رسالة من “القبيلة الذهبية” إلى الخليفة
توثقت علاقة روسيا بالإسلام خلال مرحلة قوة الدولة المغولية التي قامت بغزو البلاد الروسية خلال القرن الثالث عشر للميلاد، فاحتلوا بلاد البولغار وأطلقوا على دولتهم اسم “القبيلة الذهبية”. ورغم المقاومة الطويلة التي خاضها الروس ضد الغزو التتاري، إلا أن المصادر التاريخية لا تفيد بانطواء هذه الحرب على أي عداء تجاه الإسلام. كما بقيت علاقة روسيا بالإسلام متسمة بكثير من التعايش والقبول المتبادل، رغم فترات الجفاء والصراع السياسيين.
وقد لعبت الطرق الصوفية (النقشبندية والقادرية) دورا كبيرا في نشر الإسلام شمال القوقاز، وذلك في فترة تاريخية حديثة تبتدئ في القرن الـ14 للميلاد، وقد لعب الدعاة المنحدرون من داغستان دورا مهما في نشر الدين الإسلامي في بلاد الشيشان ثم في إنغوشيا. بينما ساهمت طموحات الدولة العثمانية و”خانية” القرم في نشر الإسلام عبر سواحل البحر الأسود.
وتنسب المصادر الروسية لشعب البولغار (تتارستان المتمتعة بحكم ذاتي داخل روسيا)، أبرز الأدوار التاريخية في تثبيت الإسلام داخل روسيا، إذ تتحدث المصادر الموثقة عن مبادرة ملك البولغار في أواخر القرن العاشر للميلاد، إلى دعوة الخليفة المقتدر لإيفاد بعثة تسهر على نشر الإسلام والتعريف بأصوله داخل بلاطه، مع تولي بناء مسجد ورفع الآذان وإطلاق عملية دعوة واسعة للإسلام في بلاده.
“فلاديمير” العظيم.. قيصر وثني كاد أن يسلم لولا الخمر والخنزير
أصبح الإسلام دينا رسميا في دولة “فولغا بلغاريا” التي تقع أراضيها ضمن روسيا الحالية، وذلك قبل أكثر من ألف سنة، وتحديدا في عام 922 ميلادية، أي قبل نحو 66 عاما من اعتماد المسيحية الأرثوذوكسية دينا رسميا لأوكرانيا القديمة.
ففي القرن العاشر للميلاد، قرر الأمير الروسي “فلاديمير” العظيم اعتناق ديانة سماوية بدلا من الوثنية، كنهج سياسي ارتآه لتثبيت حكمه وتوحيد شعبه. وقام “فلاديمير” باستدعاء علماء دين مسلمين ومسيحيين (كاثوليك وأرثوذوكس) ويهود، ليقع اختياره في النهاية على المسيحية الأرثوذوكسية، رغم أن مصادر عديدة تتحدث عن إعجابه الشديد بالإسلام لولا رغبته في الاحتفاظ بإمكانية شرب الخمر وأكل لحم الخنزير.
للمسلمين في روسيا حرية اختيار طعامهم الحلال المتوفر في الأسواق وبلا أية موانع
هذه الخطوة السياسية لم تكن وراء وصول الإسلام إلى روسيا، بل كان قسم من الشعوب الروسية يؤمن بالرسالة المحمدية أصلا، وعندما قرر حاكم روسيا الأمير “فلاديمير” اعتناق إحدى الديانات السماوية، طلب من البولغار (المسلمين حينها) إرسال رجال دين يوضحون له مبادئ الدين الإسلامي، إلى جانب المبشرين اليهود والمسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس.
ورغم أنه انتهى إلى اعتماد المسيحية دينا رسميا، فإن ما قام به يوضح أنه كان يجعل الإسلام ضمن الاحتمالات الواردة بالنسبة إليه. وتقول بعض المصادر إن تحريم الإسلام للحم الخنزير والخمر، كان وراء قرار الحاكم الروسي اختيار المسيحية بدلا من الإسلام.
سياسات البلاط القيصري.. مد وجزر على مر التاريخ الروسي
كان حرص قياصرة روسيا دائما على استقطاب ودعم شخصيات مسلمة بعينها يهدف إلى السيطرة على العنصر الإسلامي ومنعه من زعزعة استقرار البلاد، وكان مسلمو الإمبراطورية الروسية في بعض الفترات التاريخية يتعهدون أمام الله ورسوله، ويقسمون على الإنجيل والتوراة والمزامير والقرآن، بأن يكونوا موالين لجلالة الإمبراطور.
لكن رغم الوجود القديم للإسلام في المجال الجغرافي الروسي، فإن السياسة الروسية تجاه المسلمين شهدت تحولا بداية القرن 18، وذلك نتيجة تنامي العلاقات الروسية مع أوروبا، وازدياد التوجس تجاه الإمبراطورية العثمانية.
واتسمت هذه السياسة بين التشدد والتضييق تارة وبين محاولة الاحتواء واستقطاب النخب الإسلامية تارة أخرى، خاصة بعد ضم منطقتي القرم وكوبان المتميزتين بأغلبية إسلامية إلى الأراضي الروسية. بينما أدت محاولة روسيا فرض سيطرتها الكاملة على شمال القوقاز إلى اندلاع الحرب القوقازية خلال القرن الـ19 وهي التي ستجعل العلاقة بين الدولة الروسية وبين هذا المكون الإسلامي تنطبع بقدر من التوتر في تلك المنطقة بشكل شبه دائم.
وقد واجه المسلمون بعد ثورة 1917 البلشفية تحدي التوفيق بين معتقداتهم الفكرية وبين الشيوعية. وحاول بعض المفكرين المسلمين إيجاد نقاط التقاء بين الإسلام والماركسية، منهم مير سعيد سلطان غالييف، وهو عضو في الحزب الشيوعي ومؤلف نظرية “الشيوعية الإسلامية”.
فقد كان عدد المسلمين في الإمبراطورية الروسية يبلغ قبل ثورة عام 1917 نحو عشرين مليون نسمة. وأدت مشاركة المسلمين في الأحداث الثورية التي شهدتها روسيا في مطلع القرن العشرين، إلى إنشاء عدد من الأحزاب السياسية التي استخدمت في خطابها شعارات إسلامية، أبرزها على الإطلاق حزب “اتفاق المسلمين” الذي كان يدعو إلى رفع منزلة الدين الإسلامي وتوحيد صفوف الشعوب الإسلامية مع بقائها ضمن الدولة الروسية.
حقبة السوفيات.. ظلال سبعين سنة من الإلحاد العنيف
تعرض المسلمون لعمليات استهداف وتهديد بالإبادة في بعض الحقب التاريخية لروسيا، وتتوزع بين المرحلة القيصرية والمرحلة السوفياتية والمرحلة الجمهورية، وتوجه أصابع الاتهام في هذا الاستهداف إلى الكنيسة الأرثوذوكسية.
ويجد هذا العداء امتداده في خطابات بعض السياسيين، إذ يُنسب إلى الرئيس السوفياتي “ميخائيل غورباتشوف” قوله سنة 1988: إن أي حرب تخوضها روسيا ستكون باسم الإنسان الأبيض ومباركته، ويجب أن تتخذ صورة الحرب الصليبية باسم المسيحية.
لقد تعرض الإسلام في الفترة السوفياتية لحملة دعائية وفكرية، رافقتها حملة على المؤسسات الإسلامية، إذ ألغيت عام 1924 المحاكم الشرعية ومحاكم الأعراف، كما ألغيت عام 1924 جميع المدارس الدينية الثانوية والابتدائية والكتاتيب، وكان عددها في ذلك الوقت 15 ألف مؤسسة. كما شهدت الحقبة السوفياتية حملات ديمغرافية استهدفت المسلمين من خلال عمليات تهجير وتوطين قسري.
وعاش مسلمو روسيا على مدى 70 سنة من الحقبة السوفياتية، في ظل حظر العبادات وفرض نمط حياة لا ديني، مما حرم أبناء المسلمين من تعلم مبادئ الإسلام في المدارس القرآنية والكتاتيب، وهو ما جرى استرجاعه تدريجيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
كما أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تفكيك نظام الإدارات الدينية للمسلمين، فانقسمت إلى مجالس إفتاء مستقلة عدة، قبل أن ينضم معظمها إلى مؤسستين متنافستين، وهما الإدارة الدينية المركزية للمسلمين، ومقرها في أوفا، ومجلس المفتين في روسيا، ومقرها في موسكو.
ستون شعبا فرقتهم الأعراق وجمعهم الدين.. مكونات المسلمين
يشكل المسلمون أغلبية السكان في سبعة أقاليم روسية هي إنغوشيا والشيشان وداغستان، وقبردينو- بلقاريا وقره شاي -شركيسيا وبشكيريا وتتارستان، إلى جانب شبه جزيرة القرم التي عادت روسيا لتضمها من أوكرانيا عام 2014، ويشكل المسلمون حوالي 15% من سكانها.
وبحسب إحصاء عام 1989، فإن أكثر من 60 شعبا من الشعوب القاطنة في الاتحاد الروسي هي شعوب إسلامية. تتوزع على دول مستقلة وأخرى ذات استقلال ذاتي ضمن الاتحاد الروسي، والبقية تتوزع على دول الاتحاد الروسي الأخرى كأقليات عرقية أو على شكل قبائل مشتتة في جمهورية أو أكثر.
وبينما ينتمي غالبية مسلمي روسيا إلى السُنّة، خاصة منهم المذهبين الحنفي والشافعي؛ يتركز شيعة روسيا أساسا في داغستان، وجلهم منحدرون من أصول أذربيجانية وطاجيك، لكنهم يظلون أقلية.
أما عرقيا، فينتمي مسلمو روسيا بالدرجة الأولى إلى التتار الذين يشكلون قومية مميزة لها جمهورية متمتعة بحكم ذاتي، ويعتبرون من بين أهم حاملي مشعل الإسلام في روسيا الاتحادية، بتعداد يفوق الخمسة ملايين نسمة. ثم تأتي بعد التتار قومية الداغستانيين الذين يفوق تعدادهم الثلاثة ملايين نسمة، ثم يأتي بعدهم المسلمون الشيشان والبشكير والشركس.
مسلمو روسيا .. معركة السيادة والسياسة مع الكرملين
في الواحد والثلاثين من مارس عام 1992، وبينما أخذ عقد السوفييت في الانفراط الجمهورية تلو الأخرى، عُقِد اجتماع فيدرالي لكافة الجمهوريات -ذاتية الحُكم- لمحاولة لملمة الجراح، وكبح طموحات من تبقى داخل الاتحاد الفيدرالي الروسي الجديد، وظل راغبًا في الالتحاق بركب الجمهوريات الوليدة المستقلة في آسيا الوسطى والقوقاز.
لم تكن قوة روسيا كافية -كما كانت آمالها- لوقف قطار الاستقلال الكازاخستاني، آخر من استقل عن السوفييت بعد إعلان روسيا الاتحادية نفسها في أواخر العام 1991، لكن الكرملين الضعيف آنذاك اعتقد بقدرته على تغيير مسار القطار فقط إن قاده بنفسه، ليعود به إلى موسكو. كان من الصعوبة بمكان توجيه ذلك القطار الطويل من الشعوب غير الروسية، والعودة به إلى قبضة موسكو كما كان في الستينيات، ومن ثم كان لزامًا على حكام روسيا الجدد الوقوف في محطة تُرضي كافة الأطراف.
بحلول نهاية القرن العشرين، كانت قازان، عاصمة التتار، قد تبوأت موقعها كواحدة من أغنى وأكبر مدن روسيا إلى جانب جمهورية بشقورتستان المجاورة ذات الأغلبية المسلمة.
عُقِد الاجتماع الفيدرالي وبدا ناجحًا بشكل ما، باستثناء الغياب الذي سجّلته كل من جمهوريتي تتارستان والشيشان -صاحبتا الأغلبية المُسلمة والمغايرة عرقيًا تمامًا للأغلبية الروسية-. بدا لوهلة أن كازاخستان لن تكون آخر من يخرج من عباءة الروس، لا سيّما وأن أحدًا لم يتوقع قدرة الروس في تلك اللحظة على حسم معركة عسكرية، ناهيك عن معركتين معًا؛ واحدة في القوقاز والأخرى في أقصى شمال آسيا الوسطى.
بيد أن الامتناع عن حضور الاجتماع الفيدرالي كان الشيء الوحيد الذي بدا مشتركًا بين الجمهوريتين المسلمتين؛ حيث اتخذت كل منهما فيما بعد اتجاهًا مغايرًا تمامًا، عكس بشكل ما موقعها داخل روسيا من ناحية، وتاريخها مع الحكم الروسي من ناحية أخرى.
بحلول نهاية القرن العشرين، كانت قازان، عاصمة التتار، قد تبوأت موقعها كواحدة من أغنى وأكبر مدن روسيا إلى جانب جمهورية بشقورتستان المجاورة ذات الأغلبية المسلمة؛ حيث ترأس “مينتيمير شايمييف” التتري معركة صياغة اتفاق جديد لتحديد طبيعة العلاقة بين تتارستان وموسكو، في حين تحوّلت غروزني، عاصمة الشيشان، مع جمهوريتي داغستان وإنغوشيتيا المجاورتين إلى ساحة حرب واسعة بين مسلحيها والجيش الروسي، حتى ظهر اسم “قديروف” كحليف شيشاني للكرملين بقبضته الدموية في غروزني.
بين قازان المنبسطة على ضفاف الفولغا، والمرتبطة بالحكم الروسي منذ القرن السادس عشر، والتي عرف أهلها الإسلام بعد نزوله بحوالي ثلاثة قرون، وبين الشيشان الجبلية التي لم تعرف حكم الروس المباشر قبل القرن التاسع عشر، ولم تعرف الإسلام إلا قبلهم بقرنين، ينقسم مسلمو روسيا ذوو الأعراق التركية بين مصيرين وتاريخين متباعدين، دون أن يجمعهما إلا علاقة الشد والجذب، على اختلاف طبيعتها، مع حكامهم الروس في موسكو.
قَازان: الجمهورية الكاملة
كانت كلمات “رستم مينيخانوف” واضحة للصحافيين، ضاربة عرض الحائط بقرارات “بوتين” الصارمة بشأن العقوبات الاقتصادية على تُركيا، والتي طُبقَت في أعقاب أزمة إسقاط الأتراك للطائرة الروسية في ديسمبر /كانون الأول 2015. لقد صرح “مينيخانوف” بأن الشركات التُركية ستعمل وفق طبيعتها في جمهورية تتارستان الصغيرة، والتي يترأسها منذ العام 2010، قائلًا: “الأتراك إخوتنا نحن التتار، وينتمون لنفس ديننا وشجرتنا اللغوية، نحن أصدقاء لكل من يستثمر في تتارستان”.
مليار ونصف المليار دولار هي قيمة الاستثمارات التُركية في تتارستان، والتي لا يتجاوز تعداد سكانها الأربعة ملايين، ولا تتجاوز مساحتها نصف واحد بالمائة من مساحة العملاق الروسي. بيد أن حصة الأتراك من الناتج القومي التتري (44 مليار دولار)، والتي تتفوق على حصة التتار من الجغرافيا الروسية نفسها، بدت أكثر أهمية لصناع القرار في قازان، سادس أكبر مدينة في روسيا، وعاصمة الشعب الأكثر عددًا بعد الروس داخل الفيدرالية الروسية.
لم تكن تلك أول مرة تخوض فيها قازان معارك الشد والجذب مع الكرملين بخصوص حدود سيادة موسكو داخل الجمهورية الصغيرة والغنية، فقد وصل الأمر لحد الإعلان عن مواطنة خاصة بالجمهورية التترية، ومن ثم جوازات سفر خاصة بها؛ ليُفتح الباب أمام إمكانية الحصول على الجنسية التترية دون الروسية وجذب التتار المتناثرين حول العالم إلى قازان، لكن الإعلان توقف حين قدمت موسكو تنازلًا رمزيًا يحفظ “سيادة” تتارستان كجمهورية ويوقف خطر التجنيس التتري، وهو تصميم خاص لجوازات السفر الروسية الصادرة للتتار يحوي العلم الخاص بهم.
قدمت تتارستان نموذجًا خاصًا على مدار عقدين حكم فيهما “شايمييف” ثم خلفه “مينيخانوف”، وهو نموذج استوحاه الكرملين ذاته في نظامه الفيدرالي مع الجمهوريات الراغبة ببعض الاستقلالية، فالتتار يملكون دستورهم الخاص، والذي يحظى بأولوية تطبيقه حال تعارض مع الدستور الروسي، كما يحق لحكومتهم الاحتفاظ بنصف الضرائب المُضافة المحصّلة داخل تتارستان، والتي تحدد الحكومة التترية قيمتها بشكل مشترك مع الحكومة المركزية، وهي حالة استثنائية؛ إذ لا يُسمح لبقية الجمهوريات الروسية سوى بالاحتفاظ برُبع الضرائب فقط، علاوة على تحديد سياساتها الخارجية والاستثمارية الخاصة.
لا يتوانى التتار عن إطلاق العنان لمختلف أشكال استقلاليتهم عن الكرملين، بما في ذلك اعتقادهم الراسخ بأن جمهوريتهم “جمهورية كاملة ذات سيادة” وإن قبلت بالانضواء تحت لواء الفيدرالية الروسية، لا سيما وأن البحث عن استقلال شامل عن الروس سيكون مسألة عبثية، بالنظر للولايات الروسية التي تحيط بتتارستان من كل اتجاه. ولعل تلك الحتمية الجغرافية للمفارقة هي التي تمنح الروس الثقة الكاملة بعدم قدرة التتار على الاستقلال التام، وكذا تمنح التتار يقينًا بالقدرة على رفع السقف في التعامل مع الكرملين، في نفس الوقت.
إلا أن تلك الثقة لا تمنع لحظات الشد والجذب بين الحين والآخر؛ إذ حاول الكرملين منع رئيسي تتارستان وبشقورتستان من استخدام لقب “رئيس الجمهورية” وهو قرار لم يجد صدى في قازان؛ حيث يستمر “مينيخانوف” في التمتع بلقبه وصلاحياته، كما عارضه المجلس العالمي للتتار، الممثل لكافة التتار حول العالم وأغلبهم خارج تتارستان؛ بل وذهب المجلس إلى إمكانية قيامه بطلب مقعد مراقب في الأمم المتحدة للتأكيد على وضع تتارستان كجمهورية “فيدرالية” ذات سيادة.
بكُل ثقة، أعلن “مينيخانوف” قبل عامين عن عزمه طرح تشريع في الدوما الروسي لفتح الباب أمام الصرافة الإسلامية، أملًا في أن تصبح تتارستان معقلًا لعالم البنوك الإسلامية داخل روسيا؛ بل ومع شركائها الإقليميين الأهم مثل تركيا وآسيا الوسطى والصين، علاوة على تحركاته المستقلة في عالم السياسة الخارجية التي وصلت إلى حد الوساطة بين موسكو وجيرانها، أو محافظاتها الجديدة، كما جرى في مسألة القرم، وكأنه رئيس لدولة مستقلة بالفعل.
كان لافتًا للنظر دور “مينيخانوف” في محاولة تدشين دور إقليمي سياسي صريح لجمهوريته حين استحوذت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، وهي الجزيرة التي امتلكت في الماضي غالبية سكانية تترية، وتسمى تتار القرم ولكن تتحدث لغة أقرب للتُركية منها إلى التترية المعاصرة، فقد قام الرجل برحلات متكررة للجزيرة للوساطة بين تتار القرم، وهُم أقلية اليوم، وبين موسكو، ونجح بالفعل في فتح باب التواصل بينهما بعد رفض مجلس تتار القرم المتكرر سابقًا للقبول بالانضمام لروسيا.
جمهورية كاملة بالفعل تتمتع بمعظم أشكال السيادة بينما تحافظ على شعرة معاوية مع الكرملين، وهو ربما تقليد سياسي طويل يعود لانفتاح الإمبراطورة “كاثرين” الروسية في القرن الثامن عشر على قاطني أراضي روسيا من المسلمين، والسماح لهم ببناء مساجدهم وممارسة شعائرهم؛ بل وتدشين مجلس يمثلهم داخل روسيا، وهو تقليد جلب التتار رويدًا إلى التطبيع مع مظلة الإمبراطورية الروسية، دون أن تطبق عليهم بالكامل كما تفعل مع غيرهم، والتمتّع بما يكفيهم من مظاهر السيادة، وتفويض موسكو بما لا يسع جمهورية صغيرة القيام به.
على بُعد ألفي كيلومتر إلى جنوب قازان؛ حيث تقع غروزني، لم يكن الحظ حليف الروس والشيشانيين لبلورة نموذج مشابه، أو بالأحرى لم يسمح التاريخ الدموي للروس، والطبيعة الجبلية للمنطقة، والثقافة السياسية المغايرة لأهلها، بقبول الشيشانيين لمظلة روسية، وكذلك لم يسمح الروس أنفسهم بظهور جمهورية صغيرة كاملة في تلك المنطقة نظرًا لموقعها شديد الهشاشة.
القوقاز المُسلِم: لعنة غروزني
“غروزني”، هكذا أرادها أن تكون الجنرال “ألكسي يرمولوف” في نهايات القرن التاسع عشر، معقلًا للرهبة والخوف تمامًا كما تعني الكلمة باللغة الروسية، فقد قال صراحة بأن “الترهيب يحمي حدود الإمبراطورية الروسية أكثر مما تفعل الحصون المنيعة”، ومن ثم دشّن بنفسه حصن “غروزني” على تخوم جبال القوقاز، قبل أن يشرع في حملته العسكرية الدموية ضد الشيشانيين في القرن التاسع عشر.
رسم الصراع بين “يرمولوف” والشيشانيين معالم المنطقة حتى اليوم، فغروزني هي عاصمة جمهورية الشيشان بكل
ما يحمله اسمها من دلالات، و”يرمولوف” هو الاسم الروسي الذي لا يذهب أبدًا من ذاكرة الشيشانيين، بكل جرائمه الوحشية وحملته الشاملة لاقتلاع أهل المنطقة من قراهم في السهول المتاخمة للجبال، وتصفية كافة العناصر القبلية المناوئة لموسكو؛ بل واغتصاب كل امرأة وقعت أيادي الروس عليها آنذاك.
كان ذلك النهج مغايرا تمامًا لما سلكته موسكو مع التتار في عهد كاثرين؛ إذ أشرفت نفس الإمبراطورة على بدايات التاريخ الدموي للروس في القوقاز بحملة عسكرية لم تؤت ثمارها بعد تمرد بقيادة الشيخ منصور في أول هبة شيشانية ضد الروس، غير أن فشل المهمة الأولى لم يُثنِ الإمبراطورية الراغبة بالتمدد جنوبًا؛ لتستحوذ بالفعل على معظم شمال القوقاز من قبضة الحكم الإيراني الضعيف في القرن التاسع عشر، وتقف وجهًا لوجه مع مسلمين لم تحكمهم مباشرة من قبل على عكس التتار.
أوكلت لـ”يرميلوف” إذن مهمة سحق الشيشانيين، ليبدأ تمركز الروس العسكري في الوديان المنبسطة نسبيًا، مقابل تراجع قبائل الشيشانيين إلى مرتفعات القوقاز بعد تدمير قراهم، وشنهم لحروبهم القبلية من هناك، وهي إستراتيجية أدت لنتيجة معاكسة تمامًا للنموذج التتري في قازان؛ حيث ازدادت الطبيعة البدوية والثورية للقبائل التي ابتعدت عن حياة الزراعة الأكثر بحثًا عن الاستقرار والأكثر رغبة في الوصول لتسويات سياسية مثل التسوية التترية.
لا تزال غروزني اليوم هي غروزني الأمس، بيد أن شخصًا آخر أوكلت له مهام “ترهيب” الشيشانيين بدلًا من الروس الذين أرهبتهم وأرهقتهم المدينة بقدر ما أرهبوها وأرهقوها في التسعينيات. لقد “تشيشنت” غروزني وفقًا لسياسات فلاديمير بوتين، والذي حاول فرض نموذج تتري من أعلى؛ عبر مجموعة من المقاتلين السابقين الذين احتواهم الكرملين، واعتبرهم “المجاهدون الشيشانيون” مجرد “خوَنة للقضية لا أكثر” كما هي العادة في صراعات كتلك.
غير أن لعنة غروزني لم تنكسر أبدًا، لتأخذ صورة جديدة “محلية” مدعومة من موسكو تحت حُكم رمضان قديروف، قيصر الجمهورية القوقازية فعليًا منذ العام 2004، وهي لعنة نالت من الصحافية “أنا بوليتكوفسكايا”، المذكورة أعلاه؛ حيث لاقت حتفها مقتولة بعد اهتمامها الخاص بملف حقوق الإنسان في الشيشان، دون أن يعرف أحد، كما هي العادة في روسيا، من القاتل، وإن كانت الأصابع تشير إلى “قديروف” وحاشيته، أصحاب سجل من أسوأ سجلات حقوق الإنسان في العالم.
مثله مثل والده، لا يرى قديروف طائلًا من منازعة الإمبراطورية الروسية، ويعتقد بأن “الوهابية” تشكل خطرًا أكبر على ثقافة الشيشانيين من الاقتلاع الثقافي الروسي تمامًا مثلما تهدد روسيا، وهي سياسة تمنحه بموجبها حكومة الكرملين مليارات الدولارات لتنمية غروزني؛ ليشكّل التمويل المركزي أكثر من 80% من ميزانية الشيشان، والتي تشهد أزهى عصور استقرارها، وقمعها الفعّال في آن، تحت قبضة قديروف؛ بل وتشهد عاصمتها محاولات نصف ناجحة لإخفاء تاريخها الدموي بناطحات السحاب، وبجامع أحمد قديروف الضخم الذي بناه الأتراك مماثلًا لجامع السلطان أحمد.
لا يفوّت قديروف أي فرصة لإظهار ولائه للكرملين ولبوتين شخصيًا، والذي وصل لإيفاد جزء من ميليشيا “قديروفتسي” الخاصة به إلى شرق أوكرانيا لمساندة المتمردين المدعومين من موسكو، وتهديد معارضي الكرملين والتعدي عليهم بالتصريحات العدوانية، لكن سلطانه الآخذ في التعاظم، ورغبته في احتواء تديّن الغالبية الساحقة من سكان الشيشان، يدفعانه لتبني أجندة محافظة لتعزيز شعبيته في الداخل، مثل تصريحاته المؤيدة لتعدد الزوجات، المحظور رسميًا في روسيا، وتلك المقللة من شأن المرأة، وحملته الأمنية ضد تداول الكحوليات في بلد من أكبر مستهلكي الكحول في العالم، وهي تجاوزات تتقبلها روسيا طالما ظل قديروف يقوم بمهامه في غروزني بكفاءة.
لعل قديروف، رغم شيشانيته أو ربما بسببها، هو الرجل الوحيد الذي نجح في إكمال ما لم يستكمله الجنرال يرمولوف بالكامل لحساب موسكو، وهي مهمة يعرف قديروف تمامًا أهميتها بالنسبة للروس، ومن ثم يسمح لنفسه بهامش واسع من فعل ما شاء داخل الشيشان، كالتنين الذي لا يشبع كما وصفته بوليتكوفسكايا، فقد باتت الشيشان اليوم سياسيًا واقتصاديًا قديروفستان لا أكثر ولا أقل!
على النقيض تقع تتارستان؛ فهي أشبه بطائر يتحرّك بأريحية فوق نقطة ارتكازه داخل روسيا، من القرم إلى تركيا، ومن عالم الصكوك الإسلامية إلى التجارة مع الصين، فالجمهورية الصغيرة تجلٍ “لمشروع” كامل وكائن بالفعل ذي علاقة خاصة مع موسكو، وفي حدود المساحة التي منحتها له ظروفه الجغرافية والتاريخية، أما مشروع قديروف فهو مجرد “مهمة” أوكلته موسكو لتنفيذها من أجل قمع الجغرافيا والتاريخ ذاتهما، واللذين يتيحان للشيشان في الحقيقة أكثر من جمهورية صغيرة كاملة، وأكثر مما يستطيع الكرملين تحمّله.
المصادر: الجزيرة الوثائقية – الجزيرة – مواقع إلكترونية