عرب وعالم

أذهل العالم بصوته العجيب وكان أستاذ المقامات الصوتية بلا منازع.. من هو عندليبُ حلبَ الذي حلّق إلى السماء؟

يقولون إن الويلات لا تأتي فرادى، ويبدو أن ما حلّ بحلب الشهباء من دمار وخراب على مدى تسع سنوات عجاف لم يكفِها، وكأن سقوط مئذنة جامع حلب الأموي الكبير كان رثاء مبكرا لمؤذنها وبلبلها الصدّاح الشيخ المنشد حسن الحفّار رحمه الله، فقد غيَّب الموت قبل ثلاثة أيام صوت صنّاجة حلب، وبرحيله تكون الموشحات والقدود قد ودَّعت آخر الحناجر الذهبية التي داعبتها، على مدى خمسة وخمسين عاما.

 

المولد والنشأة والبدايات

في عام 1943 احتضنته “ساحة البزّة” وليدا، ثم احتفت به قلعة حلب الشهباء يافعا، وسار في طريق الحرير على خطى العظماء والفاتحين الذين مرّوا بحلب ثم رحلوا وبقيَتْ، وتمايل برأسه في زواياها العتيقة على أنغام تواشيح شيخه عبد القادر الحجار، ثم اعتلى مئذنتها الشامخة ليصدح بالأذان.

بدأ رحلته مع المدائح والتواشيح في الزوايا الصوفية بطرقها المختلفة، فكانت الزاوية الهلالية على الطريقة القادرية أول محطاته، ثم تنقل في الزوايا الأخرى حتى انتهى بزاوية “بيت الحفار”، من حيث انطلق آباؤه وأجداده الأقدمون. وكان الشيخ يقول: الزاوية تؤمّن لك الصفاء الذهني والتجليّات الروحانية حتى تصل إلى درجة الهُيام بحب الله والنبي ﷺ.

وبين القرنين التاسع عشر والعشرين كانت حلب موطن الطرب بلا منازع، ولمعت فيها نجوم الفن من أمثال أحمد عقيل والمعظَّم والشاذلي ومحمد صالح الجزري، ثم تبعهم تلاميذهم مثل عمر البطش وعلي الجرشة، وبعدهم صبري مدلل وشيخنا حسن الحفار، وقد وضع هؤلاء الأساس لكافة القوالب الغنائية، سواء في طقوس الذكر أو طقوس المولد التي كانت مواسم إسلامية بامتياز.

“المُسكِر بغير خمر”.. متحف التراث الحلبي

عندما كنتَ تلقاه بغُترته البيضاء وملابسه الحلبية التقليدية تحس أنك أمام قامة شامخة عمرُها بعمر القلعة، وعندما يحدثك تحس بتواضعه الكبير وأدبه الجمّ، أما إذا سألته عن النشيد والطرب فتحس بحسرة كبيرة وحزن عميق من خلال كلامه، إذ يتحدث وكأنه حارس متحف التراث الحلبي وأمين مستودع أسراره.

يقول الحفار: ورثنا هذه الصنعة كابرا عن كابر، ولم أضيع فيها حرفا ولا لحنا مما تعلمتُ على شيوخي، وأخشى أن تضيع البضاعة دون أن أجد من أستودعها عنده، فالمدائح والتواشيح تحتاج إلى شوق وذوق وجَوْق كي تؤدى على أصولها، فيجب أن تشتاق إليها، ثم تتذوق الجميل منها، ثم تغنّيها من خلال الجوقة.

بدأ الحفار رحلته في الطرب والنشيد مع ثلة من رموز الطرب الحلبي؛ من أمثال صبري مدلل، وعمر البطش وعبد الرؤوف الحلاق، ثم استقل عنهم وأنشأ فرقته الخاصة، ليوصف بأنه “عميد منشدي حلب”، ويوشح بلقب “شيخ القدود والموشحات”، ويوصف صوته بأنه “المُسْكِرُ بغير خمر”.

“أمان يا مليمي”.. ملك المقامات المتوج

تعددت مواهب الشيخ الحفار وغطى بصوته العذب طيفا واسعا من ألوان النشيد والطرب والمقامات، وإن أحدنا لتعروه الدهشة من أين جمع رجل بسيط شِبْه أُميّ في المجال الأكاديمي كل هذه الثقافة الموسيقية وعلوم المقامات ودرجات الأصوات وطرق الأداء، حتى وصفه أحد النقاد الفنيين قائلا إنه: بلغ درجة الكمال البشري في هذا الفن، ولم أستطع أن أسجل عليه هفوة واحدة.

ولأن عقيدة الصوفية مبنيّة على الحب للذات الإلهية فيما يدَّعون، فإنهم بالغوا وتطرفوا في قصائد العشق والهيام الإلهي، وخلطوها بالخمر والنشوة، حتى ليخيّل إليك أنك أمام امرأة عاتية الجمال عندما تسمع قصائدهم (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا). وسواء خالفهم أناس أو وافقوهم، فهذا لونٌ من الفن أصبح واقعا ملموسا، وصار له رجاله ومدارسه ومحبوه، وقد نال الشيخ قصب السبق في هذا الفن.

استمع إليه وهو يغني هذا الموشح المشهور الذي غنّاه من قبله ومن بعده أساطين الطرب العربي، ثم تخيّل أن هذا هيام في ذات الإله:

ملا الكاسات وسـقاني.. نحيل الخصر والقـدّ
حياة الروح في لفظه.. سباني لحظه الهندي
مُليمي لا تسل عني.. وخلّيني على عهـدي..
أمان يا مليمي

سفير الطرب الحلبي.. مدائح عابرة للأديان

أشجى صوته مدن بلاد الشام، وسافر إلى المغرب والبحرين ولبنان، وغنّى على مسارح بيروت، واستضافته عاصمة النور (باريس) ثلاث مرات، وأصدر له المركز الثقافي العربي في باريس ثلاث أسطوانات اعترافا بعلوّ كعبه في الطرب الأصيل، ومع أنه يتحفظ على استخدام الآلات الموسيقية الحديثة، فإن أدواته البسيطة من مِزْهر ودُفّ قد ذهبت بعقول القوم في باريس.

عندما تسأله: ولماذا حلب؟ يقول لك: حلب أصل الطرب، قال عنها الموسيقار محمد عبد الوهاب: “من لم يسمعْ من حلب لم يعرف الطرب”، وزارها سيد درويش رائد الموسيقى العربية، وبِها أهل العشق من ورثة مولانا جلال الدين الرومي.

ومع أن حسن الحفار لم يعتمر طربوشا قط، إلا أنه يعتبر شيخ “الموْلويّات” بامتياز، وعلى صدى شَدوِه تتمايل طرابيشهم الطويلة.

لم تقتصر مدائح الشيخ الحفار على النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام، ولكنها تعدّتهم إلى رموز وأعلام في المذاهب والطوائف الإسلامية الأخرى، بل وتجاوزت الإسلام وأهله إلى الملل الثانية، فقد تغنى لمريم العذراء عليها السلام، حتى قالوا عن مدائحه إنها عابرة للمذاهب والأديان.

استودَع القلعة جسده والمئذنة الأموية صوته

اكتفى الشيخ بثناء مريديه عليه وتكريمهم له، ولم تشْرئبّ عنقُه يوما لتكريم من رئيس ولا قلادة من وزير أو جائزة من مسؤول، وعندما كان يُسأل عن بعض أقرانه أو تلاميذه ممن كرّمتهم الدولة كان يقول: تأبى عليّ كرامتي أن أتنازل عن موروثاتي ومبادئي، من أجل ميدالية أو عرَض زائل.

ويوم سماع خبر وفاته اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بالوسوم والرسائل والمراثي التي تنعى فقيد حلب الكبير وتُشيد بمناقبه وتثني على أخلاقه وتواضعه وتدعو له بالرحمة والمغفرة وتبكي صوتَه ونشيده وحنجرتَه الذهبية، وتستودع أطلال القلعة الشمّاء جسدَه الطاهر، فرحمه الله رحمة واسعة.3

المصدر: الجزيرة الوثائقية – مواقع إلكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى