“مولاتنا رصد”.. جارية الخليفة الفاطمي التي أشعلت الفتنة بين القادة وتلاعبت بوزراء الدولة
من شجرة الدر إلى ست الملك.. سطع نجم النساء عموماً في عهد الدولة الفاطمية، فاستطاعت كثيرات لعب دور مركزي في الدولة والمشاركة في شؤون الحكم الداخلية والخارجية، ولا نستطيع الحديث عن هؤلاء النسوة دون الإتيان على ذكر “السيدة رصد” جارية الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله وأم الخليفة المستنصر التي كانت سبباً في إذكاء الفتن في الجيش الفاطمي وتساقط الوزراء في عهدها كأوراق الخريف.
كانت رصد جارية نوبية سوداء اشتراها تاجر يهودي يدعى أبا سعد التستري، تغيرت أقدارها عندما اشتراها منه الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله.
بجمالها اللافت وذكائها المتقد استطاعت رصد أن تكون المفضلة لدى الخليفة، وتحولت من جارية إلى سيدة لا ينازعها ملكها أحد، خاصة بعد أن أنجبت للخليفة ولي عهده الذي أصبح يعرف فيما بعد بالمستنصر بالله الفاطمي.
وأقامت السيدة في “قصر اللؤلؤة” الذي بناه زوجها الظاهر لإعزاز دين الله، والذي كان من أجمل القصور في القاهرة آنذاك؛ إذ يتميز بحدائقه الخلابة وإطلالته على نهر النيل، وامتلكت رصد زورقاً فريداً خاصاً صُنع من الفضة بالكامل، وكان قد أهداه لها سيدها القديم أبو سعد التستري بعد أن حازت مكانة عالية لدى الخليفة.
لكن ذلك النعيم لم يكن سوى البدايات فقط، فقد توفي الخليفة عام 1036 عن عمر لا يتجاوز الـ30، تاركاً الدولة لابنه الذي لم يبلغ سن الرشد بعد، ولأمه التي لا حدود لطموحها.
أم الخليفة
من حسن حظ المستنصر بالله -وأمه كذلك- أنه لم يمتلك إخوة أكبر سناً ينازعونه الحكم، لذلك قُلد خليفة وهو لا يزال صبياً يبلغ من العمر سبع سنوات، وكانت تلك فرصة ذهبية للسيدة رصد لتحكم الدولة الفاطمية وتدير شؤونها بنفسها بصفتها وصية على ابنها، ومنذ ذلك الحين، أصبح رجال الدولة يخاطبونها بـ”مولاتنا” أو “الجهة الجليلة” أو “الستر الرفيع” أو “الملكة”.
كانت ألقاب رصد المتنوعة تلك انعكاساً لنفوذها في الدولة، فكانت تقرب من تشاء من الوزراء وتعزل من تشاء، وأنشأت ديواناً خاصاً بها لإدارة شؤونها المالية وتحكمت بمقدرات البلاد من خلال تأثيرها على الوزراء وقادة الجند وأصحاب رؤوس الأموال من التجار والولاة.
مسرحية الوزراء
لم تستطِع السيدة رصد الإمساك بزمام الأمور مباشرة فقد كان الوزير الجرجراني صاحب قوة ونفوذ في الدولة وعمل على الحد من تدخلاتها رغم أنها الوصية على الخليفة، لكن الساحة خلت للسيدة بعد موت الوزير عام 1044.
خلف الجرجراني وزير جديد هو أبوعلي الأنباري، الذي لم يكن راضياً عن تدخل السيدة في شؤون الحكم فسرعان ما ناله غضبها، ولم تكتفِ بتحريض ولدها على عزله بل اتهمته بسرقة الأموال ووضعته في السجن بضعة أعوام قبل أن يقتل.
ومن بعد الأنباري أصبحت الوزارة بالكامل بيد السيدة التي تعين الوزراء وتعزلهم على هواها بالتعاون والتشاور مع رئيس ديوانها وسيدها القديم أبوسعيد التستري.
وكعادة الخلفاء، اتخذت رصد لنفسها علامة خاصة للتوقيع على الأوراق الرسمية، وقد اختارت عبارة “الحمد لله ولي كل نعمة”، لتكون توقيعاً لها.
وبالفعل فقد كانت النعم التي امتلكتها رصد كثيرة للغاية، فبعيداً عن كونها المتحكمة في شؤون دولة ابنها، امتلكت “السيدة” أموالاً هائلة مستقلة وخاصة بها، استعملتها في شراء الولاءات واستخدام الأعوان، لذلك وصفها بعض المؤرخين بأنها “على جانب كبير من الذكاء والفهم وبُعد النظر”، ووصفها آخرون بأنها “من ربات النفوذ والسلطان”.
احتقان بين السود والترك
باستخدام أموالها الخاصة، أكثرت رصد من شراء العبيد السود حتى بلغ عددهم في عهد ابنها المستنصر قرابة خمسين ألفاً فتحولوا بهذا العدد الضخم إلى فرقة كاملة من فرق الجيش الفاطمي.
وقد عمدت السيدة رصد إلى هذه الاستراتيجية بشكل خاص لتقليص نفوذ الترك في الدولة الأمر الذي أدى إلى احتقان شديد في عهد ابنها الذي تميز بأنه عهد اضطرابات لا سيما أن الدولة تدار عن طريق وسطاء لا تهمهم سوى مصالحهم الشخصية.
وبالفعل شهدت فترة حكم المستنصر العديد من الخلافات والمواجهات المسلحة بين الأتراك والعبيد في الجيش الفاطمي، في حين كانت السيدة رصد تدعم العبيد باستمرار بالمال والسلاح، وقد أدت هذه الخلافات بين الطرفين إلى الارتباك السياسي والضعف الاقتصادي في فترة حكم المستنصر.
نهاية التستري
كان لرئيس الديوان التستري مكانة خاصة لدى السيدة رصد، ومن ذلك المنطلق حاز على نفوذ واسع في الدولة الفاطمية مخلفاً لنفسه الكثير من الأعداء
فقد نقم عليه الوزير أبوصدقة الفلاحي، لتدخله الدائم في شؤون الوزارة، فتآمر ضده مع الأتراك، ففيما كان متوجهاً إلى القصر اعترضه ثلاثة جنود من الترك وضربوه حتى مات
وقد بلغ من كره المسلمين للتستري أن جميع الجنود اعترفوا بأنهم قتلوه فلم يستطع الخليفة معاقبة أي منهم.
بعموم الأحوال لم يكن الفلاحي أحسن حالاً من التستري فقد راح يستأثر بالسلطة لنفسه ويمنع أي أحد من التقرب إلى الخليفة، وقد كان يجد في السيدة رصد منافساً له، لذلك راح يثير الفتن بين طوائف الجيش المختلفة فيزيد من رواتب الجنود المغاربة والسودانيين على حساب البقية بحجة أنها رغبة السيدة أم الخليفة
وفي الحرب بين رصد والفلاحي كانت الغلبة للسيدة التي تمكنت من إقناع الخليفة بعزل الوزير وسجنته ثم قتلته كما فعلت بالأنباري من قبله
من بعد الفلاحي راح الوزراء يتساقطون كأوراق الخريف وفقاً للمؤرخين، فما أن يتم الأمر لوزير ما حتى يطاح به ويؤتى بغيره، الأمر الذي ترك أثراً سلبياً واضحاً على دولة المستنصر
الحَجْر على الخليفة
حتى بعد أن بلغ الخليفة الرشد لم يكن الحاكم الفعلي للبلاد، فقد كانت أمه ووزراؤها يتحكمون في جميع الشؤون الداخلية والخارجية، أما الخليفة فقد كان أشبه بالمحجور عليه
والمرة الوحيدة التي يُذكر أن الخليفة قد تدخل فيها بأعمال والدته كانت عندما أمر بمحاسبة أحد رجال الدولة، وهو الوزير القاضي ابن أبي كدينة بسبب أخذه لأموال من الخزينة، فضربه الخليفة وأمر بوضعه على آلة تعذيب تسمى “المعصار”، فتدخلت السيدة ومنعت الخليفة من قتل القاضي، وكانت هذه الحادثة التي أدت إلى اتخاذ الخليفة قراراً بالاعتكاف والتنحي عن شؤون الحكم
لكن أمه وحاشيتها ألحوا عليه حتى تراجع عن قراره، ويذكر كتاب “السيدة رصد ودورها في الحياة السياسية للدولة الفاطمية” لمؤلفه د.وسن محمد أمين، أن الخليفة قال وقتها: “أنا مغلوب على أمري ومدفوع عن أغراضي وقد تركت الأمر لمن غلبني”.
من أيدي “السيدة” إلى أيدي “الوزراء”
ليس من المعروف متى توفيت السيدة رصد على وجه التحديد، لكنها حكمت الدولة الفاطمية طوال فترة حياتها
وعلى ما يبدو لم يستأثر ابنها الخليفة المستنصر بالحكم بأي فترة من فترات حياته، رغم أنه بقي خليفة حتى وفاته عام 1094، فقد عانت الدولة الفاطمية في عهده الكثير من الاضطرابات الداخلية، كما سبق وذكرنا، كذلك أدى نقصان منسوب مياه النيل إلى ما عرف تاريخياً باسم “الشدة المستنصرية” أو “الشدة العظمى”؛ إذ انتشرت المجاعة في البلاد وامتدت لسبع سنوات متصلة
وبدأت الدولة الفاطمية التي قد كانت بلغت أشدها في عهد الظاهر بالانحدار والسقوط في عهد المستنصر، فخرجت كثير من البلاد عن سلطته فعادت بغداد إلى الخلافة العباسية، وقُطعت الخطبة للمستنصر في مكة والمدينة وخُطب للخليفة العباسي عبد الله القائم بأمر الله في سنة، ودخل النورمان صقلية واستولوا عليها فخرجت عن حكم الفاطميين عام 1071
وتداعى حكم المستنصر في بلاد الشام، فاستقل قاضي صور بمدينته عام 1070 وخرجت طرابلس من سلطان الفاطميين، واستقلت حلب وبيت المقدس والرملة عام 1071 ثم تبعتهم دمشق في العام التالي
كل تلك الأحداث دعت المستنصر لاستدعاء الوزير بدر الدين الجمالي، واليه على عكا، لتخليص البلاد من أزماتها وإعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة التي مزقتها الفتن وثورات الجند
وبالفعل استطاع الجمالي إعادة الاستقرار للبلاد، لكنه في المقابل استولى بشكل تام على السلطة، حتى أنه عيّن ولده وزيراً من بعده ليبدأ عهد جديد في الدولة الفاطمية عُرف باسم “عصر نفوذ الوزراء”.
عربي بوست