“عزيزة عثمانة”.. الأميرة التي أغدقت مالها على فقراء تونس حية وميتة
خسرت ابنها الوحيد وتغيّرت حياتها إلى الأبد، فأضحت تحقق أحلام الطبقات الكادحة والفقيرة، وتُساهم في بناء المساجد ودور الرعاية والمرافق العامة، لتكون بذلك أسطورة تونسية بأعمالها الخيرية ومآثرها.. فمن هي الأميرة عزيزة عثمانة؟
عزيزة عثمانة أو أميرة الفقراء كما كان التونسيون يدعونها، هي محققة أحلام الطبقات الكادحة والفقيرة، وهي من اختارت أن تتحدث عنها أعمالها الخيرية أكثر من المصادر المكتوبة، وهي بهذه الأعمال الخيرية أسطورة تونسية بدون أدنى شك.
وقد أفردت الجزيرة الوثائقية فيلما من إنتاجها بعنوان “عزيزة عثمانة”، فسلطت فيه الضوء على نشأتها وأسرتها العريقة، وعلاقتها بالطبقة الحاكمة في تونس، وعن مآثرها وأعمالها الخيرية التي سطّرت سيرتها في حياتها، وكتبت تاريخها بأحرف من نور بعد وفاتها، وحتى هذه الأيام.
دار الأمير عثمان داي.. مرابع العلم والأدب والمجد الأولى
في هذه الدار، دار الأمير عثمان داي وُلدت عزيزة عام 1660، وهي تنتمي إلى عائلة آل عثمان التي أسسها الداي عثمان المتوفى سنة 1611، وعزيزة هي ابنة أخيه، وهي من النساء المحظوظات في تلك الفترة، إذ نالت قسطا من التعليم في المجالين الأدبي والديني، وكل ما كان متاحا من المعارف في ذلك الزمان.
نشأت عزيزة في أسرة مُحبة للعلم، وتربّت على الثقافة الإسلامية، وتزوجت وهي صغيرة السن من ضابط سامٍ في الجيش العثماني بتونس، اسمه أبو القاسم بن محمد بن عثمان داي، وهو من أبناء عمومتها، وسُميت عثمانة لأن هذا الاسم يُعطى لأشهر شخصية في العائلة.
تولّى يوسف داي الحكم بعد عثمان داي، ثم برزت العائلة المرادية، وهي من صنف البايات المراديين، حيث ترسخ الحكم الباي المرادي في نهاية النصف الأول من القرن السابع عشر، ومن أشهر شخصيات البيت المرادي حمودة باشا الذي توفي عام 1666، وتولى الحكم من بعده ولده مراد المعروف باسم مراد بوبالا، وهو الذي عرف عنه القتل والتنكيل والتمثيل بأعدائه.
قُتل ابنها فأصبحت أم اليتامى والمساكين.. مصرع آخر العنقود
أنجبت الأميرة عزيزة أولادا كثيرين، لكنهم ماتوا ولم يبق إلا الصغير أحمد، وبعد موت زوجها أبي القاسم أصبح اهتمامها منصبا على ولدها الوحيد أحمد، لكن مراد الثالث نكبها في ولدها وقتله قتلة شنيعة عام 1699، ومن بعده تغيرت حياة أمه الثكلى إلى الأبد.
لكن تغيرها كان إيجابيا من بعده، فقد أرادت بفقده أن تكون أما لكل الفقراء وجميع المساكين، وأدركت أن حياتها يجب أن تكون مُجندة لخدمة الضعاف والمحتاجين والمرضى والثكالى واليتامى، فأنفقت كل ثروتها لانتشال كل ضعيف أنّى كان موقعه، وكيف كانت احتياجاته.
كانت باكورة أعمالها الخيرية أنْ أنشأت دارا للعجزة، وساهمت في جمالية المحيط من حولها، فكانت تبني وتُرمم وتضيء الجوامع والزوايا، وكانت توزع الخبز وأنواع الحلويات على المحتاجين في رمضان والأعياد، وكانت تقيم الكتاتيب لتعليم أبناء المسلمين الدين والثقافة الإسلامية.
إرث الأوقاف.. حسنات متفرقة في القبائل والأجيال
من أبرز مآثر الأميرة عزيزة كثرة الأحباس والأوقاف، وذلك بتجميد الممتلكات والانتفاع بريعها في الإنفاق على المرافق التي ينتفع بها الناس، مثل المساجد والزوايا ودور الرعاية والمرافق العامة، وقد استفاد كثير من القبائل التونسية من قطع الأراضي التي أقطعتهم إياها الأميرة عزيزة، ولا تزال ملكية هذه الأراضي مع أبناء تلك القبائل حتى يومنا هذا.
تعلمت عزيزة عثمانة بالإضافة إلى القرآن والحديث الأدبَ والشعرَ، وكانت مُطلعة على كتب التاريخ والحضارات، ومُحيطة بفنون عصرها الإسلامية منها وغير الإسلامية، وكانت تُحب الجمال فتستمع إلى الموسيقى وتهتم بالزهور، حيث تشهد بيئتها الامتزاج الثقافي والفني بين الموروث التركي والأندلسي.
أسست عزيزة أيضا مستشفى للأمراض العقلية (المارستان)، وكانت تُعزَف فيه الموسيقى كطريقة للشفاء، وكان يسمى ماريستان العزّافين، وحبست عليه الكثير من العقارات والممتلكات في حيّ سوق النحاسين، لكن أحمد الصادق باي نقله فيما بعد إلى موقعه الحالي في قشلة البشامقة، وبنفس اسم عزيزة عثمانة، وقد تحول لاحقا بعد الاستقلال إلى مستشفى جامعي.
عتق العبيد وتحبيس الشواطئ وغابات الزيتون.. ثمار رحلة الحج
قبل الحج كانت الأعمال الخيرية لعزيزة عثمانة تتمحور حول الأعمال العينية، ثم عزمت عزيزة على السفر إلى الحج، وذلك في خطوة تُعتبر جريئة وشجاعة جدا من امرأة في القرن السابع عشر، وقد حجّت برا وبحرا، وبعد الحج عادت لتعتق كل عبيدها، وأطلقت سراحهم جميعا، وقد انعكس هذا العمل المحمود على تونس خيرا، وجاء أحمد باشا باي بعد قرن ونصف من الزمان ليحرِّم تجارة العبيد قانونيا.
لقد طالت أياديها البيضاء كل مجالات الخير التي يمكن أن تقدَّم للفقراء والمساكين، فحبست الكثير من أموالها لتجهيز الفتيات المقبلات على الزواج، وحبست كذلك لختان أبناء المسلمين الفقراء في المناسبات الدينية الكبيرة، مثل يوم عاشوراء وأيام رمضان، وتكون بذلك قد أسست لفكرة التعاطف والتآزر بين أفراد المجتمع التونسي في ذلك الحين.
وبعد رحلة الحج قامت أيضا بتحبيس كثير من الغابات المزروعة بالزيتون على الفلاحين، بل قامت بتحبيس شواطئ البحر في جزيرة قرقنة للصيادين ليرتزقوا من بركات البحر، وما زالت شواطئ قرقنة حتى هذه الأيام ملكية خاصة بوثائق قانونية لسكان الجزيرة يحافظون عليها ويصطادون منها.
قبر الزهور.. سيل العطايا المغدقة على الأحياء والأموات
أنشأت الأميرة عزيزة تربة خاصة (أي مقبرة صغيرة) للعائلة الحاكمة، وكان عثمان داي قد دُفن قرب قبر الولي أحمد بن عروس في مقبرة مفتوحة سابقا، فأقامت له مقاما خاصا، وأضافت له قبّة وزيّنته بالزخارف والنقوش الهندسية.
وقد أوصت بأن تقدَّم الأزهار عند قبرها والقبور المجاورة في كل فصل من فصول السنة، وهذه العادة وإن لم تكن إسلامية فإنها تُظهِر مدى حبها للجمال والعناية به، سواء في حياتها أو بعد مماتها، هذا بالإضافة إلى التحبيس على قرّاء القرآن لتلاوة الذكر الحكيم على قبرها وقبور أجدادها، والدعاء لها في كل أسبوع.
وقبل وفاتها كتبت وصية تنازلت بموجبها عن جميع ممتلكاتها من عقارات وأموال لصالح الأحباس والأوقاف على بعض المعالم والأفعال الخيرية. على أن تاريخ وفاتها لم يكن محدَّدا بالضبط، لكن الدلائل التاريخية التي جرى استقراؤها تشير إلى أنها توفيت بعد عام 1727، أي أنها عاشت حوالي 70 عاما.
جنازة الأميرة.. موكب مهيب سار فيه جميع أهل تونس
كانت جنازة الأميرة عزيزة مهيبة جدا، حتى قيل إن جميع أهل تونس خرجوا في جنازتها حزينين ومودعين لهذه المرأة الفاضلة المثقفة المعطاءة، بل واعتَبر كثير من قطاعات الشعب التونسي أنهم أضحوا أيتاما منذ اليوم الذي ودّعوا فيه هذه الأميرة الكريمة.
لم يحفظ التاريخ اسم عزيزة عثمانة كامرأة وحسب، بل حملت اسم الأسطورة من خلال ما وهبته هي للفقراء والمحتاجين، ومن خلال تلك الأوقاف والأحباس التي قدمتها لشرائح متعددة من الناس، ومن خلال سبقها لعصرها الذي عاشت فيه، بل وفي العصور المتأخرة بعدها، في مجال العمل الخيري الذي أهدى السعادة ورسم الفرحة والبهجة على وجوه الفقراء، أطفالا وشيوخا، رجالا ونساء.
توفيت أميرة الشعب، أميرة الفقراء والمساكين لتحيا، وتحيا ذكراها في قلوب من أحبوها من طبقات الشعب الكادحة، وأهيل التراب على جسدها، لكن ذكراها ومآثرها بقيت عالقة في أذهان التونسيين، يتناقلون سيرتها جيلا بعد جيل، ويترسَّمُ خطاها كل الذين جاؤوا من بعدها، ممن رهنوا أنفسهم للبذل والعطاء، وانتشال الضعَفة والمساكين، والعطف على الفقراء والمحتاجين.
المصدر: مواقع إلكترونية