منوعات

كانت برامج الأطفال بمثابة حصص تعليم منزلية، لكن التلفاز أضحى بعد ذلك بمثابة صندوق مُخيف للعائلات العربية.. فما الذي تغير وما السر وراء كل هذا التغير؟

كانت برامج الأطفال بمثابة حصص تعليم منزلية، لكن التلفاز أضحى بعد ذلك بمثابة صندوق مُخيف للعائلات العربية.. فما الذي تغير وما السر وراء كل هذا التغير؟

في الفترة الممتدة بين منتصف الثمانينيات إلى غاية أواخر التسعينيات، كان انتهاء الدوام في المدرسة يعني شيئا واحدا؛ هو تواصل الحصص التعليمية في المنزل لكن بمتعة أكبر، حيث يتجمع الصغار وحتى الكبار أمام التلفاز لمشاهدة برامج الأطفال. لم يكن الآباء في ذلك الوقت مسكونين بخوف أو بهاجس من المحتوى الذي يشاهده أبناءهم، فقد كانت برامج الأطفال حينها بمثابة مربية منزلية، أو حصص تعليم خصوصية تعين الآباء على تربية أبنائهم.

فما الذي تغير في ظرف سنوات قليلة ليصبح التلفاز بمثابة صندوق مخيف للعائلات العربية، يمكن أن يقدم برامج تدمر أجيالا بأكملها؟

“افتح يا سمسم”.. ظاهره الترفيه وباطنه التعليم

يستحضر جيلان كاملان في كل الدول العربية ذكريات مشتركة عن نعمان وملسون والضفدع كامل وأنيس وبدر في البرنامج التعليمي الشهير “افتح يا سمسم”، الذي أنتجته مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي، وبث 390 حلقة على امتداد ما يقارب أربعين عاما.

كانت شخصيتا نعمان وملسون الأشهر على الإطلاق لدى جيل الثمانينيات، وكانا بطلين من ابتكار عربي، على عكس بقية الشخصيات التي استُلهمت من شخصيات ظهرت في المسلسل الأمريكي الشهير “شارع سمسم” (Sesame Street).

تميز أسلوب البرنامج بالسهولة والسلاسة، وتفنن في تقديم المعلومة بشكل مُشوّق، وكان هذا البرنامج بمثابة كتاب تعليمي ممتع، حيث يقدم طرق تعلم الحروف والأرقام بشكل سهل. يدوم برنامج افتح يا سمسم قرابة نصف ساعة، وكانت تلك الدقائق تعادل ساعات من حصص التربية خلال الدوام في المدرسة، ففي بضع دقائق يتلقى الطفل جرعة كبيرة من التربية على اكتساب قيم إنسانية واجتماعية، مثل التسامح واحترام الصغار للكبار.


جمع مسلسل “افتح يا سمسم” أخصائيين في اللغة العربية وعلوم التربية، وعمل طيلة عقد كامل (أي بين العامين 1979 و1989) على تربية الطفل العربي، وهو أسلوب يؤدي إلى تميز الأطفال الذين يتابعونه، بحسب دراسة نشرت في المجلة المتخصصة “علم النفس اللاقياسي” بعنوان “التعزيز المتبادل والتعلم بالمحاكاة”، إذ تقول: يحصل الأطفال الذين يشاهدون البرامج التعليمية، أو الصور المتحركة على درجات أعلى ممن يشاهدون نوعية أخرى من البرامج الترفيهية البحتة، أو تلك التي تحتوي على مشاهد عنف لا تُناسب سنهم، كما أنهم يكونون أكثر إقبالا على القراءة، ويكونون أكثر إبداعا من غيرهم من الأطفال.

اختطاف الدميتين الأصليتين.. جرائم الحرب

غاب مسلسل “افتح يا سمسم” عن التلفزيون إبان اندلاع حرب الخليج الثانية، وبثت منه حلقات معدودة، في حين فقدت حلقات أخرى، فقد كان الكويت ميدان تصوير البرنامج، وحين قامت العراق باحتلال الكويت في أغسطس/آب عام 1990، كان من بين ضحايا الحرب دميتا نعمان وملسون الأصلية، فقد فقدتا خلال أيام الحرب، ولم يعثر عليهما أبدا.

ويتهم الفنان السعودي المقيم في الكويت عبد الناصر الزاير (أحد الممثلين في المسلسل) في أحد حواراته في صحيفة “الرياض” في العام 2007، القوات العراقية باختطاف نعمان وملسون.

انقطع بث “افتح يا سمسم” لمدة خمس وعشرين عاما، ليعود إنتاجه وبث الموسم الرابع منه بين العامين 2015-2019.

“لوز وسُكّر”.. دروس الأخوة والوفاء في عالم الدببة

كان اختفاء دميتي نعمان وملسون الشخصيتين المحبوبتين لدى جيلين من الأطفال نذيرا بعصر جديد من الصور المتحركة، لكن قبل أفول عهد من برامج الأطفال التعليمية والصور المتحركة الهادفة، كانت أواخر السبعينيات وحتى التسعينيات عصرا ذهبيا يحنّ إليه ملايين الكهول العرب الذين شغفوا بالرسوم المتحركة، فالمتجول في صفحات التواصل الاجتماعي تشده صورة جروين من الدببة أحدهما بني والآخر أبيض، الأول يدعى لوز والثاني سكر، واشتهر الثنائي بأنهما رمز الوفاء والأخوة القوية.


قد لا يستحضر كثيرون تفاصيل الرسوم المتحركة “لوز وسكر” التي عرضت لأول مرة في اليابان عام 1977، لكن الرسائل الإنسانية التي جاءت على لسان جروين من الدببة كانت قوية، وها هي بعد قرابة نصف قرن تصبح بمثابة الحكم التي ينطق بها بطلان من أبطال رسوم متحركة بدائية الملامح.

حضور في الذاكرة وتقليد في الأسلوب.. فن صناعة الأجيال

لا شك أن ما يأتيه بطل من أبطال الرسوم المتحركة له من القوة ما يجعله معلّما للطفل، فحسب دراسات أجرتها جامعة ميشيغان، فإن الأطفال ينجذبون بقوة إلى الصور المتحركة أكثر من طرق التعلم الأكاديمي التقليدية، وهم لا يتعلمون من الرسوم المتحركة فحسب، بل يستحضرون مما خزنته ذاكرتهم لتقليد سلوك أبطال المسلسلات الكرتونية.

فعلى سبيل المثال كان سامي بطل مسلسل الرسوم المتحركة “أنا وأخي” الذي عرض منتصف تسعينيات القرن الماضي؛ يمثل قدوة أطفال كثيرين في القوة وتحدي الظروف الصعبة وقوة رابطة الأخوة، وهي الرسائل ذاتها التي ضمنها كرتون “سالي” الذي بُث في الثمانينيات، فكان سلسلة أحداث أثقلت كاهل البطلة التي ينقلب مصيرها في الحلقات الأخيرة إلى الأفضل، فتنال جزاء صبرها وطيبتها وحبها للخير.

لا يختلف مسلسل “سالي” عن “ريمي” الطفل اليتيم الذي يبحث عن أمه، ويواجه الأخطار ويموت أصدقاؤه، لكنه يتغلب على كل الشرور، ليلتقي في نهاية المطاف بأمه.


تتشارك قصص “سالي” و”ريمي” الكرتون الفرنسي الذي بث أواخر الثمانينيات “بيل وسيباستيان” في إبراز قيمة العائلة، وخاصة الأم، والكفاح والصبر من أجل لم شمل العائلة، وتجذب تلك القصص الأطفال ليعيشوا أحداثها بشغف، فيتعاطفون مع الأبطال ويشاركونهم تفاصيل حزنهم وفرحهم.

ألاعيب الدماغ وجاذبية الأبطال.. فطرة البحث عن التجارب

حسب دراسة نشرتها “النشرية الدولية لعلم النفس” بعنوان “تجربة أطفال في مستويين عمريين لثلاث أنواع من الرسوم المتحركة”، فإنه غالبا ما يبحث عقل الطفل عن تجارب جديدة في سن مبكرة، وهذا هو السبب الذي يجعل الرسوم المتحركة مغناطيسا قويا يجذب الأطفال، بل يجعلهم يتخدرون أمام التلفاز أثناء مشاهدة مسلسلات الرسوم المتحركة، ليصبح عالمهم الأوحد خلال عشرات الدقائق.


وتقول الدراسة: يكفي أن يتوفر سيناريو مكتوب بإتقان ومؤثرات صوتية ومرئية مغرية وشخصية ذات مظهر جذاب، لتصبح كلها عوامل رئيسة تجعل الطفل يتعلق ببطل الرسوم المتحركة، فيبدأ دماغه تلقائيا في متابعة مسار البطل ومحاولة تقليده حتى في أدق التفاصيل، بما في ذلك حديثه وطريقة تفكيره وحركات جسده، وحتى طريقة ارتداءه للملابس.

فمثلا من ذا الذي لم ينبهر برميات الكابتن ماجد لاعب كرة القدم البارع، حتى أن شوارع الأحياء أصبحت أغلبها ميادين فريق “المجد”، فكان كل طفل في ذلك الحي متلبسا بشخصية الكابتن ماجد وحركاته في الملعب.

جيل سبيستون.. نهاية عصر الرسوم التعليمية

طيلة عقدين من الزمن، لم تكن العائلات مسكونة بهاجس تأثير التلفزيون وبرامج الأطفال والرسوم المتحركة في سلوك أطفالها، كان الآباء يودعون أبناءهم بطمأنينة في قاعات الجلوس، ليغيبوا ساعة أو نصف ساعة في عوالم أبطال الرسوم المتحركة، لكن في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفينيات، بدا أن عصرا جديدا من برامج الأطفال والرسوم المتحركة قد ولد في العالم العربي.


في شهر مارس/آذار عام 2000، بثت قناة “سبيستون” لأول مرة برامجها، وغطّى ذلك البث عددا كبيرا من الدول العربية، كانت تلك المحطة وجهة أنظار آلاف الأطفال في العالم العربي، وتزامن انطلاق بث محطة “سبيستون” مع ابتكار جيل جديد من الصور المتحركة التي أصبحت إحدى أيقونات القناة، وهي سلسلة “أبطال الديجيتال” أو “الديجيمون”، وهي سلسلة رسوم متحركة مليئة بالحركة من خلال الحروب التي يقودها أبطال المسلسل ضد فيروسات رقمية.


“بوكيمون”.. حلقة تحمل مئات الأطفال إلى المستشفى

بالتوازي مع عرض “الديجيمون”، عرضت قناة “آرتينز” وقناة “أم بي سي” ومصر الثانية المسلسل الكرتوني الياباني “بوكيمون” الذي أبهر أطفال تلك الفترة، حتى غزت مجسمات بيكاتشو وملصقات أبطاله غرف الأطفال وملابسهم. ومن هناك لاحت بوادر عصر جديد ومخيف.

في العام 1997، تسببت الحلقة الثامنة والثلاثون من مسلسل “بوكيمون” المستوحى من لعبة فيديو نينتندو الشهيرة في إدخال قرابة 600 طفل ياباني إلى المستشفى بعد إصابتهم بنوبات الصرع ومشاكل في التنفس وتهيج في العين.

في تلك الحلقة يظهر “الفأر” الأصفر المسمى “بيكاتشو” ليُلقي قنبلة مضادة للفيروسات في الحاسوب، وذلك عبر صاعقة ضوئية متمثلة في وميض أزرق وأحمر انطلق من عيني الفأر دام مدة خمس ثوان. مُنعت تلك الحلقة في اليابان في العام 1997، ولم تبث منذ ذلك الحين.

ولم يكن أثر الصور المتحركة الأخرى أقل حدة من سلسلة “بوكيمون”، ففي كتابها “علم نفس الرسوم المتحركة” تستدل المتخصصة الفرنسية في علم النفس السريري “جينوفياف دجيناتي”، على قوة تأثير أبطال الرسوم المتحركة في الأطفال، وتستحضر ما أقدم عليه طفل أراد تقليد “سبايدر مان” بطل سلسلة الرسوم المتحركة الشهيرة، حيث رمى بنفسه من أحد طوابق بناية عالية، مُقلّدا الرجل الخارق الذي يطير ويقفز من عُلوّ شاهق.

“دراغون بول”.. عنف وتمييز وإيحاءات جنسية تثير الجدل

قبل بث الكارتون “بوكيمون”، احتدم الجدل بسبب مسلسل الرسوم المتحركة الياباني “دراغون بول” الذي امتد على 291 حلقة، ووُصف هذا العمل بأنه يُروّج للعنف والأنانية والتمييز على أساس الجنس، وفي العام 1991، سلّط المجلس الأعلى السمعي البصري الفرنسي عقوبة على قناة “تي أف 1” بسبب بثها محتوى يتضمن “عنفا وسادية”، وذلك بعد بثها حلقة من مسلسل “دراغون بول” قبل موعد الأخبار، أما في إسبانيا فمُنع بث هذا العمل بسبب تشجيعه على التمييز الجنسي.

لقي الكرتون “دراغون بول” انتقادات كثيرة بسبب مشاهد جنسية لا تُلائم الأطفال، وهي غالبا ما تقترن بأحد شخصيات السلسلة، وهو المعلم العجوز “روشي” الذي لا يتوانى عن لمس الفتيات أو النظر إليهن بشهوانية، وأدى مشهد مماثل قام به العجوز إلى المنع في الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي النسخة الأمريكية من هذا الكرتون المثير للجدل الذي لا يزال يُبث حتى الآن في دول عدة؛ تُحذف صور الدم خلال مشاهد العراك فيه، وذلك عن طريق تلوين البقع.

شاشات العنف العربية.. ريح تلهب معدلات الجريمة

في دراسة قام بها مدير الإعلام بالمجلس العربي للطفولة والتنمية الباحث عبد المنعم الأشنيهي وجد أن إحدى القنوات العربية تبث للأطفال أكثر من 300 جريمة قتل، بالإضافة إلى أن ما يقارب 50% من محتواها يتمثل في موضوعات جنسية، أما الباقي فهو موضوعات عنف وجريمة.

في العام 2000 أنتج اليابان أكثر من 22 ساعة أسبوعيا من أفلام الرسوم المتحركة، أي ما يعادل قرابة 1144 ساعة سنويا، في حين لا تبلغ نسبة الإنتاج العربي للرسوم المتحركة سوى 2% من الإنتاج الياباني.

فلا نستغرب أننا نحن العرب قد ساهمنا في تلويث عقول أطفالنا، فقد كان لشراء السلاح الأولوية الأولى.

المصدر: مواقع إلكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى