“بطرق لا تخطر على بال” تمكنوا من جمع مليارات الدولارات وفي وقت قياسي.. ماذا تعرّف عن “الأثرياء الأربعة” الذين أدهشوا العالم؟
يمثل مقر بورصة العملات الرقمية “إف تي إكس” في هونغ كونغ فضاءً يلتقي فيه التمويل العالي بفوضى المراهقين. في تمام الساعة 7.30 مساءً، يتوافد الموظفون مرتدين سراويل وقمصان قصيرة إلى العمل، وينتشرون بين المكاتب المجهز كل واحد منها بست شاشات.
وحيث تتناثر الصناديق والأغراض هنا وهناك من القيثارات وصولا إلى كرات الريشة الطائرة. يوجد أيضًا طاولة طعام عليها علب الطعام الجاهز من أجل الموظفين الجائعين، بينما يتنافس التجار والمطورون في لعب الشطرنج. ومن جهته، يقوم المسؤول الفني سام بانكمان فرايد Sam Bankman-Fried، مؤسس “إف تي إكس” FTX، الملقب بـ “ملك الأندية” أو “العم سام”، بزخرفة الجدران. وعندما ترتفع أسعار البيتكوين بشكل كبير، غالبا ما تنظم منافسة بوكر في غرفة اجتماعات مزدحمة.
تعتبر بورصة “إف تي إكس” للعملات الرقمية التي تأسست منذ سنتين من أشهر منصات تداول العملات الرقمية. في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، جمعت المنصة 420 مليون دولار من مستثمرين بارزين على غرار “بلاك روك” أكبر صندوق لإدارة الأصول في العالم، وشركة “سيكويا كابيتال” العملاقة المتخصصة في رأس المال الاستثماري، التي قيّمت المنصة “إف تي إكس” بـ 25 مليار دولار – وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط من جولة التمويل السابقة التي قدرت بـ 18 مليار دولار.
حصلت الشركة على حقوق التسمية في ساحة فريق “ميامي هيت” لكرة السلة، وظهرت على الزي الرسمي لنخبة حكام البيسبول في إعلانات مباراة “سوبر بول” بعد سلسلة من صفقات الرعاية التي تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات التي وُقعت في سنة 2021. وسيظهر شعارها قريبًا على سيارات فريق مرسيدس في سباق الفورميلا 1 وبدلات السائقين أيضًا. نجحت المنصة في اكتساب مكانة في السوق البورصات المنافسة في مجال العملات الرقمية، وهي تحتل حاليا الصدارة في ترتيب المراكز الأربعة الأولى. وتقدر صافي ثروة صاحبها بانكمان-فرايد البالغ من العمر 29 ربيعا بأكثر من 22 مليار دولار.
يُعد الشاب الطموح أحد أربعة لاعبين رئيسيين في منافسة ملحمية للهيمنة على قطاع تضاعفت قيمته السوقية الإجمالية 12 مرة منذ بداية سنة 2020 لتصل إلى 2.3 تريليون دولار (اعتبارًا من منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2021). خطف بانكمان فرايد الأضواء من تشانغ بينغ تشاو Changpeng Zhao، الرئيس الصيني الكندي لـ”بيانانس” Binance أكبر بورصة تشفير (الذي يبلغ من العمر 44 سنة، وهو الأقدم في هذا المجال من بين الأربعة).
تمكن هؤلاء الأربعة من جمع ثروات بقيمة المليارات الدولارات واكتساب نفوذ ضخم في غضون بضع سنوات فقط
قبل ثلاث سنوات، كان تشاو قد افتك مكان آرثر هايز Arthur Hayes، المؤسس المشارك من أصل أفريقي لشركة “بيت ميكس” BitMEX التي كانت رائدة في المنتجات الأكثر شعبية والأكثر خطورة في عالم التشفير. من جهته، يتخذ بريان أرمسترونغ Brian Armstrong، الرئيس التنفيذي لـ “كوين بايز” Coinbase – وهي البورصة الوحيدة المدرجة والمنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية – خطوات متأنية على أمل أن يتمكن من جذب المضاربين القلقين من التداول من خلال التبادلات الخارجية الأقل خضوعًا للرقابة على منصته المعترف بها.
تمكن هؤلاء الأربعة من جمع ثروات بقيمة المليارات الدولارات واكتساب نفوذ ضخم في غضون بضع سنوات فقط. في مجال التمويل التقليدي، حيث يشيع اقتراض الأموال أو إنفاقها أو توفيرها، فإن أقوى الوسطاء هم المصرفيون وشركات الدفع ومديرو الأصول. ولكن العملات الخاصة تُستخدم اليوم في أغلب الأحيان للمضاربة، وهو ما يجعل رؤساء هذه البورصات – الذين يوفرون للمضاربين أدوات ومنصات التداول – ملوك العالم الذي من المفارقات أن يتلخص سبب وجوده في التخلص من الوسطاء الأقوياء.
يتبنى ملوك عالم التشفير آراء مختلفة لأسباب عديدة. فهم يجادلون مثلا بأن التنظيم ليس تهديدًا لكنهم مع ذلك يبدأون في الانتقال من قاعدة إلى أخرى عندما يبدأ المراقبون المحليون في التذمر. يشك البعض في صدقهم، بينما يعزو آخرون نجاحهم إلى حسن استغلال التوقيت بدلاً من التحلي بالرؤية الريادية. وفي حين يتعجب المؤمنون بمهارتهم من تعاملهم مع الأسواق المضطربة، يتساءل البعض إلى متى يمكنهم الاستمرار في فعل ذلك.
في المقابل، لا يُعرف سوى القليل عن حياتهم الشخصية ومعتقداتهم وتطلعاتهم. ومن خلال المقابلات مع ثلاثة من المؤسسين، بالإضافة إلى المطلعين، حصلت مجلة “ذي إيكونوميست” على فكرة عما يتطلبه أن تكون من أقوى الأشخاص في عالم التشفير – وما قد يتركونه وراءهم بمجرد رحيلهم.
رفض آرثر هايز، المتهم في الولايات المتحدة بفشل مكافحة غسيل الأموال وينتظر المحاكمة، المشاركة لكن مراسل المجلة تحدث إلى مصادر تعرفه جيدًا. وهو ينفي ارتكاب أي مخالفات.
ينحدر معظمهم من عائلات تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، وأظهروا منذ البداية نبوغًا وتميزًا في الدراسة. يقول فرايد، ابن أستاذي قانون في جامعة ستانفورد، إنه كان “الألمع” في الرياضيات. أما تشانغ بينغ تشاو، الذي درّس والده علم الجيوفيزياء بعد فراره من الثورة الثقافية في الصين، فقد صُنف ضمن المراكز العشرة الأولى في مسابقة الرياضيات الوطنية في كندا. وحصلت والدة أرمسترونغ المولودة في كاليفورنيا على درجة الدكتوراه في المعلوماتية الحيوية. وعمل والدا هايز في التصنيع في جنرال موتورز في بوفالو وديترويت، لكنه فضل الكيمياء والاقتصاد بعد أن حصل على منحة دراسية في مدرسة خاصة.
بداية النجاح
حتى في ذلك الوقت المبكر، كانت هناك الكثير من المؤشرات عن الاهتمام بريادة الأعمال. في المدرسة الثانوية، علم أرمسترونغ نفسه كيفية البرمجة وأسس موقعًا للتجارة الإلكترونية يعرض أجهزة كمبيوتر تم تجديدها باع منها 50 جهازا تقريبا. ولم يكن الشخص الوحيد الذي وجد الجامعة عبثية في بعض الأحيان. يقول تشاو: “لقد كنت أواجه صعوبات في الرياضيات والفيزياء، لأنهما كانا من المواد النظرية”. وكمهاجر من الجيل الثاني، أراد أن يتعلم كيف يمكنه تحقيق “الحرية المالية”.
80 بالمئة من الناس سيقبلون المدفوعات بواسطة العملة الرقمية في غضون خمس إلى عشر سنوات من الآن
بدأ البحث عن الحرية المالية في شركات التكنولوجيا التجارية، حيث كان تشاو يصوغ الشفرات، في حين عمل كل من هايز وفرايد في وول ستريت. أما أرمسترونغ فقد استفاد من الانضمام إلى “إير بي آن بي”، وهي شركة لتأجير مساكن العطلات تقدر قيمتها السوقية في الوقت الحالي بحوالي 115 مليار دولار، ولديه أسهم فيها. يقول دان روميرو، أحد الموظفين الأوائل في “كوين بايز”، إن قرار أرمسترونغ بالخروج مبكرًا منها يدل على مدى ثقته في العملات المشفرة.
بالنسبة لأرمسترونغ، كان الدافع وراء ترك عمله الرحلة التي أداها بعد تخرجه من الكلية إلى الأرجنتين، حيث كانت طباعة النقود المتهورة تغذي التضخم المفرط. أما دافع هايز فكان تعرضه للطرد من البنك الذي كان يعمل فيه. قرأ هايز مقالات عن عملة بيتكوين على مدونة زيرو هيدج المالية الليبرالية، فأصبح مفتونًا بندرتها – فتقنية البلوكتشين التي تقوم عليها البيتكوين تتيح “تعدين” 21 مليون عملة منها فقط. كما هو الحال مع الذهب، فإن محدودية العرض يمنح البيتكوين المزيد من القيمة. هذا ما جعل تشاو يدرك أن البيتكوين ستعزز القطاع المالي مثلما عززت الإنترنت قطاع المعلومات. ومن جهته، رأى فرايد ببساطة فرصة لإبرام “صفقات مربحة”.
لم تتحقق أسمى رؤى المؤسسين: فقد انفجر سعر البيتكوين من 700 دولار في سنة 2016 إلى 50 ألف دولار في منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر، ولكن نادرًا ما يتم استخدامها في المدفوعات. لكنهم مع ذلك يجادلون بأنها في نهاية المطاف سوف تعزز “الحرية الاقتصادية” من خلال تقديم بديل للعملات “الورقية” التي يتم إدارتها بشكل سيء وتعزيز الشمولية المالية وتقليل رسوم المدفوعات عبر الحدود وتمكين الشركات الناشئة من الحصول على التمويل أينما كانت.
يتوقع تشاو أن 80 بالمئة من الناس سيقبلون المدفوعات بواسطة العملة الرقمية في غضون خمس إلى عشر سنوات من الآن. وهو يقول إنه قبل سنتين كان “من الوقاحة” السؤال عما إذا كان بالإمكان دفع ثمن مشروب بالعملات المشفرة، ولكن الوضع تغيّر.
نظرًا لعقيدتهم المعلنة، قد يبدو من الغريب أن هؤلاء المؤسسين لا يديرون شركات متخصصة في المدفوعات الإلكترونية وإنما شركات أشبه بالكازينوهات الرقمية العملاقة – على حد تعبير بعض المتشككين. بدأ هايز مسيرته المهنية في مجال التشفير عن طريق شراء عملات البيتكوين في الخارج ومبادلتها بالنقود في الصين، حيث كان يتم تداولها بزخم كبير، قبل عبور الحدود بأكياس من الأوراق النقدية. كانت شركة “بيت ميكس”، التي شارك في تأسيسها في سنة 2014، رائدة في “العقود الاشتقاقية” للعملات الرقمية – وهي عقود تسمح للمضاربين بالمراهنة على الأداء المستقبلي للأصول الرقمية.
ازدهرت الشركة عندما بدأت في تقديم رافعة مالية بقدرة 100X، مما يعني أنه يمكنها تحويل حساب 10 آلاف دولار في “بيت ميكس” إلى رهان بمليون دولار؛ بينما قامت كل من شركة “إف تي إكس” و”باينانس” بدفع سقف الرهان أعلى من ذلك. في الولايات المتحدة، يحظر المنظمون البورصات من تقديم مثل هذه المنتجات عالية المخاطر إلى المستثمرين غير المحترفين، ولكن لا يزال بإمكانهم شراءها عن طريق برامج رخيصة مثل “الشبكة الخاصة الافتراضية” للتحايل على القيود المفروضة. وفي الوقت الراهن، يتجاوز حجم العقود الاشتقاقية المتداولة حجم المعاملات الفعلية للعملات المشفرة.
لا يرى المؤسسون أي تناقض. عندما أطلق أرمسترونغ منصة “كوين بايز” – التي لا تعمل في مجال المشتقات وإنما تقدمت بطلب للحصول على ترخيص للقيام بذلك – جادل أرمسترونغ بأن إنشاء بورصة موثوق بها من شأنه أن يساعد في جعل ما كان في ذلك الوقت منتجًا هامشيًا يصبح منتجا سهلًا وآمن الاستخدام. وبعد تسع سنوات، لم يتغير موقفه بشأن هذا الموضوع. من جهته، يقول تشاو إن مهمته ليست “مجرد جني الأموال ولا إنقاذ العالم” وإنما تزويد الناس بمزيد من الخيارات.
مهما كان الهدف، يبذل أربعتهم جهودا حثيثة. فأرمسترونغ، الذي يصف نفسه بأنه “بومة الليل”، يبدأ العمل على الساعة 10 صباحًا وينتهي عند منتصف الليل. أما تشاو، الذي يعمل فقط من المنزل، يعقد اجتماعات عن بُعد مع مساعديه ستة أيام في الأسبوع. وينام فرايد في الغالب على كيس محشو بجوار مكتبه من أربعة إلى خمس ساعات في اليوم بين الاجتماعات المجدولة على مدار الساعة، ولا يميز كثيرًا بين العشاء والفطور إلا من خلال المطاعم المفتوحة لتوصيل الطعام. وفي اليوم الذي تحدث فيه إلى مجلة “ذي إيكونوميست”، كان من المقرر أن تكون “مكالمته الأخيرة في تلك الليلة” في الخامسة صباحًا.
لا مجال للحظ في عالم التشفير
يبدو أنّ الذكاء والمثالية الممزوجة بحسن اقتناص الفرص والقدرة الجسدية على التحمل هي العناصر الرئيسية التي تحتاجها لتصبح رائدًا في مجال التشفير.
ورغم أوجه الاختلاف الواضحة بين هؤلاء المؤسسين، فإن ثلاثة مجالات هي التي تقرر من سيصبح أكثر ثراء ومن سينتهي به المطاف إلى تشكيل مستقبل الصناعة والسيطرة عليها.
قد يفسر مدى غرور هايز وحبه للمظاهر سبب عدم تعامل المنظمين الأمريكيين معه بلطف، والمجال الأول هو أسلوب الإدارة. الأشخاص المقربون من فرايد يصفونه بأنه قادر على التعامل مع التفاصيل غير العادية أثناء ممارسة الكثير من المهام، من التعامل مع مشكلات البورصة إلى المشاريع الجانبية الطموحة (بما في ذلك سولانا، وهي سلسلة كتل فائقة السرعة). هو يعترف بأنه شخص عملي. على العكس من ذلك، يمزح تشاو بحقيقة كونه “مديرًا ضعيفًا”. تهيمن منصة “باينانس” على تداول العقود الآجلة للعملات الرقمية – وهي نوع من المشتقات المالية – ولكن نادرًا ما يشارك فيها تشاو. وفي سنة 2018، قامت المنصة بشراء “تراست”، وهي محفظة تشفير شهيرة؛ وعندما أجرت مجلة “إيكونوميست” مقابلة معه، لم يكن حينها تشاو قد تحدث إلى مؤسسها – الذي لا يزال يديرها – لستة أشهر.
أما أرمسترونغ فيمكن تصنيفه في مكان ما بينهما من حيث الالتزام في قيادته للمجموعة وفيما يتعلق بالشفافية والتواضع – وهو ما يتماشى مع مؤهلاته كطالب جيّد. طلب من كبار مديريه ترشيح ستة نواب محتملين لهم حتى تكون الشركة قادرة على “الصمود أمام اختبار الزمن”. وهو يشجع الموظفين على تقديم شكوى، وذلك رغم تدني مكافأته الموعودة متمثلة في 20 دولار (بالعملات المشفرة) لمن يقدم الملاحظات الأكثر سلبية.
إن هايز هو الأقرب من بين الأربعة ليكون المدير التنفيذي المتألق. فهو جذاب ومفتول العضلات وله حضور قوي على شاشة التلفزيون. ويُشبّهه ريتش روزنبلوم من شركة “جي إس آر” للتداول “بجيمس بوند في إدارة الشركة”. وهو أيضًا الأقرب إلى تقديم رؤيته الذاتية بشأن هذا القطاع من خلال مقالاته نصف الشهرية التي تلهم حاضر ومستقبل التمويل الرقمي.
من المؤكد أن أسلوب حياة هايز النشيط يجعله قريبًا جدا إلى أسلوب حياة الجاسوس البريطاني الخيالي. في سنة 2018، وصل إلى معرض تجاري خاص بالعملات الرقمية في سيارة لامبورغيني برتقالية اللون، وقام بنشر تغريدة لمتابعيه فيما بعد قال فيها: “هل رأيتم رحلتي اليوم؟”. يقوم بالتزلج في هوكايدو، ويلعب الإسكواش في دوري الهواة في هونغ كونغ، ويمارس اليوغا يوميا، وقد بدأ للتو في ممارسة رياضة الألواح الشراعية. وهو يرتدي القمصان الضيقة والساعات الفاخرة. في سنة 2018، قام بتجهيز المكتب الرئيسي لشركة “بيت ميكس” في هونغ كونغ بحوض أسماك عملاق يحتوي على أسماك قرشٍ حيّة، مما يجعل منه النسخة الشريرة لبوند. ويتناقض طبعه مع بقية المؤسسين الآخرين، الذين لا يمتلكون سيارات أو ممتلكات فخمة أو أسماكا مفترسة، إذ يتشارك فرايد الشقة مع أصدقائه القدامى في العمل، بينما يستخدم تشاو غرفة واحدة من شقته المستأجرة للعمل وهو يحب أن ينثر هواتفه الآيفون الستة لتزيين سطح مكتبه.
قد يفسر مدى غرور هايز وحبه للمظاهر سبب عدم تعامل المنظمين الأمريكيين معه بلطف. لكن موقفه من السلطة، أي النقطة الثالثة للاختلاف بين المؤسسين الأربعة، هو أكثر ما يثير غضبهم. في سنة 2020، تم اتهامه رفقة مؤسسي “بيت ميكس” بالفشل في إدارة ضوابط مكافحة غسيل الأموال على المنصة. وقد أثار هذا القرار غضب هواة التشفير. ويبدو أنه يدفع ثمن كونه اللاعب الأول في هذا المجال في وقت لم تكن فيه القواعد قد كُتبت بعد، حتى أن البعض يجادل بأن المؤسسة المالية شعرت بالتهديد من طرف رجل أسود ناجح دون أن ينبس بكلمة.
يقرّ الكثيرون من خارج القطاع بأنه هو من جعل نفسه مستهدفًا. ففي سنة 2016 قال إنّ استراتيجية بيت ميكس تركز على ” المضاربين المضطربين”. في ذلك الوقت، استهدفت الشركة العملاء المحتملين المقيمين في الولايات المتحدة وتفاخرت بحقيقة أن التسجيل على منصته “يستغرق أقل من 30 ثانية”. وردًا على سؤال حول سبب تسجيل شركة بيت ميكس بشكل قانوني في جزر سيشل في سنة 2019، أشار إلى أن رشوة المنظمين الأمريكيين تكلف أكثر وأنّ ثمن الأرخبيل كان “حبة جوز هند”. يرفض المؤيدون مثل هذا الطبع باعتباره استعراضًا لا يعكس حقيقته كرجل عميق. ويبدو أن حس دعابته لم يرق لمكتب التحقيقات الفيدرالي. وبعد ذلك بسنة واحدة، حذر رئيسها في نيويورك من أنه ورفاقه “سيعلمون قريبا أن ثمن جرائمهم المزعومة لن يتم دفعه بالفاكهة الاستوائية”.
على النقيض من ذلك، نجد أرمسترونغ، الذي يقوم نموذج أعماله على توفير أكثر البورصات ثقة وتوافقًا مع القوانين الأمريكية. منذ البداية، كان بإمكانه ملاحظة أن حجم التشفير الضخم سيكون محل “الكثير من التدقيق”. ولهذا السبب، كان محامٍ وضابط امتثال من بين الموظفين العشرة الأوائل الذين عينهم، وكان يرتدي بدلة رسمية لمقابلة المنظمين. وهو يقر بأنه “كان من المؤلم في بعض الأحيان” مشاهدة ما باستطاعة المنافسين الأحرار فعله. لقد كان حدسه في محله، في الأشهر الأخيرة كانت الهيئات الرقابية في جميع أنحاء القلقة من النمو الهائل للعملات المشفرة بتضييق الخناق على المستثمرين. من جهتها، أعلنت الصين أن جميع المعاملات بالعملات الرقمية غير قانونية، بينما تسعى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية للحصول على سلطات جديدة لتنظيم ما يسميه رئيسها “الغرب المتوحش” للتشفير.
المنافسة على العملات الرقمية لم تنته بعد. تمامًا مثل لاعبي النخبة في تكساس هولديم، لا يزال المؤسسون الأربعة حتى الآن يحتفظون بأهم أوراقهم ولن يقدموا على رهان كبير إلا عندما يبدو أن المكافأة تستحق المخاطرة
يؤكد أرمسترونغ الآن أنه يريد أن يكون “موردًا تعليميًا” للمنظمين مشيرا إلى أنه سيسعى للتأثير على القواعد خلال عملية صياغتها، وهو أمر من الصعب على بقية المؤسسين القيام به. من جانبه، يوافق فرايد على أن الحملات المحلية يمكن أن يكون لها قريبًا جدًا آثار ملموسة على منصة “إف تي إكس”، فإذا نسجت هونغ كونغ على منوال الصين فقد تضطر شركته إلى نقل معظم موظفيها، وهو ما يمكن أن يحدث “بعد سنتين من الآن”.
نهاية اللعبة
إن حالة عدم اليقين تثير العديد من الأسئلة في أذهان المؤسسين، على غرار تأثير الحملة التنظيمية الأكثر صرامة أو تراجع أسعار البيتكوين لفترات طويلة على ثرواتهم. تعتبر جميع ثرواتهم كبيرة على الورق، لكن وحده أرمسترونغ لديه ثروة نقدية (حيث باع ما قيمته 292 مليون دولار من الأسهم في كوينبايس خلال إدراجها في سوق الأوراق المالية في نيسان/ أبريل 2021).
يحتفظ تشاو بجميع ثروته في شكل عملات رقمية مع بضعة آلاف من الدولارات نقدًا لدفع النفقات قريبة الأجل. ويتمثل كنز فرايد في الغالب في شكل أسهم في شركته الخاصة. ويُزعم أن هايز سحب 140 مليون دولار من بيت ميكس مع المؤسسين المشاركين، وفقًا للمستثمرين الأوائل في الشركة الذين رفعوا دعوى قضائية ضدها في سنة 2019 (تمت تسوية الدعوى خارج المحكمة في كانون الأول/ ديسمبر 2020).
من الصعب التكهن بالإرث الممكن لهؤلاء الأربعة. هل سيصبح واحد من رموز التمويل العالمي (مثل جيمي ديمون من جي بي مورغان تشيس)، أو سيغيرون طريقة حياتنا (مثل ستيف جوبز، الذي وضع الهاتف الذكي في أيدي الجميع) أو سيحدثون ثورة في علوم الصواريخ (مثل إيلون ماسك أو جيف بيزوس)، بمجرد مغادرتهم لهذا العالم؟
يشارك أرمسترونغ، أحد المعجبين بإيلون ماسك، أفكاره عن كثب فهو يدخر الجزء الأكبر من رأس ماله من أجل “المشاريع الضخمة مثل غزو الفضاء” أو “الأعمال الخيرية”. وتقول مصادر إنه مهتم بدراسات “طول العمر” وعلم الأحياء. ومثل رئيس شركة تسلا، يستمتع أرمسترونغ بالتعرف على المجالات التي لا يعرفها من خلال استطلاع آراء الخبراء. وقد اجتمع مؤخرًا مع مؤسسي واتساب لفهم كيفية “بناء منتج عالمي”.
لا يمتلك تشاو خططا كبيرة للتفاخر بإنفاق ثروته في تمويل مشاريع الفضاء أو لإنفاقها في الواقع بأي طريقة أخرى، حيث يقول: “أي شيء يزيد عن 100 مليون دولار لست بحاجة إليه”. وهو ينوي التبرع بالباقي للبحوث الطبية والجمعيات الخيرية. وقد يقدم فرايد على خطوة مشابهة. باعتباره نباتيًا، فهو يقدر قضايا مثل علاج أمراض المناطق المدارية، وتعزيز التأهب للأوبئة وتحسين رفاهية الحيوانات.
لكن المنافسة على العملات الرقمية لم تنته بعد. تمامًا مثل لاعبي النخبة في تكساس هولديم، لا يزال المؤسسون الأربعة حتى الآن يحتفظون بأهم أوراقهم ولن يقدموا على رهان كبير إلا عندما يبدو أن المكافأة تستحق المخاطرة. وللوصول إلى الجانب الآخر من طفرة العملات الرقمية دون خسارة ما لديهم، سيحتاجون إلى أكثر من مجرد العبقرية والانضباط. فالفوز بلعبة بوكر كاملة لا يتعلق غالبًا بالمهارة بقدر ما يتعلق بالحظ الدائم.
المصدر: ذي إيكونوميست
ترجمة وتحرير: نون بوست