سلام بالشوكولاتة.. عائلة دمشقية لاجئة تصنع قصة نجاح في كندا
سلام بالشوكولاتة.. عائلة دمشقية لاجئة تصنع قصة نجاح في كندا
برد قارس ينفذ إلى العظام، وثلج يُغطي الطرقات لأشهر، وينير الليالي الطويلة بلونه الأبيض الناصع. هذا هو العالم الذي كان ينتظر عائلة هدهد السورية التي وصلت كندا من لبنان، هربا من الشرق الأوسط المشتعل بالحروب، وهو العالم الذي يقدمه الفيلم الروائي الطويل “سلام بالشوكولاتة” (Peace by Chocolate) للمخرج الكندي “جوناثان كايزر”، ويحكي قصة حقيقية لعائلة سورية تعيش اليوم في كندا.
البرد في البلد ليس حكاية عابرة، بل يكاد أن يكون أحد شخصيات الفيلم التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى، لتذكرنا بالرحلة الجغرافية الهائلة التي قطعتها العائلة السورية، وقد كانت من المحظوظين لحصولها على فرصة الهجرة إلى كندا.
من المشهد الأول في الفيلم، يظهر بلقطة مقربة وجه ابن العائلة طارق وهو يرتدي سترة شتاء ثقيلة ويترجف من البرد، يؤسس العمل لمحيط جديد ستعيش فيه العائلة الدمشقية التي كانت قد تركت سوريا بسبب الحرب وانتقلت إلى لبنان، قبل أن تتهيأ لها فرصة الهجرة إلى كندا.
سيكون البرد أحد المستقبلين لطارق في المطار مع المرأتين الكنديتين اللتين كانتا في الأنظار لأخذه إلى بيته الكندي الأول في مدينة كندية صغيرة. يسأل طارق مستقبلتيه: “هل سيطول البرد طويلا؟”، فتردان عليه بعطف كبير بأن عليه أن يرتدي معطفا ثقيلا بدل الذي جاء به من الشرق الأوسط.
يختزل الفيلم تاريخ عائلة الهدهد بمشاهد سريعة تتضمن انتقالات زمنية تختصر سنوات ماضية في دقائق، ونعرف من تلك المشاهد أن والد العائلة عصام (المخرج والممثل الراحل حاتم علي)، كان يملك معملا للشوكولاتة في العاصمة السورية دمشق، وأنه كان متمسكا بالبقاء في سوريا إلى اللحظة التي وصلت فيها الحرب إلى بيتهم.
من المشاهد الافتتاحية الأخرى نطلع على حياة العائلة في لبنان، وطريق هجرتها البعيدة، والمشاق التي صادفتها وتعثرت بها، فرغم الموافقة على هجرة العائلة إلى كندا، فإن تأشيرة السفر الخاصة بها مرت بمشاكل، إذ تأخرت تأشيرة الأب والأم والبنت المتزوجة التي كان زوجها يعيش في سوريا ولم يصل بعد إلى لبنان.
سيصل طارق لوحده إلى كندا، وهو الأمر الذي يمنحه بعض الوقت للعمل على مشروعه الخاص، ذلك أنه يريد إكمال دراسة الطب التي بدأها في سوريا وتعثرت بسبب الحرب، كما أن عليه أن يرتب الحياة لوالديه وأخته، بينما ينتظرهم لبدء حياتهم في البلد الجديد.
تتفجر الدراما في الفيلم فور وصول الوالدين، فهم سيذكرون الابن بالماضي الذي ما زال صعبا ومعقدا، ذلك أنهم يحملون هَمّ البنت الباقية في لبنان، فقد تأخر إذن سفرها مرة أخرى، كما أن وجودهم إلى جانب ابنهم سيسرع في تصادمهم معه، بسبب اختلاف الرؤى حول المستقبل.
تتفرع قصة الفيلم لخطوط تتقاطع دوريا، أهمها اثنان أساسيان، الأول للابن الذي يحاول أن يجدّ بالدراسة، وقد تشترط منه ترك العائلة لوحدها في المدينة الصغيرة التي تعيش فيها، وهناك الخط الآخر عن الأب الذي يريد أن يواصل عمله كصانع للشوكولاتة في كندا، رغم صعوبة ذلك بدون موارد مادية لا تمتلكها العائلة.
يتقاطع الخطان الدراميان في الفيلم ليشكلا معا خيوط الحكاية في الفيلم، وتأخذ عناوين متعددة، مثل تصادم الأجيال المختلفة، والولاء والفردية في العائلة العربية، وثقل التكاتف العائلي النفسي.
في خط القصة الخاص بالأب يختار الفيلم الكوميديا لإعادة تجسيد طريق الأب للنجاح، فهو لا يتحدث الإنجليزية، وسيبدأ من مدينة غريبة يجهل لغتها وقوانينها، لكن رحلته ستقوده إلى امتلاك معمل كبير للشوكولاتة (موجود فعليا في كندا اليوم). سيحصل الأب على عداوة صاحبة محل الشوكولاتة الوحيد في المدينة، لكنه سيتلقى في المقابل تعاطف ومساعدة جار كندي اسمه “فرانك”، وسيتحول مع الزمن إلى أعز أصدقائه.
في مطبخ بيت عائلة هدهد يبدأ الأب بصناعة الشوكولاتة التي سيبيعها في تجمعات المدينة الصغيرة مثل الكنيسة، ويرفض الأب في مشهد طويل أن يأخذ قرضا من البنك للبدء بمعمل صغير، وذلك لأن فائدة البنوك هي ضد الدين الإسلامي الذي يؤمن به، وهو المشهد الذي نُفِّذ بطريقة تخللها كثير من الكوميديا المحببة، إذ أن المدير لم يسمع من قبل بشخص يرفض قرضا بسبب موقف دينه من الفائدة التي تفرضها البنوك.
تُحل المشكلة بتكاتف أصدقاء كنديين للعائلة، إذ جمعوا مبلغا كافيا للبدء بمعمل صغير سيوضع في حديقة العائلة السورية، بيد أن هذا لا يعني نهاية المشاكل على الإطلاق، ذلك أن منافِسة العائلة الكندية ستبلغ السلطات المختصة عن عدم امتلاك عصام للتراخيص القانونية المشددة للبدء في مشروع يتناول صناعة الطعام في كندا، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى مشاكل كبيرة للعائلة السورية.
على الخط الآخر يواجه الابن طارق صعوبات جمة للحصول على فرصة لدراسة الطب، كما أنه سيتقاطع مع والده الذي كان ينتظر منه أن يكون بجانبه في مشروع معمل الشوكولاتة الذي بدأه للتو.
تقطع نزاعات العائلة كارثة تلم بها، ذلك أن زوج بنت العائلة يقتل في سوريا في الحرب الدائرة هناك، بينما لا تزال زوجته مع ابنتها تنتظر تأشيرة السفر.
يهتم الفيلم كثيرا بتعزيز الخطين الأساسيين فيه بكثير من التفاصيل الحميمية المؤثرة، ومنها مشاهد تظهر تعلق طارق بدراسة الطب التي يتمنى أن يُكملها، كالمشهد الذي يصوره وهو ينظر بحنان ولوعة كبيرتين لمستشفى المدينة التي يعيش فيها، أو المشاهد التي تظهر خوفه من فتح مغلفات الرسائل الآتية من الجامعات التي يراسلها، خوفا من رفض محتمل.
وبينما يحاول طارق الخروج من بوتقة العائلة والمدينة الكندية الصغيرة والاتجاه صوب المستقبل الذي ينتظره في جامعات المدن الكبيرة؛ تتجذر حياة الأب وزوجته في محيطه، إذ يحيطه جيرانه وبالخصوص صديقه الكندي “فرانك” بالحب الكبير.
“نحن من نفس العمر”، يصرخ “فرانك” بابتهاج عندما يرى في جواز سفر عصام بأنهما ولدا في نفس العام. سيكون “فرانك” عونا كبيرا لعصام، وسيقف ضد بعض أبناء مدينته مع الغريب السوري، فالعرق ليس له أهمية لدى “فرانك”، والمهم هو الوقوف مع صديق في محنته.
ليس الأب عصام شخصية هيّنة، بل هو عنيد جدا ويُصعّب الأمور كثيرا على الذين يريدون مساعدته، فإلى جانب رفضه لقرض البنك، يرفض أيضا عرض شراكة من صاحب محلات بقالة تتوزع في كندا كلها، لأنه لا يريد أن يرهن قراره في شراكة ما، ويفضل أن يأخذ خطوات بطيئة لكن محكمة.
أما طارق فحياته ستمرّ بتغييرات مهمة، فماضيه الشخصي والعام في سوريا، ووقوفه بالمنتصف تقريبا بين المجتمع الكندي الجديد وعائلته التي لا تزال تعيش نفس قيمها الشرقية؛ كل هذا سيدفعه بالتفكير بحياته وحياة السوريين المغتربين، وسيطور وجهة نظر خاصة ستثير إعجاب الكنديين بعد أن ألقى كلمة بالصدفة في تجمع عام، ليتحول بعدها إلى متحدث مناسبات عامة، وهو الأمر الذي لا تزال تمارسه الشخصية الرئيسية حتى اليوم.
وعلى الرغم من المحطات المؤلمة التي تمر بها العائلة، فإن الفيلم نفسه يحفل بكوميديا محببة تقوم على المواقف الإنسانية التي يسهل التعرف عليها، مثل المشاهد المتعددة التي تبين تعامل عائلة هدهد مع قسوة البرد في المدينة التي تعيش فيها، وتلك التي تقوم على جهل الأب والأم باللغة الإنجليزية، وكيف استغل طارق هذا الأمر لإخفاء بعض الحقائق عنهم من أجل حمايتهم من صدمات أو أخبار سيئة.
تدين العائلة.. لون من ألوان الهوية العفوية في المهجر
يقدم الفيلم تدين العائلة بدون تعقيد أو مقدمات، بل يبدو طبيعيا وجزءا من هوية العائلة وشخصيتها، فهناك مشاهد لصلاة طارق مع أبيه، وأخرى للأب يصلي في كنيسة المدينة عندما كان يبيع بضاعته من الشوكولاتة، ومشهد آخر للعائلة جميعا وهي تصلي في بيتها، وبعد وصول البنت من لبنان بدون زوجها الذي قتل في الحرب في سوريا.
لم يحظ الفيلم بفرص عرض كبيرة عند عرضه في العام الماضي (2021)، ولم يصل إلى الجمهور العربي المهتم رغم المستوى المتقن للفيلم، والذي ينسج قصة متينة ومعبرة عن حياة عائلة سورية تجد نفسها مضطرة للبدء من جديد في بيئة لا تعرف عنها شيئا، ثم تحقق بعدها نجاحات كبيرة على مستوى كندا، ويصل تأثيرها بعد ذلك إلى دول عدة أيضا.
وإذا كانت النيات الطيبة قد غلبت أحيانا على الفيلم، وحوّلته في مواضع إلى فيلم ترويجي عن اللاجئين في الدول الجديدة، فإنه كان يعود كل مرة إلى تعقيد الحياة الفعلية لعائلة عادية وجدت نفسها في مهب عواصف التغييرات الكبيرة للحياة من حولهم.
تضيف القصة الحقيقية التي يستند عليها الفيلم ثقلا نفسيا على العمل الفني، كما تقربه في مواقع عدة من الوجع الذي يعيشه السوريون منذ بدء الثورة والحرب هناك.
يوظف المخرج العلاقة بين الفيلم والقصة التي يستند عليها، فيعرض أحيانا مشاهد حقيقية من الإعلام ويوظفها في سياقات الفيلم، كالمشهد الذي يظهر رئيس الوزراء الكندي “جاستن ترودو” وهو يذكر قصة عائلة هدهد كنموذج للعائلة اللاجئة الناجحة، وردا على أصوات يمينية ترى في المهاجرين خطرا.
كما يظهر الفيلم في نهايته مشاهد من نجاحات الشركة السورية، وكيف وصلت إلى الفضاء، إذ أخذ رجل فضاء كندي شوكولاتة من معمل العائلة في رحلته إلى الفضاء.
يحفل الفيلم بالشخصيات الثانوية التي لعب أدوارها بجودة ممثلون عرب وأجانب، كشخصية الطبيب اللبناني الذي يعيش في كندا، فقد تفاعل بطريقته المرحة غير التقليدية مع طارق، وشخصية “فرانك” الذي صادق عصام، ومرَّ هو الآخر بتحديات نفسية كبيرة، ووقف إلى جانب صديقه السوري، أحيانا ضد أبناء مدينته الصغيرة.
فيلم “سلام بالشوكولاتة” هو الأخير للمخرج والممثل السوري حاتم علي الذي مثّل دور الأب، لكنه لم يشهد عرض الفيلم، إذ توفي قبل عرضه، وعلى الرغم من الموهبة والتركة الكبيرة التي تركها حاتم علي، وبالخصوص في عمله في إخراج الأعمال التلفزيونية، فإن دوره في فيلم “سلام بالشوكولاتة” كان الأضعف في الفيلم.
بدا حاتم علي بسحنته المثقفة النخبوية غير منسجما أبدا مع دور الأب، رغم الجهد الذي لعبه الممثل الراحل، وبقيت المسافة كبيرة بين الشخصية بأبعادها الاجتماعية والنفسية وبين الممثل المخرج المعروف.
وعلى خلاف حاتم علي، كان أداء الممثل أيهم أبو عمار لدور طارق أكثر نضجا وتعقيدا، كما نقل بحرفية كبيرة الصراع النفسي للابن، وتردده بين الولاء للعائلة والحلم الشخصي.
وتفوق الممثل أبو عمار في مشاهد الخطب العامة التي تستلزم بطبيعتها جهدا مضاعفا، فقد خاطب الممثل الكاميرا من القلب، ونقل الألم الشخصي والعام للعائلة والسوريين بشكل عام، وحياتهم التي تتأرجح بين الأفراح والأحزان.
الجزيرة الوثائقية