“زياتون على مدّ النظر”، بهذا الوصف يمكن الحديث عن علاقة تونس بالشجرة المباركة التي تغطي أكثر من ثلث أراضيها الزراعية متجاوزة التسعين مليون شجرة، تجدها في كل المناطق وحتى في مدن بوابات الصحراء في أقصى جنوب تونس.
الشجرة الأقدم
في محافظة تطاوين جنوب شرقي تونس يفاخر أبناء منطقة “العكاريت” بأن لديهم أكبر شجرة زيتون يفوق عمرها 900 سنة، وما زال إنتاجها وفيراً يفوق ألف لتر من الزيت في كل موسم، ولهذه الشجرة مكانة كبيرة في المنطقة، وتعتبر مثالاً على مكانة الزيتونة في تونس.
تقول الإعلامية وفاء دعاس إن أعمار كثير من أشجار الزيتون بعديد من المناطق في تونس تُحسب بعشرات ومئات السنين، وهناك أشجار صار لها بطول المدة حكايات تجمع بين الأسطورة والخرافة، وربطها بمفهوم البركة والقدسية.
تنوع عجيب
أشجار الزيتون ذات النوعيات المختلفة تغطي مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في تونس، وتمتد من أعلى الجبال إلى المناطق الساحلية وصولاً إلى المناطق المتاخمة لحدود الصحراء، ولكل منطقة نوعية زيت تختلف بنكهتها وطبيعتها عن الأخرى، مما أوجد عادات وتقاليد في استعماله تختلف بحسب النوعية.
أحلام القاسمي، المشرفة على ورشة احتضنتها “دار شاذلية” أحد المعالم التاريخية وسط المدينة العتيقة بتونس العاصمة حول الزيتونة وزيت الزيتون، وصفت تنوّع وثراء الزيتونة في تونس بـ”الهبة الإلهية”، من حيث نوعيات الأشجار والزيت المختلف في النكهة والطعم من منطقة إلى أخرى.
تقول القاسمي، “هذا الاختلاف والتنوّع أعطياه ميزات. وزيت الزيتون في منطقتي الساحل وصفاقس اللتين تعدان من كبار المنتجين له من النوعية الخفيفة الصالحة للاستعمال في الطبخ، وهي عادة متأصلة في كل العائلات التونسية التي لا تستعمل السمن. بينما يعتبر زيت الشمال ذي النكهة القوية مكملاً غذائياً أساسياً، ويؤكل نيئاً”.
ويصف الطاهر عبد الرحمن، صاحب معصرة زيت في مدينة تبرسق بمحافظة باجة شمال غربي تونس، هذه النوعية الممتازة من الزيوت بأنها تستعمل لعلاج عدد من الأمراض، بسبب ارتفاع نسبة المواد المضادة للأكسدة فيها والطلب العالمي الكبير عليها، على الرغم من محدودية إنتاج هذه النوعية من الزيت المُستخرج من أشجار تسمّى بـ”الشعلالي” و”الجربوعي”، ويؤثر في إنتاجها طبيعة الارتفاع عن سطح البحر، ونسبة الرطوبة في المناطق الجبلية.
وأضاف عبد الرحمن، في تصريح خاص، أن نوعيات زيت الزيتون المختلفة التي بمجملها من النوعيات الممتازة “دفعت إلى رفع صادرات تونس لمستويات قياسية باتجاه مختلف دول العالم، بخاصة الزيت البيولوجي، الذي تحوّل إلى نوعية إنتاج تونسي مميز في العالم”.
الزيتونة والأساطير
في منطقة الساحل التونسي، التي تعتبر واحدة من كبرى المناطق المنتجة لزيت الزيتون تتداخل الحكايات بين الواقع والأسطورة في علاقة أبناء المنطقة بشجرة الزيتون، إذ يحتفل أهل المنطقة في الفترة الممتدة من نهاية يوليو (تموز) إلى بداية سبتمبر (أيلول) بالتقويم الأمازيغي التي تعرف باسم “أوسو” موسم البحر. وترتبط تلك الفترة بحسب عادات أهل المنطقة بتناول كميات كبيرة من زيت الزيتون، كما أنهم يدهنون أجساد المواليد الجدد والأطفال بالزيت سبعة أيام.
هذه الأسطورة تركت أثرها في الموروث الشعبي، الذي يقول نبيل بلفقيه عنها “من عمق تاريخ المنطقة ترتبط هذه الفترة من الصيف بالبحر، ويكون قبلة أبناء المنطقة، واستهلاك زيت الزيتون بشكل كبير، ويدخل في صناعة الخبز، وكل المأكولات التي تطبخ في تلك الفترة من السنة، ويعرف الجميع مقولة (زيتك لا تدسه) أي لا تخبئه، وهو مثل شعبي يتناقلونه جيلاً بعد جيل”.
ذهب تونس الأصفر
تونس من الخمسة الكبار في العالم في إنتاج زيت الزيتون. وبحسب وزارة الزراعة فإن إنتاجها لموسم 2021 و2022 يُتوقع أن يصل إلى 240 ألف طن، كما أن وفرة الإنتاج والنوعية الممتازة للزيت جعلتاه يتصدّر قائمة المنتج الأفضل، بخاصة الزيت البيولوجي، الذي ينال حصة كبيرة من السوق الأوروبية.
يقول الطاهر عبد الرحمن إن شجرة الزيتون في تونس تحولت إلى أكثر من منتج زراعي، بتقاليد وثقافة مجتمعية في كل المناطق، فموسم جني الزيتون يتحوّل إلى مناسبة تلتقي بها العائلات، ويحفل بأغانٍ ومواويل من التراث الشعبي أثناء عملية الجني، ثم نقل الزيتون للمعاصر يشهد احتفالية فيها الكثير من المودة والحب، وهذه العادات تأصلت عبر مئات السنين، لتجعل ارتباط الإنسان بشجرة الزيتون ارتباطاً روحياً وثقافياً واجتماعياً عميقاً.
ليست زيتاً فقط
حول شجرة الزيتون تجمعت كثير من المهن، وفتح استغلال خشب أغصانها فرص عمل للشباب، إذ تُصنع منه أدوات المطبخ من الملاعق والصحون والأواني التي تلقى رواجاً في دول جنوب أوروبا. يقول التاجر بسام رشدي، المقيم في إسبانيا، إنه يأتي إلى تونس بشاحنته، ويشتري كميات كبيرة من هاته الصناعات التي أصبحت تنتشر بشكل كبير في البيوت وحتى المطاعم في أوروبا، وتعوض المنتجات المصنعة من المعادن.
كما تحوّلت صناعة تعليب عجين الزيتون المخلط بالأعشاب العطرية إلى بوابة تصدير مهمة للأسواق العالمية. تقول أحلام القاسمي إن هذه الصناعات التي تنتج في وحدات صغيرة وبأساليب تقليدية أسهمت بشكل كبير في إيجاد فرص عمل عائلية، ونالت إعجاب المستهلكين في دول ليس لها تقاليد أو معرفة بالزيتون والزيت.
المصدر: اندبندنت عربية